عروض

"زهر السفرجل".. عن مقاومة الموت من بيروت إلى غزة

دارين حوماني

7 يونيو 2022





إذا أردنا العودة إلى تعريف الواقعية كمنهج أدبي بأنها انعكاس لعملية الواقع الاجتماعي وأنها رسالة إنسانية سامية ينبغي توصيلها ونقلها للآخرين بإحساس إنساني صادق، وإذا أردنا استعادة ما قاله جان كوكتو بأن "الواقعية الحقيقية تتمثل في الكشف عن الأشياء المدهشة التي تغطيها العادة وتمنعنا من رؤيتها"، فإننا نعثر على تخطيطات أصلية لهذه الواقعية ولهذا الإحساس  الإنساني الصادق في باكورة الكاتبة اللبنانية نور الهدى صالح القصصية "زهر السفرجل" (دار الفارابي، 2022) والتي نقرأ فيها حكايات عن بيروت والحرب والطائفية وعن مقاومة المحتلّ الإسرائيلي في جنوب لبنان لنعثر على جملة لغسان كنفاني في ديباجة الكتاب "لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة"، ومن هنا يمكن معرفة من أين ابتدأ الحكي عند الكاتبة، الحكي الذي يمتزج بقصص بصرية وثّقت صالح فيها ما كبرت عليه ومعه، تلك الحكايات التي "نصير جزءًا منها وتصير جزءًا منها"، كما تكتب في تقديم الكتاب.

تسع قصص مرفقة برسومات بالرصاص تميّز بها عمل الكاتبة، تبدأ بقصة "حين اختفت الظلال" عن بنادق الجنود الفرنسيين إبان الانتداب الفرنسي للبنان، وتنتهي بـ"إنني أقاوم الحصار" مع رسم ليد تمتد إلى كوفية فلسطينية مشرعة على الأمل، هي حكاية غزة وحصارها، وما بين الحكايتين تذكّرنا صالح بهوية اللبناني المحتشدة بكولاجات الحروب المتعددة من أكثر الأماكن وجعًا، وجع دمغته أصابع الاحتلال الإسرائيلي، ونخرت بين اللبناني واللبناني منذ ما قبل الاحتلال وما قبل الحرب الأهلية اللبنانية التي أفرزت قصصًا وحكايات مستلة من خرائط النضال، والوجع نفسه.

عن الأفعيين اللتين كانتا تخيفان أهل القرية وكانتا مستقرتين في مغارة اختبأ منها أحد المقاومين من الجنود الفرنسيين، تهدينا نور الهدى صالح ما يلزمنا لنسمعه عن عالم متوحش ينتصر فيه الشر دائمًا "نحن من نعطي عدوًا نهابه حجمًا يفوق حجمه، فلا يغترّ المرء بمظهر الأشياء.."، لننتقل إلى لوحة بانورامية أخرى عن الجنوب اللبناني و"زهرة فتاة الصخر" التي لم يخفّف انفجار لغم أرضي بزوجها "حسن" من حبّها له بعد أن فقد القدرة على المشي؛ ولم يخفّف هذا اللغم من إصرارهما على نقل الأسلحة سرًا للمقاومين مع الخبز الذي تحضّره زهرة وتبيعه بين القرى؛ لغمٌ هو واحد من ألغام كثيرة زرعها الصهاينة على امتداد الجنوب اللبناني وأودى بحياة الكثيرين وسبّب تشوهات جسدية كثيرة ولم تنتهِ فصول هذه الحكاية المرّة إلى الآن فلا نزال نسمع بين الحين والآخر وبعد 22 سنة على خروج المحتل الإسرائيلي من لبنان عن انفجارات تلحق الأذى الشديد بمزارعين وأطفال ولم يتمكن الجيش اللبناني وقوات اليونفيل من انتزاع هذه الألغام كلها. 

ولبيروت حصة من الشقاء في هذا الكتاب، عن سامر وكارمن اللذين جمعهما الحب إبان الحرب الأهلية المشتعلة بين الطائفتين اللتين ينتميان لها، ورغم ذلك تزوجا، إلا أن الحقد الذي أجّجه زعماء الأحزاب اللبنانية بين النفوس هو عود الكبريت الذي يدمّر العلاقات ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا؛ ورغم إعادتها بالقوة إلى أهلها بعد إنجابها لولدين، إلا أن هذا الحقد لم يردم مسافة الحب بين العاشقين وبين الولدين اللذين تفرقا، أحدهما بقي مع أمه والآخر مع أبيه ليلتقيا عند ساحة القتال. حكاية تتكئ على الوجدان المجتمعي اللبناني وهي جزء من مخزون من الحكايا الواقعية، بعضها سمعنا عنه وبعضها بقي في الظل لحكايات حب لم تكتمل لكنها أسّست لحب أبديّ استقر تحت الجلد بالرغم من اختلاف الطوائف والمذاهب. ولكن قصص الحب المكلّلة بالألم ليست وحدها ذات نسخة أصلية لبنانية، فهي جزء من سجل يومي للفلسطينيين كأنها مكتوبة على ظهر الحزن منذ أزمنة غابرة، فنقع على حكاية أخرى من رام الله عن خلود ووائل اللذين دخلت بينهما مايا اليهودية لتصبح خيانة وائل لخلود، أمام نفسه، خيانة لفلسطين. ولا تنسى صالح أن تمرّر حكايات القتل اليومي بلا أسباب وجيهة بحق الفلسطينيين في عملية تدوين حرفي للوجود الإسرائيلي الأسود الذي يستسهل القتل فصار عادة يومية لا تخضع للمراقبة والحساب، والخطاب الإسرائيلي اليومي القائم على الكراهية والمحو للآخر "أتصدّق أن هذه الأرض تصلح أن نتقاسمها، إن هذه أرض ميعادنا نحن، وسلامنا هذا زائف".

