عروض

شوقي أبي شقرا.. ثورة في الشعر وثروة في اللغة

ميشلين مبارك

28 يناير 2022

 

يتفق الجميع على أنّ الشاعر الكبير قامة وقيمة، شوقي أبي شقرا، كان وما زال من رواد الحداثة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم. وهو قبل ذلك، صحافي وناقد ومترجم، وهو الذي وصفه الشاعر محمد الماغوط بأنه "مرشدنا الجمالي"، وقال عنه الوزير إدمون صعب: "في زمن التأمّل، يظلّ شوقي من عرفت في عمر الأمل، طفل البراءة، صبيّ الدهشة، فتى الموهبة، ورجل المحبّة، جريء الكلمة، عنيد الموقف، إلى دماثة رهبانية، وإباء، وشهامة، حتى لتقولنّه آتيًا من حنايا الأساطير".

يأتي الحديث عن الشاعر شوقي أبي شقرا اليوم بمناسبة صدور ديوانه الشعري الجديد "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى" عن دار نلسن في بيروت (2021)، وهو كتابه الخامس عشر ويقع في 256 صفحة من الحجم الوسط.

من المعروف أنّ أبي شقرا بدأ حياته الشعرية في عام 1956 في حلقة "الثُريا" مع الأدباء إدمون رزق، جورج غانم، وميشيل نعمه. بعدها انتقل إلى مجلة "شعر" في عام 1959 مع يوسف الخال، وأنسي الحاج، إلى أن دعاه الأخير ليتسلم الصفحة الثقافية في جريدة "النهار"، في أوائل ستينيات القرن الماضي، فذاع صيت الصفحة الثقافية الرائدة آنذاك بفضله حاملًا قلمه الأحمر مؤثرًا في جيل كامل من الشعراء والأدباء فيما بعد، وهو القائل: "قلمي الأحمر زينتي ودفتي إلى المجهول الأزرق وكل الألوان، لا يعبس أبدًا ولا يتبدل بل يكرج...".

بدأ كتابة الشعر الموزون، ثم ما لبث أن تحّول وبقرار واع منه إلى قصيدة النثر، إنما متفردًا عن جيله عبر إثراء اللغة بمفردات وتعابير ريفية وغريبة في بعض الأحيان بدءًا بديوانه "ماء إلى حصان العائلة" (في العام 1962)، وما تلاه من إصدارات وصولًا إلى الديوان الذي نحن بصدده في هذه المقالة "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى".

مما لا شك فيه أنّ شوقي أبي شقرا، شاعر سوريالي، والحركة السوريالية تستعمل الخيال الجامح للعقل الباطني. وقد أتت شعريته في هذا الديوان لتربط الجماد بالمتحرك والحيوان بالإنسان، وهو يتبع هذا الأسلوب عن عمد، الأمر الذي ساهم في إثراء اللغة الشعرية، فأصبحت ثورته على اللغة من بعده ثروة مدهشة. في السياق نفسه، يعترف الشاعر في مذكراته "شوقي أبي شقرا يتذكر" الصادرة عام 2017 بأن هذه اللغة المعتمدة، كانت له "شبه حرب على الرواسب، وعلى الموروث من الصيغة السابقة، حيث الاحترام للألفاظ كما هي وللعبارات كما هي، أي البقاء على النهج الكلاسيكي وقبول العادي والدهر الذي أكل هذه اللغة". ويتابع أبي شقرا: "لا بدّ من عملية تجميلية للوجه والذراعين وللجسد كله. وكانت حرب على كثير من العبارات والألفاظ التي لا تتغير وتحمل المعنى الكهل والمسن ولا تضع الجديد هدفًا".

الديوان الجديد
بشكل عام، تأتي قصائد ديوانه الجديد، أو نصوصه النثرية للبوح عن مكنوناته المجروحة وطفولته المقهورة من يُتم مبكر. إذ به، يستدعي المفردات الطفولية ليبوح لها بالجرح عمدًا. مفردات ريفية استعملها ويستعملها أبي شقرا لتدلّ على أهمية الريف والتصاقه به، إلى حدّ تمايزه عن غيره بكثرة وغرابة استعمال هذه المفردات. وكأنه يستعطي الشفاء عبر خلق الدهشة في الصور، أو يستدعي الدهشة لتضميد نزيفه الداخلي.



