عروض

"الفضاء الرحليّ السيرذاتيّ في قصيدة النثر".. تجربة السفر والحنين

ليندا نصار

18 مايو 2021



صدرت مؤخرًا عن "دار الآن ناشرون وموزعون" دراسة نقديّة جديدة للناقد محمد صابر عبيد بعنوان "الفضاءُ الرحليُّ السيرذاتيُّ في قصيدة النثر.. معماريّةُ التشكيل الشعريّ الملحميّ في "دفتر العابر" لياسين عدنان"، ويخصّص الكتاب لدراسة سيرة الشاعر المغربي ياسين عدنان في ديوانه الشعري "دفتر العابر" ويضعها في إطار فضاء الرحلة التي يقوم بها، ويدرس العلاقة بين السيرة والرحلة والتفاعل بين الجنسين ليخرج بمصطلح الرحلة السيرذاتية بحيث يرصد فيها الشعرية التي لا بدّ لها أن تتجلّى في رؤية الشاعر المتبلورة من خلال تجربة السفر والحنين إلى الأمكنة.
تتشكّل الدراسة النقدية من عدة فضاءات كما يعنونها الناقد عبيد، فمن فضاء الغلاف الإهداء والتصدير إلى فضاء العنوان، ومنه منتقلًا إلى عناوين متعدّدة.
يناقش الناقد الخطاب الشعري ويذهب إلى ما هو جديد فيلغي الإسقاطات القديمة ويبتعد عن النظريات الجاهزة التي لطالما اعتمدت في النقد، ومن الديوان يخرج بنظرية خاصة حديثة فيبتدع له ما هو بعيد عن التصوّرات النقدية، خصوصًا تلك التي تحدّ من جمالية العمل الأدبي الحديث. ينطلق الناقد في هذا البحث من خارطة توحي بتصميم منظّم ورصين للعمل مبتدئًا بتعريف قصيدة النثر كما يراها النقاد بالعودة إلى المراجع والمصادر العالمية المهمة. من ثمّ ينتقل إلى دراسة الذات الشاعرة وتفاعلها مع العالم الخارجي وصلاتها به والوجود من حولها وقدرتها على التعبير وتخييل المواضيع الأكثر حساسية بالنسبة إلى الإنسان. فمن الحب إلى الحزن والانفعالات وكلّ ما يختلج في الذات الإنسانية... إنها تجربة تعبّر عن شمولية الحياة، فقد اعتمد الناقد أساليب التفكير النقدية والمنهجية متّخذًا وضعية المحلّل والكاشف للولوج والغوص في أعماق الذات الشاعرة وحضورها النوعي في الأسفار وطرق تجلّياتها الإبداعية. فالإشكالية الأساسية التي تمّ الغوص فيها هي تقاطع السيرة بالرحلة، من خلالها استطاع الناقد في كتابه الكشف عن تفرّد ديوان "دفتر العابر" في الصور والشعرية والتخييل واتساع الخيارات الجمالية. كما يلتفت عبيد إلى شروط قصيدة النثر ويقبض عليها في ديوان "دفتر العابر"، فيدرس الإيقاع المضغوط والتكثيف، وينتقل إلى الأسطر والمقاطع، ويدخل الى فضاءات الذات التي شكّل الديوان اعترافًا بخصوصيّتها من خلال وصف حالة شخصية الراوي ومغامراته.

لا تكتفي هذه الذات الشاعرة بالتفاعل مع العالم المرئي بل تنطلق من تأمّل خاص بما يجعلها قادرة على استنطاق أثر هذا العالم. من هنا يميّز الناقد بين هذين العالمين، وهو الذي فرد لها منهجًا خاصًّا بها ليخلص إلى أنّ الشاعر عدنان ياسين كتب قصيدة عابرة للأجناس والأشكال، وقصيدته تستشفّ الأقلام النقديّة وتدعوها للبحث والنقاش والتحليل.
إذًا يستهل الناقد كتابه في مقدمة يعرف فيها بقصيدة النثر والجدال والسجال الكبيرين اللذين يحيطان بها وانفتاحها على فضاءات كتابية متنوعة ما يضمن حداثة هذه القصيدة وتميّزها واختلاف الشعراء في طرق كتابتها، وبرأيه هذا ما يدعو إلى عناية خاصة مقارنة بقصائد الشعراء عمومًا.
يشير الناقد الى انفتاح "دفتر العابر" لياسين على الفضائيات الحرّة والاحتمالات كافّة، ويظهر اتساع هذا العمل الشعري وإطلالته على الحداثة. فقصيدة عدنان ياسين هي وثيقة المسافر الذي يسرد رحلته لتتقاطع عنده السيرة الذاتية والرحلة، بحيث استطاع الناقد أن يكشف علاقة الاتحاد بين شخصية الراوي في القصائد بشخصية ياسين عدنان والمقارنة فيما بينهما من خلال البحث في الأمكنة وأسمائها والشخصيات الأخرى التي التقاها في أثناء القيام برحلته مبتكرًا مصطلح القصيدة الرحلية السيرالذاتيه كما يذكر في باب المقدمة.
في مكان من الكتاب يقول الناقد: "ينبغي أن يكون الشاعر غير معنيّ بالتجنيس في الحالة الإبداعية الخاصة لحظة التدوين الكتابي بدرجه تفوق فاعلية الإبداع ووظيفة الناقد النظر والتعمق في هذه القصيدة".
يتشكّل المشهد في "دفتر العابر" من طبقتين: طبقة السيرذاتي وحضور النسق الرحلي الشعري، وطبقة الحساسية الشعرية وروحها الذي يتبدّى على نحو تأملي خاص. كذلك يتمثّل السرد في الديوان من خلال توثيق الشاعر اللحظات الشعرية على شكل صور تُظهر تفاصيل رحلته إلى باريس.




