عروض

"حكايات العُمر كله".. بين الشهادة على العصر والتناقض الذاتي

أريج جمال

13 يونيو 2022


كان اهتمامًا تدريجيًا ذلك الذي ناله كتاب الفنان المصري الراحل سمير صبري "حكايات العُمر كله"، الذي صدرت طبعته الأولى عام 2020 عن دار المصرية اللبنانية. في البداية تشكك البعض، المُهتمون منهم بالفن، أو غير المُهتمين، بإمكانية أن يكون الكتاب مذكرات صريحة للفنان الكبير، الذي عُرف بحُبه للدبلوماسية، ومُجاملة الأصدقاء. لكن الأحداث التالية التي وقعت، سواء لسمير صبري، من تداول أنباء مرضه، أو لنجوم آخرين من جيله، برحيلهم المُفاجئ، منحت الكتاب أهميته التي صارت تتزايد مع الوقت.
تمتد سنوات نشاط سمير صبري الفنية منذ عام 1964، بدأت بعمله في الإذاعة المصرية بالقطعة، مرورًا باشتراكه في بطولة الأفلام، بل وإنتاجها في بعض الأحيان، أفلام مثل: "جحيم تحت الماء"، و"عالم عيال عيال"، و"التبوت والنبوت"، و"دموع صاحبة الجلالة"، و"وبالوالدين إحسانًا"، وغيرها. هذا فضلًا عن فرقة الرقص والغناء التي كوّنها لتقديم الاستعراضات في الحفلات والأفراح الخاصة. ولا يُمكن نسيان برنامجيه المُميزين والشهيرين، الذي يعتبرهما هو بداية برامج التوك شو في العالم العربي: "هذا المساء"، و"النادي الدولي". وكانت آخر أعمال الراحل مشاركته في فيلم "حدث في 2 طلعت حرب"، من إخراج مجدي أحمد علي، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا، وذلك من دون احتساب حلوله دائمًا ضيفًا على برامج الفضائيات إلى حين رحيله في 20 مايو/ أيار الماضي، بعد معاناة مع المرض.
بلا شك، لعب اقتراب الموت دورًا في زيادة الإقبال على قراءة الحكايات التي ربطها الفنان بعُمره كله. في المقابل، لم تبخل هذه الحكايات بمنح المُتعة، وكذلك فضح بعض الأسرار عن حياة النجوم الكبار الذين يأتي الفنان على ذكرهم. في الآونة الأخيرة، صار الكتاب ضمن الأعلى قراءة على تطبيق "أبجد" المُخصص للكتب الإلكترونية، وحتى القراصنة كان لهم نصيب من هذا النجاح، فقد وجدت النسخ المضروبة من الحكايات مكانها على الأرصفة. كأن هذا التوافد على الكتاب، مشروعًا كان، أو غير مشروع، بمثابة نوع من التسليم البطيء بانتهاء عهد مزدهر من الفن المصري، استمر حوالي خمسين عامًا، وها هم رموزه يرحلون واحدة وراء واحد، أو "ينقرضون"، بحسب تعبير صبري نفسه، في أحد حواراته، حين تحدث عن رحيل زملائه. ناهيك عن أنه لم يعد هنالك موطئ قدم للأحياء من ذلك الجيل في صناعة السينما والتلفزيون التي أصبح ينحدر مستواها باستمرار في عصرنا الحالي، وتعاني من اختناق حاد بسبب القيود المفروضة على حرية التعبير في مصر، من دون أن نتجاهل سيطرة الترند بنجومه وسيادة أعمال الموسم الواحد التي تُحقق إقبالًا جماهيريًا عاليًا ساعة عرضها ثم يهجرها المُشاهدون هي ونجومها.





بينما تفقد قطاعات من الجمهور المصري استمتاعها بالأعمال الفنية الحالية، تجد نفسها مدفوعة إلى استعادة حَكايا فناني العصور الماضية، وقد انتهوا بطريقة أو بأخرى نهايات تراجيدية.


