قراءات

"بلاد الثلاثاء".. عن بلادٍ تحدث فيها الحروب

مها حسن

15 مارس 2020
يفتتح خالد الناصري كتابه بإهدائه إلى ولديه آدم وسيريا، اللذين أنجبهما (خارج بلاد الثلاثاء)، وكأنه بهذا الإهداء، يؤكد على أمرين معاً: خروجه من شخصية الطفل، عبر تحوّله إلى أب، وخروجه من تلك البلاد، التي يدعوها ببلاد الثلاثاء.

لكن خالد الناصري، الشاعر الطفل، سيتفوّق على الأب العاقل، وسينفلت الطفل الهارب من (بلاد الثلاثاء)، ليكشف للقراء عن الوجه المخفي للأب العاقل، والذي لا يزال يعيش هناك، عاجزاً عن ترك طفولته، التي نشأ معها شعره، منذ ولادته، في يوم الثلاثاء.
يبدو انكسار الأطفال واضحاً منذ الجملة الأولى في الكتاب: (عندي في ذمة الله قتلى كثيرون)، وعبر هذه العبارة نشعر بوجع خالد الطفل يعاتب الله بحبّ، هذا العتاب البريء، الذي يذكّرنا نحن السوريين على الأخص، بعبارة الطفل السوري الذي قال إنه حين سيذهب إلى الله، سيخبره بكل شيء، ويُذكّر غير السوريين، برسائل يكتبها الأطفال إلى بابا نويل، يطالبونه فيها بالتخفيف عن ألم العالم.
في هذه العبارة: (عندي في ذمة الله قتلى كثيرون)، العبارة التي تقع بين الإهداء ونصوص الكتاب، كأنها حاجز غير مرئي، أيضاً يتخفّى الشاعر بين الكلمات الستّ التي تشكّلها، وتحمل حجم الألم الذي يرفض كبرياء الطفل المُجبر على الذهاب إلى النضج، واتّباع سلوك الكبار، على الاعتراف به، بهذا الألم.
شيء ما يجعل أحدنا يشعر بأن الكتاب، هو صرخة طفل لم ينجح في التعبير عن احتجاجه، فيأتي إلى الكتابة، ليخلّص ثأره من عالم الكبار المليء بمنطق غير مقبول، منطق قائم على الحروب والعنف والدم.
من تلك العبارة الممهّدة للنصوص التالية، يمكننا الانطلاق في القراءة، حيث يتكوّر النص على ذاته، بطريقة لا تسمح لنا برؤية جسده كاملاً، إذ يفاجئك الشاعر في الصفحة 35 بعنوان: الفصل الثاني. أعود إلى الكتاب، باحثة عن الفصل الأول، فلا أراه.. هكذا يلعب الناصري لعبة الشعر، متحرراً من أي منطق، نسفته الحرب، وحولت رد الفعل وبقاياه إلى معادل لوجود الإنسان، حين يختفي أحدهم مثلاً، تظل مفاتيحه المعلّقة على الباب، تحدث الخشخشة ذاتها، كأن صاحبها لم يمت.

يخلق الناصري حضوراً بديلاً لشخوصه، الذين يموتون، دون أن تموت أفعالهم، دون أن يتشكّى من الموت، أو يؤلمنا به، بل يبدو وكأنه يتماهى مع المتصوفة في الحلول السعيد مع الموت، كما يمكن الاستمتاع بنصّ "المرجومة" المُهدى إلى سكينة أشتياني: "وهم يطمرون نصفي الأسفل في الحفرة، تذكرتك، يا حبيبي، لأن رطوبة التراب، ذكّرتني بك حين الشهوة تحولت بفعل كلامك الحنون إلى بلل بين ساقي".
بعد إحدى عشرة سنة من صدور مجموعته الأولى في سورية، يصدر كتاب خالد الشعري اليوم محمّلاً بروائح الجثث وغاز السارين وخوف الغرق، ليحدثنا عن بلاد الثلاثاء، البلاد التي تحدث فيها الحروب، وتفوح من شعور أبنائها رائحة البارود، وتسمع أصوات الرصاص من طقطقة أصابعهم، (نحن الذين جئنا من بلاد، تحدث فيها الحروب كل ثلاثاء. تفوح من شعرنا رائحة البارود، وإذا طقطقنا أصابعنا نسمع صوت رصاص..)، الصفحة 9 من الكتاب.




الشعر هو الطفل العالق هناك، في بلد الولادة
في فجر الثلاثاء، في الساعة الرابعة إلا ربعاً، ولد الشاعر خالد الناصري، ليحيا أسير حكايات يوم الثلاثاء. ولد خالد شاعراً منذ اللحظات الأولى، أي أن الشعر يأتي مع الولادة، كجزء من تكوين المرء، هكذا يؤمن الشاعر، ليخبرنا بحكايته مع الشعر:
(في ليلة من ليالي الخريف، بعد ولادتي طبعاً، كنتُ عارياً أبكي. أمي اعتقدت بأني أبكي من البرد، فغطّتني بملاءات بيض، كما يُغطّى العيب.
وأنا الذي لا يستطيع النطق حينها، واصلت البكاء مُعتقداً أن أمي ستفهم أن هناك في الغرفة زهرات بيضاء تنمو، وبحاجة لمن يسقيها)، الصفحة 29 من الكتاب.

