عروض

عباس كيارستمي شاعرًا.. سيادة الصورة في الشعر

دارين حوماني

10 أغسطس 2022

 




لا يشبه عباس كيارستمي أيًا من المخرجين، ولو أنه كان يذكّرنا بالإيطالي فيتوريو دي سيكا أو بالفرنسي جاك تاتي إلا أنه كان متحرّرًا من الجميع ومفتوحًا على الجميع فعُرف عنه "الأسلوب الكيارستمي"، أسلوب مطعّم بالشعر والفلسفة وبخليط من أشياء من عالمنا المحسوس واللامحسوس.. وعلى نفس النسق في قول الأشياء اتجه كيارستمي في كتابة نصوصه الشعرية في تأكيد لمقولة رولان بارت: "لا يقصد الهايكو قول أي شيء على رغم إمكانية فهمه، وفي هذا الشرط المزدوج ينفتح على المعنى... ولا يرتجي الهايكو استعادة الزمن الضائع، إنما على العكس، يجدُ الزمن فورًا والآن: لقد أُنْقِذ الزمن وهذا يساوي تزامن الملاحظة الكتابية مع الإثارة، إثمار فوري بين الكاتب الحساس والكتابة لنصل إلى كتابة فلسفة اللحظة". وعلى الرغم من أن كيارستمي كان مقلًّا في كتابة الشعر إلا أنه ترك لنا أمكنة كثيرة للتساؤل يدفعنا فيها لتجزيء كلماته القليلة وإعادة قراءتها من أقرب مكان إلينا من داخل كتبه الشعرية التي نقلها إلى العربية وجمعها الكاتب المغربي رشيد وحتي والكاتب العراقي محمد الأمين الكرخي في أعماله الشعرية الكاملة: "ليل مرصّع بروقًا" (2022) عن دار كريسطال في المغرب، وهو الكتاب الأول من إصدار هذه الدار. ولكيارستمي ثلاثة دواوين شعرية هي "بصحبة الريح" (1999)، "ذئب يكمن" (2005)، و"ريح وأوراق" (2011)، وقد ضمّها كاملة هذا الإصدار.

ولد المخرج والشاعر والفنان المتعدّد الأصوات عباس كيارستمي في طهران عام 1940 وتوفي في باريس عام 2016. وفي بداية حياته المهنية عمل في الرسم ومخرجًا لأفلام دعائية قصيرة في وكالات الدعاية ومصوّرًا لكتب الأطفال ومصوّرًا فوتوغرافيًا، ومتأثرًا بأفلام "الواقعية الجديدة" الإيطالية وجد نفسه في كل مكان "يعيد ترميم العالم عبر الفن". ولم يبتعد في كتابة الشعر عن رؤيته الفنية؛ فهو يقول في حوار له مع صحيفة "الغارديان" عام 2005: "لم أنوِ أبدًا كتابة قصائد، ولا أن أكون مصوّرًا، ولا أن أكون صانع أفلام. لقد التقطتُ العديد من الصور ووضعتُها في ألبوم، وبعد ذلك ببضع سنوات قررتُ أن أعرضها، وفجأة تم استدعائي كمصوّر. الشيء نفسه بصدد شعري: إنها ملاحظات كتبتُها في كتاب، ويمكن عدّها شعرًا".

