"الإمبراطورية العثمانية: السلطان والمجتمع والاقتصاد": التاريخ المبكّر
عمر كوش
28 أبريل 2023
يتناول المؤرخ التركي، خليل إنالجيك، في كتابه "الإمبراطورية العثمانية: السلطان والمجتمع والاقتصاد" (ترجمة مهتاب محمد، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2022)، كيفية كتابة المؤرخين الأتراك الأوائل التاريخ العثماني المبكر، ثم يقدم أطروحاته، وفقًا لمنهج نقدي، لمجمل تاريخ الإمبراطورية العثمانية، من خلال التركيز على دور السلاطين وسياساتهم وتشكيلاتهم العسكرية، واستعراض أحوال مختلف الفئات الاجتماعية، وبنى الاقتصاد وأنظمته ومرتكزاته في تلك الفترة الزمنية، بالاستناد إلى مخزون الأرشيف العثماني والدراسات المتخصصة بهذا الشأن.
يبدأ المؤلف من التساؤل عما إذا كان العثمانيون أنفسهم قد قسموا تاريخهم إلى فترات زمنية أم لا، وعما إذا كانوا قادرين على التمييز بين العصر الذي عاشوا فيه والعصور السابقة، ثم يستعرض أفكار بعض المؤرخين الأتراك في القرنين الأول والثاني من التاريخ العثماني، أمثال عاشق باشا زادة (1400 ـ 1484)، وكمال باشا زاده (توفي في 1535)، ومصطفى عالي غاليبولي (1541 ـ 1600)، وسواهم، وبعدها ينتقل إلى البحث في قضايا التأريخ المدني والقانوني للعثمانيين، والأطروحات حول منهجية التقسيم المرحلي للتاريخ العثماني، وتاريخ سلاطين بني عثمان، مع تبيان أسباب ودوافع قوانين الدولة التي صدرت في عهد سليمان القانوني (1494 ـ 1566)، وتأثير الإمبراطورية العثمانية الواضح على إسلام الشعوب التركية بشكل عام، وعلى تاريخ الإسلام في آسيا الصغرى بشكل خاص.
وتضمنت كتابات قدامى المؤرخين العثمانيين، من أمثال المؤرخ مصطفى عالي غاليبولي، مؤلف كتاب "نشأة السلاطين"، وجهات نظر عامة حول تاريخ الدولة، للذين اهتموا بعوامل انهيار القانون والنظام، عبر تتبع بداية الانهيار، بالعودة إلى عهد مراد الثالث (1574 ـ 1595)، ومحمد الثالث في الربع الأخير من القرن السادس عشر، فيما رأوا أن عهد السلطان سليمان هو النموذج الذي يجب الاقتداء به، وأرّخوا للإمبراطورية بالاعتماد على أفكار ابن خلدون، التي ترى أن الدول كالبشر تمرّ بثلاث مراحل، تبدأ بطور النمو، ومن ثم تنتقل إلى طور النضوج المستقر، وأخيرًا تتجه نحو الانحدار والانحطاط، حيث تقسم كل مرحلة إلى فترات عدة، لكن المؤلف يقترح القيام بدراسة حالة التوازان التي نشأت بين الإمبراطورية العثمانية وبين القوى الأجنبية، والنظر في مسألة تطور طبيعة سلطة الحاكم السياسية داخل الإمبراطورية نفسها، وأخيرًا آلية حيازة الأراضي والتملك، التي اعتمدت عليها المؤسسات العسكرية والمالية والاجتماعية فيها.