في دراسته الموسومة كذلك يدخل الناقد في التفاصيل بدءًا من العنوان وسيمياء التعبير ويخصّص لها هذا الفصل فيدرس دلالة العنوان التاريخية ويعتبر العبور الزماني والمكاني فضاء الاستهلال ويربطه بالعنوان ويعالج المساحة بينهما وأهمية هذه العقبة للولوج الى النص.
اقترنت الرحلة الشعرية بفضاء التفاصيل التي تعتبر من مهامّ الشعر خصوصًا تفاصيل الأمكنة، وبروز عنصر الصورة الشعرية المعبّرة عن طبيعة تجربة الشاعر وشخصيته بتفاصيلها التي تغذّيها، سواء كانت سلبية أم إيجابية. كما يدرس الأفعال وحركتها والجملة والألفاظ والوصف والاستعارات والجماليّات الشعرية.
في عنوان مدخل إلى أسئلة قصيدة النثر الواقع والاشكالية، يتطرّق الناقد إلى إشكالية انفتاح الأجناس الأدبية ويتناول قضايا قصيده النثر وانشغالاتها والجدل الحاصل حولها من خلال ثلاثة مفاهيم: المرجع والهوية والنص. ويرى في هذا الأمر قوّة حضورها، ويعتبر الناقد عبيد أيضًا أن قصيدة النثر قد فرضت نفسها وانتماءها في الشعرية العربية وبهذا يتطرّق إلى بعض الذين شوّهوا هذه القصيدة عبر الاستنساخ والتساهل والارتجال.

أمّا عنوان فضاء المحكي الشعري جدلية السرد والحوار، فيعالج الناقد فيه علاقة قصيدة النثر وحضور السرد والحوار في النحت الشعري، ويكشف عن السرد الذي يزيد من القيمة الشعرية بحدّ ذاته لتحديد الهوية الشعرية للديوان بحيث تتحدّد المواقف والمخاطبات وتفاصيل الحكي ويبدو الحوار الداخلي، المونولوج جليًّا، وفي ذلك كشف عن ثقافه الشاعر المغربي وحضاته وتاريخ وجغرافية وطنه.
في مكان آخر يخصّص الناقد دراسته للقصيدة الرحلية السيرذاتية ويناقش جدلية المكان والشخصية، ويشرح تخصّص القصيدة في الرحلة واكتسابها الطابع الملحمي مؤكدًا أن قصائد "دفتر العابر" تعرض تجربة نوعيّة من خلال اشتغال الشاعر على هذه الناحية التي ترفع مستوى الحساسيّة الشعرية عنده. من هنا تبدو التركيبة أو جدليّة المكان والشخصية بالغة الحضور والقيمة من خلال شخصية الراوي الذاتي خصوصًا عند عرض حكاية المكان بتفاصيله وعلاقه الشاعر به.



في الفضاء الشعري الرحلي وتجلّيات الآخر، يكشف الناقد عن المفارقات والقيم والأفكار والمفاهيم والرؤى ويعود في بحثه إلى الأنا ويثبت ارتباطها بل حلولها كشخصية مؤلف في "دفتر العابر" الحقيقي، وهذه الأنا التي تدخل في حوار شفاف منطقي في رحلاتها هي نفسها الأنا السيرية الذاتية وتتكشّف هويتها وتنفتح على التأويل، فتتجلّى في الفضاء المكاني وكأنها عدسات كاميرا تراقب المكان وتعبّر عن موقفها من الآخر واسترجاع الأحداث من خلال المشهد الشعري الرحلي.
في مكان آخر يبدو انفتاح القصيدة على الدراما واحتضانها هذا النوع، ويُظهر الناقد عبيد العلاقة التاريخية بين القصيدة والدراما فيتحدّث عن عناصر الفضاء الشعري الدرامي والمكان والحدث والشخصية في مسْرحَة القصيدة من خلال التصدير والتصوير والقبض على اللحظة الدرامية الشعرية.
يبقى من الحقّ أن نقول إنّ هذه الدراسة واسعة وغنيّة.