خفّة الحكايات

سمير صبري يحمل جائزته الفخرية خلال الحفل الختامي لمهرجان القاهرة الدولي التاسع عشر لسينما الطفل في الجيزة جنوب القاهرة (13/ 3/ 2009/فرانس برس)


الحكاية هي قضاء الوقت، هي التسلية، هي وسيلة الهرب من ضيق الحاضر، إلى جنّة الماضي المزعومة. ثمة تقديمان للطبعة الأولى من الكتاب، واحد لمُفيد فوزي، والآخر لزاهي حواس، يركز الاثنان على الفكرة نفسها، تذكير القارئ بثقافة سمير صبري، ومواهبه المُتعددة، وعطائه المُمتد، سواء في السينما، أو التلفزيون، كما يؤكدان على حالة الغُبن التي كان يعتقد صبري أنها واقعة عليه. إنه يقول، مثلًا، في حواره التلفزيوني مع لميس الحديدي عن تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي: "لكن للأسف مفيش ولا مهرجان سينما كرمني كسينما". وكان يقصد بذلك أنه لم يُكرّم كممثل، أو أنه كُرّم كمذيع، وكمُقدم للبرامج، وليس كنجم سينمائي.
عندما يستلم صبري خيط الحديث في حكاياته من فوزي وحواس، يحاول الرجوع إلى البداية، إلى الإسكندرية: "لا أعرف ما إذا كان هو القدر أم الحظ، أم الاثنان معًا، هما من رسما حياتي، وحققا أمنياتي...". يتكلم عن حياته الأولى في أسرة تتكون من أب ضابط في الجيش، وأم يصف جمالها بالتشابه مع ليلى مُراد، وتعليمه بانتمائه إلى مدرسة ڨيكتوريا "التي كانت أرقى وأغلى كلية في مصر، وفي الشرق الأوسط، ويمكن في أفريقيا كمان!".
يمتد استعراض صبري لثقافته وللُغات التي كان يجيد التحدث بها طوال الكتاب، هو الذي قرر أيضًا أن يختزل الحكي عن حياته الشخصية إلى أبعد حد. فإن كان لا بد من البدايات، فهو لا يُريد منها سوى المرور السريع على قصة انفصال الأب والأم، والتأكيد على أنها ربما كانت فاتحة الخير بدلًا من الحديث عن تأثيرها النفسي، أو التساؤل، مثلًا، عن مدى ارتباطها بحياة الوحدة التي لازمته، وحكمت عليه أن يقضي لحظاته الأخيرة في فندق قاهري، كي يكتشف العاملون وفاته إذا حدثت، ولا يُترك جثمانه منسيًّا في بيته. على أي حال، بسبب طلاق الأبوين، رافق سمير والده إلى القاهرة، بينما مكثت الأم في الإسكندرية. في القاهرة ستبدأ حياته الفنية بكل تأكيد.




يتضمن الكتابة حكاية شخصية ثانية، ليس الإفصاح عنها جديدًا، عن ابنه الوحيد الذي يُفترض أنه يعيش في إنكلترا. حكاية كان يردّدها كل مرة بأشكال مختلفة، عندما يُسأل عنها في حواراته التلفزيونية. دائمًا كانت تتقلص عضلات وجهه، يتغيّر مزاجه، ويُجيب على مُحدثه باقتضاب شديد. مع كل حكاية، كان للولد اسم مُغاير، فمرة هو حسن، ومرة طارق، أو جلال. بالرغم من الكرم المعروف عن الفنان الكبير، سواء في حكاياته، أو في استقباله لضيوفه، كان صبري شحيحًا جدًا في ما كان يُسميه حياته الشخصية؛ "لن أدخل في تفاصيل حكايتي وحياتي الخاصة، فكما قلتُ من قبل، فإن عيلتي وحياتي خط أحمر دائمًا...".
المُفارقة أن هذا الحرص الشديد على خصوصية الحياة الشخصية لم يكن موقفًا يتبناه الفنان الكبير، إذا تعامل مع أسرار حياة زملائه، من الفنانين الآخرين.