وتستند شعرية كيارستمي، كما جاء في تقديم المترجمين للكتاب، إلى التركيز على التفصيلة، اللقطة المقرّبة، والتقشف البلاغي، وتحاشي الزخرف الاستعاري، ومجاورة المتضادات، وأيضًا إلى التراث الشعري الفارسي، والكتابة المقطعية، والبساطة الماكرة، والتقاط المعزول والمتوحّد، فنادرًا ما تكون فضاءات كيارستمي فسيحة ومكتظة فهي تصطفي حيّزًا ضيّقًا يركّز فيه على شيء واحد. كما تستند شعريته على توليف المتباعدات، حيث استفاد كيارستمي في شعره من مدرسة أيزنشتين في المونتاج السينمائي بجعله تقنية شعرية في توليف عناصر أو مشاهد متباعدة في الواقع، وهو بذلك يستفيد من كشوفات الشعرية الأوروبية الحداثية، كما صاغها بيير ريفردي في مقالته الشهرية عن الصورة: "الصورة إبداع خالص نابع من الروح ولا يمكنها أن تتولد عن تشبيه وإنما عن مجاورة واقعين متباعدين نسبيًا، وبقدر ما تكون الروابط بين الواقعين المتجاورين بعيدة ودقيقة بقدر ما تكون الصورة متماسكة بقدر ما تكتسب الزخم الانفعالي والواقعية الشعرية".
وقد اختار المترجمان "ليل مرصّع بروقًا" عنوانًا لأعمال كيارستمي الشعرية الكاملة مستندين إلى أحد الحوارات معه.. يكتب المترجمان في المقدمة: "وضعنا لأعمال كيارستمي الشعرية الكاملة عنوانًا يحاول اختزال جميع ثيماته وتقنياته مستندين إلى نتفة من حوار معه، نعدّها مفتاحية، لا بالنسبة إلى شعره فحسب، وإنما - كما يذهب هو نفسه إلى ذلك- إلى جلّ الشعر الفارسي المعاصر: ’في الخمسين سنة الماضية، خاصة بعد الانقلاب، عام 1953 الذي أطاح بمصدّق، كان الليل الحاضر الأبرز في قصائد الشعراء الإيرانيين؛ يكفي أن تلقي نظرة على التواريخ المثبتة في نهاية القصائد لتتأكد من هذه الحقيقة: إن القلق هو العنصر المهيمن على ليل الشاعر الإيراني في السنوات الخمسين الماضية‘".

ومع كتابته للشعر اتجه كيارستمي وبأسلوب متفرّد إلى إعادة إحياء نصوص حافظ الشيرازي بلغة خاصة به كما لو أنه يريد أن يصقلها بحداثة شعرية في كتابه "غزليات حافظ شيرازي برواية عباس كيارستمي" (دار المدى، 2013، ترجمة ماهر جمو)، فحوّل قصائد الشيرازي إلى شذرات تشبه قصائد الهايكو، كما فعل قبل ذلك من خلال تشذيب بعض قصائد جلال الدين الرومي، واعتُبر ذلك عملًا جريئًا من كيارستمي حيث عمل على انتقاء أشطر شعرية من القصائد وقطّعها بشكل يبعد الكلمات عن الإيقاع وبحيث تصبح قراءتها مغايرة لما كانت عليها، مستشهدًا في تصدير كتابه عن حافظ الشيرازي بمقولة رامبو "ينبغي أن نكون حداثيين بشكل مطلق". وقد أثار الكتاب جدلًا عند صدوره، واعتبر النقّاد، ومن بينهم بهاء الدين خرمشاهي، وهو أحد المتخصّصين في شعر حافظ الشيرازي، أن كيارستمي يسعى إلى محو الهالة الأسطورية الضبابية عن حافظ الشيرازي وتقديمه على أنه كائن أرضي أولًا، في محاولة للكشف عن الحِكم التي تزخر بها هذه الأشعار وتقطيعها بشكل يمنحها البريق الذي تستحقه، والذي يرى كيارستمي "أنها حُرمت منه ضمن الديوان الأصلي لـ "حافظ" بفعل الموسيقى والقافية". وكان كيارستمي سبق أن عمل على الاحتكاك بنصوص سعدي الشيرازي أيضًا بطريقة متفرّدة في "سعدي يستغيث من نفسه" في عام 2007، وكأنه يعمل على تسهيل مرور هذه القصائد إلى عصرنا ويضرب بيده وبفرشاته وبكثير من الحساسية كولاجات شعرية ولوحات متصلة بعالمنا الراهن.

من أفلام عباس كيارستمي" "سوف تحملنا الريح"، "طعم الكرز"، "كلوز آب"،"أين منزل الصديق؟"  



استعار كيارستمي أيضًا بعضًا من عناوين أفلامه من قصائد لشعراء إيرانيين، مثل عنوان قصيدة للشاعر سهراب سيبهري "أين منزل الصديق؟"، ومن الشاعرة فروغ فرخزاد استقى العنوان لفيلمه "سوف تحملنا الريح". عمل كيارستمي على تحويل الصور الشعرية إلى لقطات سينمائية، وهي خاصية لا نجدها لدى مخرجين آخرين، وهذا هو تمامًا انعكاس روح الشاعر في سينما كيارستمي، حتى أن الشعر سيكون مكوّنًا أساسيًا في حوارات الشخصيات الرئيسية. ففي فيلم "سوف تحملنا الريح" ثمة لقطة طويلة يمر فيها الطبيب ومخرج الفيلم على دراجة بخارية في حقل من القمح تتماوج سنابله، ومع حوارات عميقة عن العالم الآخر بأنه أفضل مكان، يقول الطبيب قصيدة لعمر الخيام: يعدنا بالحور العين في الجنة/ ولكنني أقول النبيذ هو الأفضل/ خذ الحاضر بدلًا من الوعود/ الطبل يُسمع أكثر رخامة من بعيد. وهكذا يمزج كيارستمي بين الشعر والسينما ليقدّم لنا موقفًا فلسفيًا من الوجود.

