عروض

المسرح الغنائي العربي.. مسرحيات المُعلِّم داود قسطنطين الخوري

أنور محمد

9 يونيو 2020
المسرحُ العربي بدأَ مع الغناء؛ إنْ معَ مارون النقَّاش، أو معَ أبي خليل القباني، الذي كان مؤلِّفًا وممثِّلًا وموسيقيًا وشاعرًا ومُخرجًا. لكنَّه لم يكنْ ذاكَ المسرح الموسيقي الغنائي- والغنائي الفاجعي التراجيدي. بقيَ مسرحًا من جسد وصوت على خشبة، مع جمهورٍ جاء ليتفرَّج ويستمتع إِنْ لم يكن لـ(يتوعَّى)، وهذا (الوعي) الذي يُقشِّر جلد الطاعة لأولي الأمر السياسي والديني – وكلاء الله الحصريين على الأرض؛ هو ما أثارَ وهيَّجَ بذرة الاستبداد عند فقهاء السلاطين والولاة، فأحرقوا مسرح أبي خليل القباني. اشتغل مع القباني داود قسطنطين الخوري، المسرحي الرائد، الذي غُيِّبَ، أو عَمِيَ عنه الناقد والمؤرِّخ والمُخرج والباحث.
وللخوري حقٌّ، كمسرحي له فضل الريادة والتأسيس مع أستاذه أبي خليل القباني للمسرح العربي - والمسرح الغنائي خاصةً. ولَوْلَا جُهد د.شاكر مصطفى (1921 ـ 1997)، المُفكِّر والمُؤرِّخ والأديب والباحث السوري، الذي لُقَّب بأديب المؤرِّخين ومؤرِّخ الأدباء، وكان قنصلًا عامًا في سان باولو بالبرازيل سنة 1961 حتى سنة 1963، لضاعَ تراث هذا الكاتب المسرحي السوري من أصلٍ يوناني داود قسطنطين الخوري، الذي هاجر إلى البرازيل عام 1926، وحَمَلَ معه مسرحياته وأشعاره، فتعرَّف د.شاكر مصطفى على أبنائه، واطَّلع على مخطوطاته، فقام بجمعها، وصدرت عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في دمشق 1964، بعنوان " تراث داود قسطنطين الخوري". وقد كَتَبَ مقدِّمة لها جاء فيها: "ثمَّ وجدتني صدفةً في سان باولو أقعُ من حيثُ لا أحتسبُ، وحيثُ لا أنتظرُ، على بعضِ حلمي القديم. لقد عثرتُ هناكَ على تراث المُعلِّم "داوود الخوري". وإنِّي لأنحني هَا هُنا احترامًا وشكرًا لذلك التجاوب الطيب الذي قابلتني به أسرةُ هذا المُعلِّم في ذلك المهجر البعيد حين رغبتُ إليها في نشر تراثه".
الباحثُ المسرحي والموسيقي، محمد بري العواني، حقق وصحح ودرس مسرحياته التي جاءت
في كتاب د.شاكر مصطفى، وصدرت مؤخرًا 2019 عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان: (المسرح الغنائي العربي.. مسرحيات المعلِّم داود قسطنطين الخوري) في 419 صفحة، وهي خمس مسرحيات: "مثالُ العفاف في رواية الأميرة جنفياف"، و"الصدف المدهشة"، و"اليتيمة المسكوبية"، و"عمر بن الخطاب والعجوز"، و"الابن الضال". فيما فُقِدَتْ ثلاث مسرحيات: "جابر عثرات الكرام"، و"السامري الشفيق"، و"العُشر العذارى". وله مسرحيتان كتبهما بالاشتراك مع زميله في مهنة التعليم، المُعلِّم يوسف شاهين، هما: "يهوديت"، و"سميراميس"، والذي لولا التفاتته هذه، فذكَّرنا به، لتمادينا في نسيانه. حيث يرى الباحث المسرحي