السارد العليم

سمير صبري بين سميحة أيوب ونادية لطفي في إحدى دور السينما في القاهرة (3/ 3/ 2001/ فرانس برس)


في ما عدا هذا الجزء الشخصي من السرد، يستغرق صبري في استدعاء حكايات الآخرين، أغلب الأحيان من زاوية تقاطعاته معهم، أحيانًا أخرى مما سمعه يُقال عنهم، يُخصص لكل فنان/ فنانة، أو سياسي، أو صانع إعلامي، فصلًا باسمه. كأن كتابه هذا ديوان يجتمع فيه رموز ذلك العصر، "القوى الناعمة" لمصر، حسب تعبيره المُفضّل.
مع كل بورتريه، يتغيّر موقع سمير صبري من الحكاية. إنه يبدأ، على سبيل المثال، من عبد الحليم حافظ، الذي يدين له بفضل اكتشافه، والذي رافقه على طول مشواره الفني، وشهد على صراعاته مع النجوم الآخرين، كحربه الباردة مع أم كلثوم، وصراعاته مع بعض المُلحنين، وعلاقته بفريد الأطرش خارج إطار المنافسة، كما يروي. كل هذا يدفع صبري إلى أن يلعب دور المُحامي لحليم، خاصة في ما يتعلق بقصته الجدلية مع سعاد حسني، وذلك على حساب كشف تفاصيل ربما لن يقبلها الجمهور عن حياة السندريلا الشخصية.
في بورتريه أم كلثوم، مثلًا، يتحدث عن علاقته الشخصية أولًا بها، ثم يلعب بعد وفاتها دور المُحقق في قصة زواجها غير المُعلن من المُلحن السكندري، محمود الشريف، وهي قصة هنالك مَنْ يؤكدها، وهنالك مَنْ ينفيها، لكن الأكيد أن أم كلثوم كانت تود أن تبقى كل تلك القصص في خزنة سرية حاول أن يفتحها سمير صبري عنوة في سبيل فضوله الصحافي، قبل أن يتراجع مُضطرًا، ويُنهي هذا الفصل قائلًا: "احترمت جدًا الناس التي اعتبرت أي علاقة حُب مع أم كلثوم هي خط أحمر، وتعلمت من هذا أن أي علاقة بيني وبين أي امرأة هي خط أحمر، يبقى السر فيها داخل قلبي أنا...".




هنالك فصول يُمكن أن نقول عنها دعائية، تحديدًا التي خُصصت لمدح مسؤولين سياسيين عرب. وهنالك فصول أخرى أكثر رقة وإنسانية، مثل حكايته عن شادية وتحولاتها وأحزانها، وحكايته عن صباح وأساها في علاقاتها الشخصية، وحكايته عن تحية كاريوكا وتأثير أزمتها مع زوجها السابق فايز حلاوة على وضعها المادي. ثمة حكايات أخرى بكل تأكيد كان يلعب فيها دور السفير، أو المُضيف الكريم، لنجوم العالم، كحكاية جمعه بين وردة، وشارل أزنافور، والأغنية التي غنيّاها معًا، أو حكاية استقباله لداليدا في مصر بعد نجاحها العالمي، والذهاب بها إلى شُبرا كي تزور بيت طفولتها الأول، زيارة لم تتوقف خلالها داليدا عن البكاء، لكنه أيضًا، يلعب معها دور الساحر الذي يحوّل دمعها إلى ابتسامة، عندما يختلق لها مشهد "خناقة" زاخرة بالشتائم المصرية الأصيلة كالتي كانت تسمعها داليدا من شقة أسرتها في شبرا، ولم تجد لها مثيلًا في عيشها بشقتها في باريس.


