قراءات

رواية "باص أخضر يغادر حلب".. الواقع يتماهى مع الكوابيس

ضاهر عيطة

28 يوليه 2020
يتخذ الروائي جان دوست من ثيمة التهجير الذي أنتجها التنظيم الأسدي، والفصائل المعادية لحرية السوريين، حدثًا مركزيًا في روايته، حيث ينتقي لحظة مفصلية من ذلك الجحيم، فيكون عبود العجيلي الملقب "أبو ليلى" بطل رواية "باص أخضر يغادر حلب" (منشورات المتوسط، 2020) شخصية محورية، حملت في وجدانها روح الجمع السوري، وقد مزجت بين اللحظات الراهنة، مع أحداث وذكريات أبطالها الموتى، فيأتي تداخل الحاضر بالماضي، كتقنية تسعى لإظهار مدى فاجعة الحاضر، قياسًا إلى ماضي يحفل بذكريات رحبة، وكأن دوست أراد أن يتسلل إلى عوالم شخوصه الرازحين الآن تحت وطأة التهجير، ليحررهم من هذا المصطلح، لئلا يحولهم إلى مجرد أرقام، راصدًا حكاياتهم السابقة بوصفهم بشرًا، في لحظة تراجيدية تكاد تستولي تمامًا على ماضيهم، فلا تترك لهم ولو فسحة صغيرة من الأمل، غير أن دوست يشتغل جاهدًا على تمزق هذه اللحظة التي أطبقت بفكيها على ضحايا التهجير، عبر رواح ومجيئ يكاد لا يتوقف، بين حاضر متخم بمآسيه، وماضٍ حفل بكثير من الآمال، ساعيًا إلى إيقاف حركة الباص، وتحرير المهجرين مما حلَّ بهم.

معظم شخصيات الرواية تنتجها ذاكرة عبود العجيلي، وهي ذاكرة تكاد تشمل جميع من سكن فوق هذه الأرض المدماة بالجراح على اختلاف انتماءاتهم القومية والمذهبية، فزوجته نازلي امرأة كردية، وفرهاد زوج ابنتهما ليلى كردي أيضًا، وهو طبيب، اضطر للعمل كجراح في دولة الخلافة الإسلامية، ثم تم نحره عندما اعترض على ما يفعلوه بحق السبايا من النساء والفتيات.. وها هو علي شقيق ليلى لا يكاد يتوقف عن عزف ألحان كردية على بزقه، ألحان معجونة بالمرارة ولوعة الفراق.. والابن الثاني عبد الناصر كان قد قتل في لبنان أيام اقتحام مخيم صبرا وشاتيلا، والابن الثالث عاصم غرق في البحر، وعمر انتسب بداية إلى الجيش الحر، ثم تحول إلى النصرة، وهو حتى اللحظة مجهول المصير، وميسون ابنة ليلى، طفلة صغيرة قتلت بشظية برميل.. هي تراجيديا سحقت الجميع، واختلطت فيها دماء معظم من تستحضرهم ذاكرة عبود العجيلي، الذي يستحضرهم لئلا يسحق كيانه أمام مرارة وقسوة الواقع، فالرواية تبدأ برحلة اقتلاع وتهجير عبر باص أخضر من منطقة حلب الشرقية، وما من شيء