يحمل الديوان في طياته العديد من القصائد الغنائية التي أتت لتعكس غلاف الكتاب وعنوانه، وقد سبق وكتب في مذكراته: "كم يحلو لي أن أكون موسيقيًا، بل إن الموسيقى ما بارحتني، ولبثت حارة بركانية في قصائدي".

باختزال ودهشة، يكتب أبي شقرا قصيدته، يقهر الشيخوخة بالشعر، يظل يكتب حتى لنخاله دائم الشباب والحداثة والتطور بالعمر الفعلي، بالمعنى وباللغة. منذ ديوانه النثري الأول، كسّر الروتين بتفرده، وأذاب جليد الشعر بدموع مشاعره، فإذ بالشمس تشرق من لدن لغته، والجماد يتحول إلى بشر كرمى لقصيدة أبي شقرا.

عبثًا حاولت بكافة الطرق اللغوية والدراسية وبالعودة إلى الدواوين السابقة، أن أفهم ما يكتبه هذا الشاعر وما المغزى من كلمة حصان أو الأسطورة أو الصدى وغيرها من المفردات التي تتكرر باستمرار في نصوصه، إلاّ أنّ محاولاتي باءت بالفشل، وأظن أنّ كل من يحاول أن يجد علاقة سببية بين الدال والمدلول سيلقى المصير نفسه.

لا شك في أنّ شعر أبي شقرا صعب وصعوبته تكمن في فرادة لغته، وربما هذه اللغة لا تروق للبعض وربما راقت لجيل ثائر لا ينظر إلى اللغة كعائق بل يجعلها طواعية المعنى والبناء ليصل الشاعر إلى مبتغاه.

إلاّ أنّ ثلاث ميزات تجسدت بوضوح في الديوان الجديد، وهي المفردات المرتبطة بالريف: إذ يعود بنا الشاعر إلى القرية وتعابيرها مثل المردكوش ورغيف الصاج، الشقائق، والإسطبل... الوجهة الأساسية هي الطبيعة، يعود إليها الشاعر، كأنه يعود إلى الارتحال، وإلى الذات، فيسقط الخيال مطرًا يبلل القصائد. فيها يشعل موقدة القلم والقصيدة، يتقن التعامل معها في كل الفصول، ينبش من البساطة إرثًا لغويًا كبيرًا، يصوغ التأملات ليقطفها ويرسلها إلى القراء. ومن بين قصائده العديدة، نختار قصيدة بعنوان "طيور" (في الصفحة 164 من الديوان): "كأنك غصون النار/ كأنك المخطوطة/ وفي الشريان في السطور/ بقدونس المأدبة وكيف العبور/ والقراءة تصطاف في ملاذ العتمة/ أو ملاك النوم ونعومة القماشة/ أو الأوزان تقول "فاعلن" وتتاح البحور/ لك ورقصة الختام".

وفي قصيدة "حين" نقطف بعضًا مما جاء فيها (في الصفحة 166 من الديوان) "يطوف النهر ونغسل هندباء النعاس وأزرار السمكة/ من الشرود ويمرّ بنا عزيزنا الكرنفال والأعشاش تزدان/ بالقصائد ورماد السيكارة ربما يصحو على العشيقة الجمرة/ ونضحك نحن والسفرجلة على السكين/ والعلكة لا تحرز أين الفم/ وحين نركب بوسطة المازوت/ نصغي إلى الرائحة وليست من الوزالة".