الغاية تُبرر الوسيلة
ربما تعود هذه الفلسفة التي تركز على الآخرين، وتغُيّب الذات (يجوز كي لا تتسلط عليها الأضواء، وتكون مُطالبة بالحكي هي الأخرى) إلى بداية عمله الفني في الإذاعة، واستمراره لسنوات في استقبال نجوم المجتمع ومحاورتهم في برامجه في التلفزيون. في عمله لم يعترف سمير صبري بأي خطوط حمراء، وقد كانت إحدى هواياته الشخصية أن يذهب بأسئلته للنجوم إلى مناطق لا يودون الحديث عنها. شيئًا من هذا، مارسه، مثلًا، مع فاتن حمامة، وكانت قد طلبت منه ألا يسألها عن علاقتها بعُمر الشريف بعد انفصالهما، وقد وعدها صبري بذلك، لكنه أخلف الوعد وفاجأها بالسؤال في أثناء التسجيل. هنالك، أيضًا، حادثة وضعه لميكروفونات أسفل الطاولة التي كان يجلس عليها توفيق الحكيم، في إحدى الفعاليات الثقافية، وتسجيله لحوار معه باتفاق مع مسؤولين في الدولة، من دون أن يعرف بذلك الحكيم، كي يحصل معه على حوار حصري!
مع ذلك، يطرح ما ذكره من أسرار شخصية جدًا في البورتريه عن النجمة شريهان، مثلًا، سؤالًا حول حدود تبنيه للمنطق المكيافيللي الشهير "الغاية تُبرر الوسيلة". من الصعب التغاضي عن عدم إيمانه بالمساواة بين نفسه وبين النجوم، هو الذي كان يعدُّ حياته الشخصية كلها منطقة محظورة، رغم انتمائه إلى جيل فني عاش حياته في العلن، عاريًا تمامًا أمام الصحافة، أكثر مما عاشها في الخفاء. كان سمير صبري استثناءً في تكتمه الزائد عن الحد، المُربِك، والمُرتبِك. ومن الغريب أنه لم يستخدم هذه الثقافة الواسعة، ودراسته للفلسفة، واطلاعه على آداب العالم، كما كان يتباهى طوال حياته، لتحييد الشائعات التي رافقته ومسّت تفضيلاته العاطفية. بعيدًا عن اتجاهات صبري، ألم يكن في إمكانه أن يستغل هذه القاعدة الشعبية الكبيرة التي حققها طوال أعوام نشاطه الفني كي يتحدث عن أذواق أخرى في الحياة، كي يدافع عن الحرية، ويتصدى للكراهية والتشنيع والمُطاردة بالأحكام الأخلاقية التي عانى منها الفن المصري، وما زال يُعاني، بسبب سيطرة الخطابات الإقصائية السلطوية ذات التفكير الضيق.
لقد كان سمير صبري خفيفًا في كل ما جاء به، يُحب البهجة، ينتمي إليها، ويسعى لنشرها، هذا كان موقفه الفلسفي الأكثر أصالة في حياته. ذاك حقه أيضًا الذي لا يُمكننا أبدًا نزعه منه، لا في حياته، وبالأخص لا الآن. وإن كان يروي شيئًا في "حكايات العمر كله"، وإن كان يشهد على شيء، فهو ليس أقل ولا أكثر من حُبه للفن والبهجة، ورغبته في تشاركها مع الآخرين قدر استطاعته. كان يقول عن نفسه إنه مؤد للأغنيات، لا مطرب، وكانت واحدة من أشهر أغانيه التي غنتها معه شادية تقول: "سكر حلوة الدنيا سكر... اسهر حب الدنيا أكتر... ليلة واتمتع لك ليلة... عيش دي الدنيا جميلة زي السُكر".

(القاهرة)