أقدر من لحظة تراجيدية كهذه، على استدعاء ذكريات تلامس أدق التفاصيل من حياة أناس عاشوا في بيوتهم بين والأهل والأحبة، وكانت لهم أحاديثهم ومساءاتهم، وغرامياتهم، لكننا لا نلمس حضورًا لهؤلاء الناس في فضاء الباص، إلا على نحو طفيف، وكأنهم مجرد هياكل بشرية يساقون إلى حتفهم، إلا سائق الباص الأخضر، الذي لا يعير أدنى اهتمام لمن معه داخل الباص، مكتفيًا بإشعال سيجارة تلو الأخرى، أو النزول والصعود من الباص في انتظار امتلائه بالمهجرين، وأما البقية فلا نكاد نلمح لهم حضورًا إلا من خلال ذاكرة عبود العجيلي، فهو وحده من يشغل حيز هذا الفضاء، جامدًا في مقعده، لكن مخيلته وذكرياته لا تكاد تكف عن الحراك، من خلال نافذة الباص، وقد أحالها لهيب أنفاسه إلى عدسة لا تتيح مجالًا للرؤية بوضوح، وكلما لمحت عيناه إنسانًا يتحرك في الفضاء الخارجي، قريبًا من الباص استعدادًا للتهجير، تبرق في مخيلته مشاهد تستجر الماضي ليحل محل الحاضر الذي فقد معانيه وتم إفراغه من أي معنى، تمامًا كما يتم إفراغ الناس من بيوتهم وقراهم، فالماضي هنا يحل بديلًا عن حاضر مضمخ بالجراح والويلات، فيتسلل هذا الماضي رويدًا رويدًا ليضفي بظلاله على فضاء الباص، وهو يسير في رحلته الملعونة، بفعل قوة مجهولة، فلا يعود ثمة أثر حتى لوجود السائق فيه، وكأن هناك قوة خفية هي من تتحكم بمصائر السوريين، وتحيل أعمارهم إلى كوابيس.
يحاول دوست أن يعيد الروح للأموات لئلا يمحى أثرهم ويطويهم الزمن، حتى أن هؤلاء الأموات، الذين تراؤوا لعبود العجيلي في الباص الأخضر، تمتعوا بفاعلية فاقت فعالية ركاب الباص من الأحياء، وكتعويض من عبود العجيلي عن عجزه، وعدم قدرته على  التحرر من مقعد الباص، يختفي صوت محركه، وكذلك سائقه، رغم أنه يواصل سيره، وقد حلت عتمة مريبة وسط الطريق الذي يعبر فيه، فبدا وكأنه يعبر إلى موت في يوم الحشر، فالمهجرون على متنه، وإن كانوا قد نجوا من الحصار والدمار والجوع، غير أن اقتلاعهم من بيوتهم بدا أشد ألمًا من آلام المضي صوب المجهول، في لحظة نخالهم وكأنهم جميعًا قد تماهوا في شخصية عبود العجيلي، وأضحوا غارقين في ماضيهم، ذلك الماضي الذي يقف شاهدًا على أطلال خراب الماضي والحاضر، وربما لهذا تم ضخ نبض الحياة في المشاهد المتخيلة، لتحول دون تمدد مأساة واقع ما عاد من أثر له بعد أن تم سحقه، وكذلك امتلكت الصور الفوتوغرافية، وقطع الثياب التي جلبها عبود العجيلي من بيته قبل أن يصعد إلى الباص الأخضر، حضورًا بديلًا عن مشاهد الموت والخراب الحاصل الآن، وقد انبعثت من تلك الأشياء أرواح أصحابها، ليحلوا محل أناس استحالوا إلى جثث وهياكل عظمية، لذلك انحصر تواصله مع أغراضهم

وصورهم، هذه الأغراض التي سرعان ما تتحول إلى أداة قادرة على إحياء أموات يخرجون عن صمتهم، ويسردون قصصًا تروي عن مسببات الموت والخراب، وعن الخيانات والفصائل الإسلامية التي ساهمت مع التنظيم الأسدي في ذبح السوريين وحرق أحلامهم..
هي رواية تشتغل على المستحيلات، محاولة أن تبني فرضية جديدة أمام واقع خيم عليه شبح الموت والضياع، شخوصها كلهم مقيدون إلى مقاعدهم، وهم فاقدو القدرة على الفعل، لينهض الأموات من موتهم، فيحتلون أحداث الرواية، حتى أن لحظة الحميمية التي جمعت العجوز عبود العجيلي مع زوجته نازلي تكاد توحي وكأن سورية خلت من الشباب وأحلامهم، ومن ممارسات الغزل والحب، ولم يعد فيها سوى هذين العجوزين، اللذين سرعان ما ينتقل واحدهما الى الموت، والآخر يتم تهجيره من بيته وقريته. وحين عبر الباص من دهاليز العتمة ظن عبود العجيلي أنهم يعبرون في طريق عادي، وأن هناك أضواء سيارات وحياة طبيعية، لكنه سرعان ما اكتشف أن تلك الأضواء لم تكن إلا أضواء نيران براميل تحيل الأرض السورية إلى بركة نار، والمقطوعة الموسيقية الكردية، التي يواظب على عزفها علي طوال الفصل الأخير من الرواية، تسوقنا إلى إيقاعات تاريخ تم إشباعه بدماء وآلام السوريين، إلى حد أن واقعهم تماهى مع الكوابيس، وكذلك تماهت كوابيسهم مع الواقع، ولم تعد هناك إمكانية للتمييز بينهما.

كلمات مفتاحية

رواية أدب سوري حديث أدب عربي. رواية عربية