من الجملة الأولى في الديوان الأولى يتبدّى لنا أن صاحب "طعم الكرز" في الشعر يشبه نفسه تمامًا في السينما؛ نحن أمام صور متلاحقة مكثّفة، صورة تتبعها صورة، لقطات مقرّبة في شذرات من الهايكو الذي يضع بين أيدينا صورًا شعريًا في أقل عدد من الكلمات. وكما تتصف قصائد الهايكو بالبساطة الخادعة بما يخص جذورها وقوة مضامينها وتتطلب عمقًا روحيًا برغم تركيزها على مفردات الطبيعة ببساطة بالغة، فإن كيارستمي شكّل معجمه اللغوي من المكان نفسه الذي ينبع منه الهايكو الياباني فاستخدم في بناء عمارته الشعرية البنفسجات الصفراء وأشجار الكرز والغيمات البيضاء والثلج والريح والفراشة والتفاحة والقمر وغيرها من فضاء الطبيعة. لنلاحظ مثلًا استخدامه لكلمة الثلج، يقول: "المقبرة بكاملها كاسية ثلجًا، وحدها قبور ثلاثة ذاب الثلج عنها، قبور حديثة العهد ثلاثتها" - "الثلج يذوب سريعًا، وسريعًا تمحو آثار العابرين، صغارًا وكبارًا" - "بياض الحمامة يضيع بين الغيمات البيضاء ذات يوم ثلج" – "ألق القمر يضيء تنّوبة كساها الثلج" – "يسّاقط الثلج، من غيمة سوداء فوق بياض الثلج" – "فوق حبل الشجرة، نشروا ثلجًا، في هذا البرد؛ ثلجًا لن يجف قبل أمد بعيد" – "في ألف شيء فكرت، بالمعبد، عندما خرجت كان الثلج يتساقط".. على أن هذه النصوص تتبعها نصوص أخرى يؤرشف فيها للثلج من سطوح متعدّدة ثم ينهي كتابه الأول "بصحبة الريح" وهو يقول: "ثلج وثلج وثلج، نهار ينتهي وليلُ ثلجٍ يسّاقط" و "آثار ماشٍ في الثلج، هل كانت له فيه مشغلة؟ أيعود؟ ومن الطريق نفسه؟". وعلى هذا المنوال تجري حركة كيارستمي الشعرية الموزّعة بين التصوير اللوني والضوئي باستخدام مواد طبيعية تقدّم أعمق المعاني عن الواقع المشغول بحفيف الحزن من أوله لآخره.

أما الليل فهو الثيمة التي تحرّك فضاءات كيارستمي الشعرية والتي تشكّل البطانة الداخلية للقلق المزمن له وللشعر الإيراني المعاصر، يقول: "أموت كل ليلة، وأحيا مجدّدًا مع إشراقة الشمس" – "في ليل حالك، أهبط إلى بئر، في قعرها وردة بيضاء بخمس بتلات" – "أخشى أن تضطر الخيول البرية إلى قضاء الليل في حظيرة الأغنام، خوفًا من الريح" – "أرق في ليل أضاءه القمر، حوار غير مثمر حتى الفجر مع الذات".

وكما كان الأطفال من أبرز الشخصيات في حكايا كيارستمي السينمائية نجده في الهايكو يشغّل عدسته ليتفحّص براءتهم وبخطوط شفافة نراهم ينظرون إلينا من بين كلماته، يقول كيارستمي "على ضوء سراج العسس، يرسم الطفل، بينما الأب نائم" – "تلميذ يمشي على السكة الحديد القديمة وهو يقلّد بشكل أخرق، صوت القطار" – "هذا الطفل الصغير لا يراعي، في حديثه مع أديب المدينة الكبير، قواعد اللغة" – "ألف طفل عارٍ في الثلج، كابوس ليلة شتاء" – "أطفال قرويون يسدّدون، دون رفة جفن، نحو رأس الفزاعة الصفيح".