يواصل الناصري كلامه عن الزهرات البيضاء التي تحتاج إلى سقاية، ويشرح لبودلير، في هذه القصيدة التي تحمل عنوان "على قبر بودلير"، مأزق الشاعر ـ الطفل، في التعبير الذي يخونه، حتى بعد ثلاثين عاماً على مرور تلك الحادثة - الولادة، ليتابع تعريف الشعر للقارئ ولبودلير معاً:
(يُخلق الشاعر في الطفولة، قبل أن يستطيع النطق)، الصفحة ذاتها.
ثم ينفجر الطفل من داخل الشاعر، على قبر بودلير، لينبعث ذلك الشاعر الصغير العالق في غرفة الولادة في يوم الثلاثاء، ليطالب بحقّه في البكاء:
(اسمحوا لي، مستعيداً طفولتي، أن أواصل البكاء، علّي أصبح شاعراً)، الصفحة 30 من الكتاب.
وبهذا يقدّم الشاعر، تعريفاً آخر للشعر، وكأن الشعر هو العجز عن التعبير، والهروب في البكاء.
أذكر أن صديقة سينمائية قالت لي إنها حين غادرت قاعة السينما بعد مشاهدتها لأحد الأفلام، توقفت عن الكلام، وراحت تبكي في الشارع، غير قادرة عن العثور على الكلمات.
هكذا يعرّف لنا الناصري الشعر: هو مواصلة البكاء!



العلاقة الدائمة مع الموتى
(سأكتب عن الموتى حتى يتسع الضوء)- بهذه الجملة يمهّد الناصري لفصله الثاني، المعنون بيوميات رجل خلف النافذة، لتتوالى الكتابة عن الموتى: حمزة الخطيب، إبراهيم القاشوش، موتى آخرون نسي الموت أن يخبرنا بأسمائهم، من كثرتهم، موتى يسقطون في جميع الزوايا والشوارع والأحياء:

(في بيت على كتف النهر

جلست عائلة عند المساء

في النهر مرّ دمٌ، لم يصبح ماء بعد

العائلة عرفت أن الدم لابنها

من صوت الموسيقا المنبعث منه)، الصفحة 48 من الكتاب.

ثم:

(في شارع آخر

أرسل ابن الجيران من نافذة غرفته

قبلة لبنت الجيران الواقفة على نافذتها المقابلة

أصابها القنّاص)..

هكذا تتوالى حكايات الموتى، في شوارع تشهد على الجثث والأشلاء والدم.

في القصيدة التي حملت عنوان (بلاد الثلاثاء احتمالات لسقوط قذيفة) كلام مرعب عن الحرب، سوف تتلوه مفردات تقشعر لها الأبدان، كقصيدة (سارين) التي تتحدث عن مجزرة الكيماوي في خان شيخون، ليخرج الشاعر عن سياق الشعر، ويتوقف في منتصف الكلام، ليحكي بطريقة سردية عما كان يفعل قبل رؤيته لفيديوهات المجزرة: (كان في يدي كتاب (موجز تاريخ الجنون ـ روي بورترـ ترجمة ناصر مصطفى)، وكنت أقرأ في الصفحة 21 النص التالي " ...")، بعد أن يدوّن الفقرات من النص الذي كان يقرأه، ويتوقف عن القراءة لانشغاله بالمجزرة، يعود في اليوم التالي، ليجد أنه دوّن على الكتاب كلاما يشبه ما رآه في الفيديوهات. فيتساءل من جديد:

(هل غاز السارين هو الشيطان ميغتو؟

هل كان الضحايا واعين لحظة التلبّس؟

هل سننجو، ويدُ مدّرسة الكيمياء ترتجف، وما ظنناه قمراً كان خوذة جندي بلسان مقلوب؟)، الصفحة 79 من الكتاب.

يتابع خالد الكتابة عن المجزرة، ليخصص الفصل الثالث من كتابه لها ليرد عنوان الفصل حاملاً مفردة المجزرة: (نصوص على هامش المجزرة)، وفيه يكتب خالد عن شخوصه الحميميين من أصدقاء وأهل وضحايا مؤثرين فيه، كسكينة أشتياني، المرجومة حتى الموت.
يبدو الموت في الكتاب، وكأنه يُحكم قبضته على حنجرة الشاعر وكلماته، وكأنه في هروب أبدي، من بلاد الثلاثاء، التي تحدث فيها الحروب، ولا يتوقف فيها الموت عن الحدوث والتكرار.. وهكذا يبدو أن خالد الطفل، لم ينجُ من تلك البلاد، لكنه أنقذ الشاعر فيه، عبر نشر هذا الكتاب.
هناك الكثير من الألم والحزن والطفولة في ديوان صغير بمائة وسبع صفحات فقط، صدر عن دار المدى في العام الحالي 2020، وخالد الناصري، إضافة لكونه شاعرا، هو مصمم أغلفة ومخرج سينمائي ومؤسس (منشورات المتوسط) في إيطاليا.

(فرنسا)

كلمات مفتاحية

شعر الموت القهر الإنساني الثورة السورية الشعر الشاعر