محمد بري العواني في دراسته، التي نعرض بعضًا ممَّا جاء فيها؛ أنَّ المُعلِّم داود قسطنطين الخوري في مسرحياته مؤلِّفًا اعتمد على الاقتباس في ثلاث مسرحيات، لكنَّه عمل على تبيئتها عربيًا عن طريق لغة الشخصيات، وعن طريق الشعر والتراتيل والترانيم الدينية التي ألَّفها بنفسه، وقد حُمِّلَت بشحناتٍ روحيةٍ عربية. فيما شخصياته المُقتبسة تبدو شخصيات المعلِّم الخوري جميعًا؛ شخصيات نمطية بسيطة ذات هدف، أو غرض، واحد. وهي على الدوام مُدجَّجة بالانفعالات المُبالغ فيها، والتي تقوم نفسيًا وعاطفيًا على الإرشاد والوعظ، أو على الإمعان في الشرِّ الأخلاقي الذي يحاربه المؤلِّف بكل طاقاته الوعظية. وعليه، كما يقول الباحث محمد العواني؛ فإنَّ شخصيات الخوري الرئيسة المُوجبة هي شخصياتٌ نموذجية؛ فالمرأة لديه عفيفةٌ وطاهرةٌ ووفيةٌ ومخلصة، وتقاوم كل الإغراءات، وتصبر على مصائبها. أمَّا الشخصيات السالبة – الفاسدة لديه، فهي تلك التي تطمعُ في أعراض الناس وأموالهم وممتلكاتهم، وتمتاز بالجشع، والغدر، والحسد. أما الصراع الدرامي فيظهر في مسرحيات الخوري صراعًا بسيطًا مُعبِّرًا عن هدف الشخصية الوحيد الذي تسعى
إليه لتحقيقه، ولهذا فهو صراعٌ لفظي في أَعمِّه الأغلب، غير أنَّه كثيرًا ما ينوء بالعظات الأخلاقية التي يتم استمدادها من الكتاب المقدَّس، ومن بعض آيات القرآن الكريم، ومن سرد الحكايات الدينية. وعن اللغة والحوار والموسيقا والغناء في مسرحيات المعلِّم داود الخوري، فهي تنحو، كما يرى الباحث العواني؛ نحو التركيب اللغوي المسجوع غالبًا، لأنَّه إحدى الظواهر التي كانت سائدة آنذاك، وعليه فإنَّ المتتبِّع لمسرحيات الخوري يلاحظ سيطرة النغمة الغنائية الميلودرامية الأسيانية على الدوام في مسرحياته، من خلال جريان الأحداث، ولغة الحوار، والأشعار، والتراتيل، والترانيم. وإنَّ ما أنجزه الخوري من غناءٍ في مسرحياته إذا ما قيس بما أنجزه أستاذه أبو خليل القباني، فإنَّه يُعدُّ ضئيلًا جدًا. ولهذا فقد بدا غالبًا الكثير من التَجَّهُم في مسرحيات الخوري بسبب سيطرة الأوزان الشعرية الطويلة والنغمة الأحادية. على أنَّ من أهم ما يُسجَّل للخوري في هذا المضمار هو التفاته المُبكِّر إلى أغنيات الأطفال في المسرح، انطلاقًا من إدراكه أهمية الدور التربوي للموسيقا والغناء في التوعية والتنشيط الجسدي والعقلي والروحي، ولا سيما حين تكون اللعبة جماعية. ومن خلال دراسة الباحث محمد بري العواني؛ فإنَّ مسرح المعلِّم داود قسطنطين الخوري هو مسرحٌ غنائي بطبيعته ووظيفته، ولهذا نراه يستعمل التراتيل والترانيم الكنسية والدنيوية، لكونها بنت الطقس الديني المقدَّس وفاعليتها أقوى من الأغنيات الدنيوية، لما تتضمَّنه الترانيمُ من تأثير بقيمها الدينية والأخلاقية والاجتماعية، كما أنَّها تعتمد في شكلها الشعري البسيط على الأوزان العروضية الخفيفة التي تشبه بنية القدود بوصفها أغنيات خفيفة، ويمكن الترنُّم بها بلا أدنى مشقة. كما إنَّ مسرحيات المعلِّم داود الخوري تنبثق من اتجاهه نحو الواقع ومعالجة مشكلاته وعلاقاته الاجتماعية المتخلِّفة والمُختلفة، وهذا، كما يعتبر الباحث محمد