وبين لبنان وفلسطين حكايات لا تنتهي، إحدى هذه الحكايات حكاية "ولدي الذي لم يعد من فلسطين" عن "أم عيسى" من قرية لبنانية حدودية مع فلسطين، اضطرت في ثمانينيات القرن الماضي لأن تلد طفلها الأول في مستشفى بصفد على يد ممرضة إسرائيلية ليختفي طفلها في اليوم الأول لولادته وتعود الأم وزوجها تحت التهديد إلى لبنان من دون الطفل. ومن الحكايات المستلة من أحداث حقيقية أيضًا حكاية "إسحاق كوتشك" عن "كيبورك يعقوبيان" الذي شغّلته المخابرات المصرية لمصلحتها ليدخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1961 باسم "إسحاق كوتشك" ويتمكن من تزويد المصريين بأسرار إسرائيلية خطيرة، ولكن تم اكتشاف عمله التجسسي لصالح مصر وسُجن حتى عام 1966 حين تم الإفراج عنه مع الأسيرين الفلسطينيين "حسين حسن الحفاني" و"مسعد خميس عبد القادر" بتاريخ 29 آذار/ مارس 1966 مقابل ثلاثة إسرائيليين اجتازوا الحدود المصرية.

وعن قوارب الموت التي حفظت عن ظهر قلب بصمات وأقدام أطفال من العالم العربي كانوا يحاولون البحث عن عالم أفضل، تكتب نور الهدى صالح إحدى حكاياها الحزينة من بحر طرابلس شمال لبنان، "الحرارة أنهكت جسده الصغير دون ماء أو طعام أو دواء. كان المشهد قاسيًا بالنسبة إليه وهو يتأمل والديّ الطفل وهما يكفّنانه بقطعة قماش ممزّقة من ملابسهما ثم يرميانه في البحر"، هذا البحر الذي شهد على ورشات كثيرة للموت من فقراء لبنان المعدومين، بدءًا من هذه القصة الحقيقية للطفل المرمي في البحر إلى قصص لا نهاية لحزنها العميق، وكثيرون منهم يموتون وكثيرون لا ينجحون في الهرب ويعودون، ليصير الوطن هو المنفى "ها أنا عدتُ إلى منفاي.. هل تستحق الحياة كل هذا الألم، أم أننا لا نستحق أن نحيا؟"..

ومن قرية "ياطر" الحدودية تسحب نور الهدى صالح إحدى حكايات مقاومة المحتلّ في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان الصهاينة يعملون برفقة العملاء على مداهمة البيوت بحثًا عن الشباب المقاوم، ليتمكن شابان من الهرب "بفارق ثوان" قبل وصول الجنود الإسرائيليين. ومن ياطر إلى غزة تهدي الكاتبة حكايتها الأخيرة "إنني أقاوم الحصار"، غزة التي تغفو كل حين على صوت القذائف "أراك تقاوم مثلي رغم الموت ورغم قلة الغذاء والدواء ورغم الشياطين وسط هذه السماء..".

"إن الحقيقة يا سيدي مروّعة، وهي تملؤني بغزارة حتى لأحس بأنني قد أنفجر من فرط ما عبأَتني.."، يكتب غسان كنفاني في قصته "أبعد من الحدود"، وهي الحقيقة التي أرادت نور الهدى صالح أن تكتب جزءًا منها وأن تكون موضوعًا لكتاباتها وكأن الكتابة الأولى دائمًا لا يمكن إلا أن تكون سيرة ذاتية كجزء من السيرة الجماعية عن أكثر الأمكنة تأثيرًا في النفس فأخلصت صالح لمقاومة الحزن من طرابلس إلى بيروت إلى الجنوب فرام الله وغزة، وقدمت لنا حكايات عن الموت والصمت والأشياء المؤلمة التي تصبح عادية، ما "يمنعنا من رؤيتها"، كما يقول جان كوكتو.