الميزة الثانية هي سمة الشجن في العديد من القصائد، بحيث لبست الحزن والكآبة، على سبيل المثال تلك المعنونة بـ"حرف الكاف"، "أنفخ"، "زنزانة"، "الخلاص"، و"التظاهرة"... إذ به يقول في الصفحة 29 "ربما شفة والتواء/ هكذا نحن نمثل مسرح الغبطة/ وربما الولد الهائم/ والقندلفت السكير من حرير النعمة/ وزجاجة النبيذ والتقوى/ ونختم التظاهرة بالشمعة...". يصور الشاعر هنا الغبطة أو حتى العيش الكريم بمسرحية والناس تكذب على بعضها عندما تفرح... وفي قصيدة "ينفع" في الصفحة 38 من الديوان يقول: "نقطف الشجون خضراء القوام والأقمشة/ ونلتف بالأفراح لندوم أطرى من الفخذ/ ليقول العمر طال عمرك وخمارتك/ ومن حولنا السفينة وحزورة الخطاب..."، وفي قصيدة "الأب" في الصفحة 76 من الديوان، يبوح الشاعر "ننذر الشوق كأنه الصبيّ/ يركض ويصعد هو الرجاء ولفافة الكشك والمودة/ إلى غروب المقعد إلى السراج/ ونحار إذ يخاف الشاطئ/ أن يغادر أباه/ وأن يحمل الهدية/ ولن يكون في أي ماء/ هو نظيف القوام/ إلاّ بعض الحنين/ إلاّ بعض الملح/ إلاّ مجدافًا يجهل/ أين الحورية الأقرب إلى ذراعيه"، والأمثلة كثيرة بحيث يضيق المجال لسردها هنا.

من مجموعة مجلة شعر: من اليمين: فدوى طوقان، أدونيس، فؤاد رفقة، يوسف الخال، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا. الصف الخلفي: لورا غريب، سلمى الجيوسي، بدوي الجبل، نازك الملائكة، وجورج صيدح


لم يترك أبي شقرا موضوعًا إلّا وتطرق له، من الطقس، الموسيقى، حروف الأبجدية، العشق، القلق، الدينار، الخطيئة، الغروب، الشاطئ، الكهولة، فالدفتر. كتب أزرار الأحلام من ذكريات وقبلات، البعض منها اختبأ في استعارات ورسائل مغناة، والبعض أصبحت آيات نثرية فوق القرية والمعصرة والميجانا والدمعة. وهنا تتجلى الميزة الثالثة، حيث يطيب الشاعر إلى الموسيقى، كما سبق أن ذكرنا، ويدعو القارئ إلى هذه الوليمة الشافية حتى الهذيان، فيقول في قصيدة "القنبز" على سبيل المثال: "يا ليل الكمنجة ودفاتر الزنوجة/ يا عزباء ويا خمرة الراوي/ حامل الجرّة والنوطات ومن يبوسني في خدي/ وتساورني الملاحظة/ أين مجدي والسيف والثورة/ سوى أنت عصفورنا والدالية الحارسة حتى ينام المنام/ ولا فوطة في الذقن في أحد الحالمين/ ويعزف لك القنبز الموسيقار/ لحن الصبي المجهول/ وكيف تنقشع الصخرة/ ولا تخجل الغيمة/ من ذّر الرماد على الأركيلة/ وتفطس الجمرة صمّاء من قرقعة الضحك/ وصخب الطنجرة".

وفي مكان آخر، يدعو البرد إلى التخفيف من عزف الريح حتى تصير "أغنيتي رمح القرون الوسطى/ وفكرتي لا تصادم الريح كاتب الأطروحة/ من الحنبلاس إلى مسافة الزهرة/ إلى قرية الشوكة..." (قصيدة طحالب، ص 74)؛ ها هي ريشة الماضي تعود وأسلوب أبي شقرا كما يقول "لا يخون ولا يعبس".

مرة أخرى تتجلى هذه السوريالية السابحة في الشعر، الآخذة بملامح وأشباح واستعارات ترقص في النصوص وبين ثقوب المأساة. يكتب علّه يتعافى من ارتداء الحزن في القصائد، أو من إكساء موائد الشعر من مسحة الكآبة حتى ليكاد يسخر من محطات القدر وأطباق الفرح. يزرع غيظه في النغمة وعلى درب معصرة الزيت لينهض بخلاصه شراعًا في بحر الوجع. تلك هي ممرات حياة أبي شقرا التي انعكست في ديوانه الجديد.

هذا الشاعر الثمانيني الثائر على المشيب، ربما لا يخاف محراث الانتظار وإن تذمر على السنين فهو حتمًا يسخر من مرارة الأيام. يقف على مسرح الحياة، عابرًا بين براثن الشوك، وحاملًا من زمان الطفولة أوجاعًا وصلوات يغلفها بالآهة والأغنية، فيردّدها الصدى قصائد. إنه الشاعر شوقي أبي شقرا، يضحك على الغياب بالكتابة حتى تغار الشمس من ذهب كلماته.