يرى المؤلف أن الجهاد، أو الغزو، أي الحرب المقدسة، هو المبدأ الديناميكي الذي اعتمدته الدولة العثمانية حتى نهاية القرن السابع عشر. ولم يكن الجهاد يهدد الإمبراطورية البيزنطية وبلدان البلقان فقط، بل امتد ليصبح مسألة أوروبية في عهد بيازيد الأول (1389 ـ 1402)، فخلال الفترة الممتدة بين الأعوام 1393 و1396 انطلقت الجيوش العثمانية صوب البحر الأدرياتيكي و"موريا" من جهة، وصوب ضفاف الدانوب من جهة أخرى، ما استدعى دفع العالم المسيحي للقيام بحملة صليبية. ثم شكل سقوط بلغراد في عام 1521، ومن بعده سقوط جزيرة "رودس" اليونانية في عام 1522، بداية مرحلة جديدة بين الشرق والغرب، حيث لم تعد الدولة العثمانية مجرد دولة حدودية للغزاة على أطراف العالم الإسلامي، بل باتت تحتضن أهم دول العالم، لتصبح ممثلة الخلافة الإسلامية نفسها. ثم نجح السلطان محمد الفاتح (1451 ـ 1481) في فتح القسطنطينية عام 1453. ومع حلول منتصف القرن السادس عشر، أصبح العالم برمته ساحة للجهاد، وأصبحت الدولة العثمانية بوصفها حامية العالم الإسلامي نشطة على كافة الجبهات. وكان المبدأ الأساسي الذي سارت عليه السياسة العثمانية يقوم على الحفاظ على تناحر العالم المسيحي، ففي القرن السادس عشر، نظر العثمانيون إلى كل من الهابسبورغيين (عائلة ملكية نمساوية)، والبابوية، الساعين إلى توحيد أوروبا، كعدوين لا يمكن التوافق معهما، فقاموا بتقديم كل الدعم لجميع الحركات التي قامت ضدهما في أوروبا. يشار هنا إلى التحالف العثماني مع فرنسا، حيث تعهد سليمان القانوني في رسالة وجهها إلى الأمراء اللوثريين في ألمانيا، وكتبت عام 1552، بعدم مهاجمة البروتستانت طالما ظلوا على وفاق مع حليفته فرنسا. كما أرسل العثمانيون رسائل تشجيعية إلى الهولنديين خلال تمردهم على فيليب الثاني ملك إسبانيا. وكان العثمانيون على الدوام من الداعمين بقوة للكالفانيين في المجر، وأولوا أهمية بالغة لإقامة علاقات ودية مع الملكة إليزابيث الأولى (1533 ـ 1603) ملكة إنكلترا، وقدموا امتيازات تجارية للإنكليز في بلاد الشام، بدلًا من الفرنسيين الذين امتثلوا للسياسات الكاثوليكية.
على صعيد السلاطين وسياساتهم، يسجل المؤلف أنه بدءًا من عهد محمد الفاتح، استخدم سلاطين بني عثمان لقب "سلطان البرين وخاقان البحرين"، ولم يحاولوا إظهار أنفسهم ورثة لسلطنة السلاجقة الروم في الأناضول، إلا في عهد بيازيد الأول (1389 ـ 1402)، الذي تقدم بطلب منحه لقب "سلطان الروم"، لكن تيمورلنك هزم بيازيد في 1402، وأعاد تبعية إمارات الأناضول إلى سيادته، وباتت الدولة العثمانية تنضوي تحت حكمه، واعترف بها كل من محمد الأول (1413 ـ 1421)، ومراد الثاني (1421 ـ 1451)، الذي بدأ العثمانيون خلال عهده بتبني فكرة انتسابهم لقبيلة "كايي"، وقبائل "الإيغور".
ظلت السيادة العثمانية على الأناضول عرضة لتهديدات من الشرق والغرب، حيث حاول أعداء العثمانيين إقامة تحالفات ضدهم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، الأمر الذي دفعهم إلى مواصلة صراعهم العالمي على كلا الجبهتين الشرقية والغربية، واضطروا إلى الحفاظ على جميع مواردهم في حالة الاستعداد الدائم، والامتثال لإدارة واحدة، جسدها نموذج السلطة المركزية المطلقة، الذي سارع منظرو السلطة المطلقة في أوروبا إلى تقديمه كمثل يحتذى به. ونهض النموذج العثماني في السلطة المركزية المطلقة على الطابع الوراثي الخاص للدولة العثمانية، حيث يستعين المؤلف بأطروحات الفيلسوف الألماني ماكس فيبر حول الدولة الوراثية، التي تجعل من التنظيم الإداري والعسكري مجرد وسيلة شخصية بيد الحاكم لتوسيع سلطته التوسعية، وأن لجوء الحاكم للقوة من أجل المحافظة على التوازن بين مجموعات القوى المتنافسة كان أحد المبادئ الأساسية للنظام السياسي العثماني.
من جهة أخرى، تعرضت السلطة العثمانية، خاصة في حقبتها الأولى، إلى تهديد الولايات الحدودية، وانتهجت إدارتها سياسة تمكن السلطة المركزية، من أجل الحيلولة دون تأسيس الولايات الحدودية إمارات مستقلة في مناطقها، فقام محمد الثاني بتقوية قوات عسكرية تدعى "الكابي كولاري" تتبع له مباشرة في مواجهة القوات الحدودية. وكانت هذه القوات تتولى مهمة تنفيذ أوامر ونواهي السلطان، وتنفيذ قراراته في الولايات العثمانية كافة.