العواني، نابعٌ من تأثره بأستاذه أبو خليل القباني، الذي كان أكثر تنويرية من غيره في عصره، حين طرح حقَّ المرأة والرجل والحب والعشق وحرية اختيار الشريك على قاعدة التساوي بين الجنسين. كما يلاحظ في تراثه الشعري قصائد وأغنيات وأناشيد تُمجِّد العرب واللغة العربية، ولاسيما تمجيده لسورية العربية الطبيعية، رغم أصوله الأوروبية كيوناني.
في السيرة الذاتية للمعلِّم داود قسطنطين الخوري (1860 ـ 1939)، فهو من أعلام مدينة حمص في الكنيسة والأدب والقصة والشعر والمسرح. وُلِدَ فيها بمحلة بستان الديوان في حمص القديمة 1860، والده الأديب والشاعر الحمصي قسطنطين الخوري، من وجهاء وأراخنة أبرشية حمص، والدته السيدة زهراء لوقا، وككل البيوت الحمصية والعائلات الأرثوذكسية، مُنتَمٍ إلى الكنيسة، وممارسٌ لطقوسها، سواءً في البيت، وكذلك في الكنيسة، صحبة والديه. تلقّى في حمص علومه الأوليّة مبكِّرًا في كُتَّابٍ من الكتاتيب، حيث لم تكن بعد مطرانية حمص قد أحدثت المدارس الغسانية الأرثوذكسية الشهيرة (أحدثها مثلَّث الرحمات مطران حمص إثناسيوس عطا الله في منتصف العقد الثامن من القرن 19)، كما أخذ عن والده اللغة العربية وآدابها، وكذلك علَّمه والده اللغة التركية، وَأَلمَّ باليونانية عن أستاذ يوناني زائر لمدينة حمص. عملَ في بداية عهده موظَّفًا في الدوائر الحكومية، ثمَّ أُستاذًا للرياضيات والفــن والموسيقى في المدارس الأرثوذكسية في حمص عام 1888، ومُدرِّسًا للغة العربية والتاريخ والموسيقى الكنسية والشرقية في المدرسة الأرثوذكسية بحمص (1888)، إلى أن دخلت تركيا الحرب فأغلقت المدرسة من 1914 وحتى 1918، كما انقطع عن التحرير في جريدة حمص، التي توقفت عن الصدور بسبب الحرب أيضًا، ومن ثمَّ هاجر مع أسرته إلى البرازيل.
مسرحيات المعلم داود قسطنطين الخوري، وكما جاء في دراسة الباحث والناقد، محمد بري العواني، وإن اختلفنا معه في بعض تحليلاته على مستوى الشخصيات، وسياق التأليف الدرامي والموسيقي، كون الخوري كان يبذر للمسرح الغنائي مع أستاذه القباني، وهو مسرحٌ وليد في حينه، إلى جانب رواد تالين، مثل الشيخ سيد درويش، الذي كان أيضًا يمثِّل ويلحِّن، والشيخ سلامة الحجازي، إلاَّ أنَّها دراسةٌ علمية بيَّنت أهمية مسرح الخوري الغنائي، وقدَّمته كرائدٍ مسرحي جمع في مسرحه الشعر والموسيقا، ماعبَّر عن قوَّة روحه، ونزعتها التنويرية.

*ناقد مسرحي سوري.

كلمات مفتاحية

المسرح العربي