عباس كيارستمي خلال تصوير أحد أفلامه، وكتابه "سينما مطرزة بالبراءة" 



ومع استخدامه لمفردات الطبيعة لا يغادر كيارستمي واقعيته الشديدة، ثمة خليط من الشخوص الذين لا بدّ تركوا أثرًا في نفس الشاعر وكأنه كان معهم وقت الصورة، فإذ به يوثّقهم بلغة شعرية تنحدر مباشرة من القلب، وكأنه يُخرجهم من العتمات ومن ذاكرته هو، يقول كيارستمي: "مئة جندي مهذّب يلجون المخدع مع ضوء القمر، أحلام غير مهذبة" – "امرأة اشتعل رأسها شيبًا، ترنو لأشجار الكرز المزهرة، هل حلّ ربيه شيخوختي" – "بنات الهوى، إن لم يكن لدى زبائنهن مال، يقبلن قصائد" – "راهبة عجوز تتناول غداءها وحدها – صوت الغلاية" – "لص متعاطف مع شرطي نائم، عند مطلع الفجر" - "ست راهبات يتجولن، وسط أشجار الدلب الباسقات، نعيق غربان" – "امرأة أرقة، يائسة من مداعبة رجل نائم بقربها" – "امرأة حامل تبكي، مكتومة الصوت، في فراش رجل نائم" – "رجل متعب، وحيدًا، على مبعدة فرسخ من بُغيته" – "جنود الاحتياط يتابعون بشغف أخبار الحرب والصلح" – "القائد والجندي، كلاهما جريح، كلاهما جائع، كلاهما مثير للشفقة" – "غريق، في لحظاته الأخيرة، أهدى العالم بضع فقاعات" – "يتمنى، هذا الشاب الوديع، الطيران في أعماقه"- "مراقبو الفصل، آن لهم، أن يراقبوا أنفسهم".. تصطف الشخوص في شعر كيارستمي من التلاميذ والمزارعين والعشاق وسماسرة الشعر والملاحين والصيارفة إلى الصياد والمهرج والطاهي والشاعر المغمور والرجل الضرير وغيره من الشخوص التي تختزل حياة كاملة، حياة قد تكون مجهولة لنا، ببضع كلمات وبضعة هواجس رمّمها في شحنات بصرية صادمة، وكأنه يتلاعب في شذراته بمساحات الإضاءة والتعتيم لتبدأ هادئة ثم ترتفع لترتفع أكثر. وهي الطريقة نفسها التي اتبعها في أفلامه، يقول كيارستمي في أحد حواراته: "هناك شخص أرجعني إلى لوحات رامبرانت واستخدامه للضوء: بعض العناصر تضاء بكثافة بينما البعض الآخر يُهمَل بل يُدفَع إلى الوراء نحو الظلمة. هذا شيء نفعله، نستخرج عناصر نود التركيز عليها".

ولا يكتفي صاحب "نسخة طبق الأصل" بتأملاته البصرية والتصويرية عن العالم فنراه يعود مرارًا إلى نفسه وإلى أشيائه دون زخرفة في الكلمات، مستندًا إلى شروط الهايكو، يقول: "وحيدًا أشرب، وحيدًا آكل، وحيدًا أضحك، وحيدًا أبكي، وحيدًا أمضي" – "لا تكتمل أبدًا، محاورتي لنفسي" – "اغفروا لي وانسوا خطاياي، أما أنا، فلن أنساها أبدًا"- "أحصي في زحمة أشجار غير مثمرة، أعوامي العابثة" – "العزلة حصيلة اتفاق غير مشروط، بيني وبين نفسي"، ويترك كيارستمي مساحة لحنينه المزمن الذي يتصل مباشرة بكل شاعر فيكتب عن مسقط رأسه العديد من الشذرات، ومنها: "عدت إلى مسقط رأسي، مياه النهر جفّت، فلا طفل يسبح" - "عدت إلى مسقط رأسي، ملعب طفولتي صار ركام حديد وجير" – "عدت إلى مسقط رأسي، لا أحد يرد على تحيتي، يا لأساي!" – "في مسقط رأسي، لم يتذكرني حلاق الطفولة، دون اهتمام قصّ شعري"..