واعتمدت الدولة العثمانية على نظام "الكول"، أي العبودية، بوصفه أكثر العوامل فاعلية في الحفاظ على السلطة المركزية والسلطة المطلقة للسلطان. وبدءًا من عام 1361، ازدادت الحاجة إلى بناء عدد من المؤسسات المركزية، بغية مواكبة متطلبات الدولة التي بدأت بالاتساع بشكل كبير، حيث جرى تشكيل قوات "الإنكشارية"، التي كانت عبارة عن جيش دائم مدفوع الأجر، يتبع السلطان مباشرة، وبفضل هذه القوات كان السلطان دائمًا أقوى من الأمراء الحدوديين، واستطاع بالاعتماد عليهم إلحاق الهزائم بخصومه من الأمراء الحدوديين، كما حصل على سبيل المثال في معركتي كوسوفو في 1389، ونيكوبوليس 1396، لكن ازدياد أعداد قوات الإنكشارية، وتنامي قوتهم، زادت من سطوتهم، فتحولوا إلى ما يشبه الميليشيات العسكرية، ووصل بهم الأمر إلى قتل السلطان عثمان الثاني في عام 1622، ثم قاموا بخلع كل من محمد الرابع، وأحمد الثالث، عن العرش، ولم يتمكن السلطان والقصر من استعادة سلطتهم إلا بالقضاء على القوات الإنكشارية في عام 1826.
يتوقف المؤلف عند حرص السلاطين العثمانيين، ولا سيما بيازيد الأول، ومحمد الثاني، على اجتثاث السلالات المحلية والسادة الإقطاعيين في المناطق جميعها، وإلغاء الامتيازات المحلية، ففي البلقان لم يعد الفلاحون يتعاونون مع الأمراء والسادة المحليين، لعدم قدرة هؤلاء على الاستمرار في حمايتهم، فانضموا إلى رعايا الدولة العثمانية. كما وجدت الفئات العسكرية المحلية أنه من الأسلم ربط نفسها بالنظام المركزي الجديد الذي يحفظ صلاحياتها وامتيازاتها. كما أن أفواج المهاجرين القادمين من الأناضول، سواء من طبقة العلماء، أو المحاربين، أم من الفلاحين المحتاجين للأراضي، كانت تنضم بأعداد متزايدة للخدمة تحت سلطة الدولة العثمانية المطلقة، علاوة على قيام محمد الثاني بإدراج قانون قتل الأخوة ضمن قانون السلطنة، وما تلاه من إلغاء للعرف الذي كان سائدًا قبله، ويقضي بإرسال الأمراء لحكم السناجق. وعليه انتقل البيت العثماني من التقاليد التركية القديمة للحكم، والتي كانت تقوم على تداول السلطة بشكل مشترك بين جميع أفراد العائلة الحاكمة، إلى الفكرة الشرقية القديمة، والمقدسة للسلطة، وغير القابلة للتجزئة، والمتجسدة في شخص حاكم واحد.
ويبحث المؤلف في نظام حيازة الأراضي والتملك، حيث كان الأساس الاجتماعي والاقتصادي لنظام الإمبراطورية العثمانية المركزي مبنيًا على آلية خاصة للملكية، تضمن السيطرة المباشرة على الأراضي كافة، ووضعها تحت سلطة الدولة، التي مكنت حيازة الدولة للملكية السلطة المركزية من السيطرة على النظام الاجتماعي، وتوجيهه بما يتوافق من سياساتها، وتخصيص الإيرادات وفقًا لأهدافها واحتياجاتها الظرفية. ويميز المؤلف بين ثلاثة مستويات لنظام حيازة الأراضي العثماني، الأول يقوم على حصر حق الملكية بيد الدولة، والثاني يعطي للفلاح الحق في استئجار الأرض بشكل دائم منها، والثالث يقوم على ممثل للحكومة يدعى "السيباهي"، باعتباره صاحب "التيمار" (قطعة من الأرض تمنح لشخص مقابل وظيفة معينة)، ويمتلك سلطة التحقق من عدم الاعتداء على حقوق الدولة، وهو من كان يجمع الضرائب ويفرض القوانين، ومقابل واجباته تجاه الدولة يحصل على أجرة، بأخذ نسبة معينة من الضرائب التي كان يجمعها.
يتوقف المؤلف في نهاية كتابه عند سعي الدولة العثمانية إلى السيطرة على مضيقي الدردنيل والبوسفور، وعلى حركة النقل في البحر الأسود، حيث شكلت الأراضي المحيطة بالمضائق المنطقة التاريخية، أو الجيوسياسية للإمبراطورية العثمانية طوال عقود عديدة، وشكلت إسطنبول مركزها، على المستويات كافة، وخاصة في الاقتصاد، حيث لعبت هذه المنطقة دورًا في تحفيز أسواق إسطنبول على مستوى إنتاجها التصديري، وعلى استيرادها لمختلف السلع والمواد من آسيا الصغرى وأوروبا، واهتم السلاطين، بدءًا من محمد الفاتح، ببناء الإمبراطورية حول مدنية القياصرة، وبإعادة توطنيها وتعزيز تجارتها وصناعتها، وما تزال هذه المدينة تحتفظ بأهميتها البالغة بالنسبة إلى تركيا في عصرنا الراهن.