عباس كيارستمي حاملًا جائزة "السعفة الذهبية" في "مهرجان كان" عام 1997 عن فيلمه "طعم الكرز" (Getty Images)



على أن أكثر ما يلفتنا في شعر كيارستمي اعتماده على التضاد لرسم الصورة الشعرية المثبتة بالنقائض، فنراه يعمل على تفكيك الأشكال وإعادة بنائها وفق منظوره الخاص المربوط بإحكام بالخضرة الشعرية حيث تتراكم المفردات فوق بعضها البعض بهدوء يتيح لنا رؤية أدق الأشياء حولنا، تلك التي لم ننتبه لها من قبل، ومن المتضادات التي استخدمها: "الجنة والنار متجاوران، متباعدان" – "يا له من طريق شاق أن نسلك الليل والنهار، الخير والشر، الصمت والصخب، الكراهية والغضب، العشق، العشق" – "في مخيلتي جحيم يدفئني في صقيع العزلة" – "تحت ظل القمر، أستلقي، هاربًا من قسوة الشمس"..

ولعلاقة صاحب جائزة "السعفة الذهبية" مع الشعر حيّز من العشق تم تظهيره في القصائد، يقول: "في المحكمة الليلية، أنقذني الشعر" - "حين لا يكون في جيبي شيء، يكون لي الشعر، حين لا يكون في ثلاجتي شيء، يكون لي الشعر، حين لا يكون في قلبي شيء، لا يكون لي شيء" – "قرأتُ في غرفة متواضعة في فندق، قصيدة عن السهل" – "في أحذية طفولتي القديمة، دائمًا ما تختبئ قصيدة أو قصيدتان غير مكتملتين"  الطائرة الورقية التي وهبتُها للريح في طفولتي حطّت، اليوم، في قصيدتي" – "حين أطلّ الفجر، ذبلت قصيدتي، حين أشرقت الشمس، ماتت قصيدتي" – "في زوج جواربي البيض جرى العثور على بيت شعري".. علمًا أن حديثه عن الشعر يطلّ من بين شذراته بشكل متواتر.

وكما تأخذ موضوعات الحياة والموت حيّزًا في فلسفة أفلامه منها "ثلاثية كوكر"،  "الحياة، ولا شيء آخر…"، "طعم الكرز"، و"الريح سوف تحملنا"، تحط أيضًا ومرارًا في شعر كيارستمي؛ صور عن الحياة والموت تتناوب على المعنى، "أطرد الموت من حفل عقدي السابع، ولكنه ما زال يتجلّد" – "طالما فكرت، دون أن أدرك، لِمَ نخاف الموت" – "أموت كل ليلة وأحيا مجدّدًا مع إشراقة الشمس" – "الموت حب أبدي في قلب توقف عن الخفقان" – "ادفنوا قلبي كسرة كسرة، فهو قابل للكسر" - "أخشى الأمكنة الشاهقة، سقطتُ من مكان مرتفع، أكثر من مرة أحرقتني، أخاف الانفصال، تعذبتُ كثيرًا، لا يرعبني الموت، لم أمت ولو لمرة واحدة"، إلا أن نبوءته الصغيرة تتجلّى في شذرة من آخر شذراته المرقمة 384 في ديوانه الأخير "ريح وأوراق" يقول فيها: "لفرط ما عانيت، فارقت الحياة".

الذين قرأوا كيارستمي سيدركون لماذا كان أسلوبه في السينما متفرّدًا ولماذا اختار دائمًا تشغيل فيلمه بحوارات شعرية حينًا وفلسفية حينًا أخرى ببساطة شديدة وبكثافة شديدة فتتبدّى لنا لوحة كاملة غير قابلة للمحو من الذاكرة. إنها تمامًا ترشف من نبع الهايكو فكأن الشاعر والمخرج والمصوّر الفوتوغرافي والرسام يجتمعون لالتقاط صورة فوتوغرافية لا تحترق وربطها ببعد تأملي يجمع بين عدد من الصور لإنتاج صورة واحدة تتحمّل الكثير من المواقف الفلسفية، وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده في تصوير أفلامه. إن الأعمال الشعرية الكاملة لكيارستمي تحتاج إلى قراءة تالية ودراسة معمّقة لتعدّد ثيماتها وضرباتها التشكيلية حيث يظهر لنا كيارستمي وكأنه يحرّك المفردات في لعبة من الكلمات المتقاطعة، لنصل في النهاية معه إلى سيادة الصورة في شعره وسيادة الشعر في صوره السينمائية والفوتوغرافية.