"سؤال المصير": صراع العرب من أجل السيادة والحرية
ضفة ثالثة
4 يونيو 2023
يعد غليون أن الحداثة الغربية هي نتاج قرنين أو أكثر من الصراعات والحروب والهجرات، لإعادة توزيع الموارد وامتلاك التقنية والصناعة والرفاه والحريات الأساسية والتكافل الاجتماعي والأمن بعد ظهور الرأسمالية الصناعية، وليس لها أي صلة بالتراثَين الديني والمدني وبالثقافة التحررية الأوروبية. ويخلص إلى أن الحداثة ليست قالبًا جاهزًا لما عرفته المجتمعات الأوروبية في القرنين الماضيين يكفي التقولب به لتحقيقها، بل هي معركة يخوضها كل مجتمع لتغيير شروط اندراجه القسري في منظومة الحداثة لا بما يملكه من موارد فحسب، بل على نحوٍ أكبر بما تنجح النخب بمواردها الخاصة في انتزاعه من فرص التقدم، على الرغم من أنه قليل في المجتمعات المتأخرة، التي لم ينجح أكثرها ـ إلا بحروب مدمرة ـ في الخلاص من الشَّرَك المطبِق عليها من المنظومة الدولية لمنعها "حقَّها" في التحوّل مركزًا للتراكم الحضاري.
وكما سبقت الإشارة، يعد غليون أن ظهور الحركات الأصولية الإسلامية في بلداننا لا يعبّر عن عودة إلى الماضي، كما يردد معظم الباحثين، بل هو على عكس ذلك؛ يمثِّل قطيعة مع التقليد الإسلامي الكلاسيكي، ويجسّد احتجاجًا وتمردًا اجتماعيًّا يُستخدم فيهما الدين رأسَ مال سياسيًّا في ميدان الصراع الدنيوي في دولة عقيم، لا تترك للشعوب خيارًا سوى التخبط في حمى البحث عن هويات ضائعة. ويعد أن إنزال الحداثة من مستوى الأسطورة كشف دورها في التغطية على مسؤوليات الغرب والنخب الحاكمة في المجتمعات المتخلفة في تهميش الشعوب، وإرساء نظام وصاية رباعي الأطراف: وصاية الغرب على النظام الدولي ودوله، ووصاية النخب على شعوبها، ووصاية المثقفين على الجمهور وحرمانه من الحريات الأساسية، ووصاية رجال الدين على ضمائر المؤمنين واستتباعهم.
يذكّر الفصل الأول من الكتاب بمحاولات بعض رجال الدولة، أو الدين، أو الثقافة، كسر جمود النظم القديمة وإصلاحها، وأن الشعب على الرغم مما يوصَم به من الخضوع لسيطرة العقائد الدينية، لم يُظهر أي معارضة لهذا السعي الإصلاحي، كما لم يمنع الحكم السلطاني المطلق رجالًا مثل محمد علي باشا من اقتحام تجربة التحديث التقني والإداري وإرساء أسس دولة حديثة معظم خبرائها ومستشاريها من الأوروبيين، ومن دفع سياسات الباشا الجديد نخبةَ رجال الدين إلى مطالبة السلطان العثماني بتعيينه واليًا على مصر.
ويعرض الفصل الثاني لسعي الدول الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وروسيا أساسًا، إلى تفكيك السلطنة العثمانية وتقاسم مناطقها والوصاية على شعوبها وإعادة تشكيلها بدويلات جديدة، وإلى القضاء على محاولات هذه الدويلات بناء اقتصاد حديث، أو "دولة ـ أمة" حرة الإرادة والتطلعات ولو بالتدخل العسكري المباشر، وربما بتحالفات دولية ضخمة ضد من يتجاوز خطوطها الحمراء بتدشين أي مشاريع للتقدم الصناعي والتقني والعلمي. ويهدف الفصل من عرض هذه الوقائع إلى التعريف بجذور سياسات الاستعمار، وما بعد الاستعمار، في إظهار المجتمعات العربية وأفرادها وكأنهم يعانون نقصًا بنيويًا، وفي حاجة دائمة إلى الوصاية.
في الفصل الثالث، شرحٌ لكيفية عمل الأيديولوجيا العنصرية على رفد محاولات السيطرة والنفوذ الاستعماريَين بمصادر القوة، ودور هذه العنصرية في عزل النخب المحلية عن شعوبها لإبقائها في ربقة التخلف، ودفعها إلى التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية القائمة، وإظهار الكيفية التي يصنع بها التقدم ذاته بالتزامن مع فرض التخلف على الدول النامية.
ويتحدث الفصل الرابع عن كيفية تحوّل المثقفين العرب، حين أخفقوا في تحقيق مشاريعهم القومية المنشودة، إلى التنقيب في التراث لإظهار أن مشكلة عدم تجاوب الأمة مع الحداثة والهزائم التي تعرضت لها تكمن في تمسك العرب الشديد به؛ فتحوّل هؤلاء المثقفون، مما بدا في ظاهره محاولة للنقد الذاتي بعد فشل معركتهم، إلى جلد للذات العربية إجمالًا. ويتطرق الفصل إلى تأثر الدعاة الإسلاميين أيضًا بتخلف الأمة، واتجاههم إلى ما سمّي "الإصلاح الإسلامي"، وكذلك الفلاسفة العرب الذين بحثوا في بنى تكوين العقل العربي.
أما الفصل الخامس والأخير، فيتناول علاقة المثقفين العرب بشعوبهم، ويستعرض رؤى هؤلاء المثقفين لكيفية التعامل مع التراث، قطعًا أو تصحيحًا أو إعادةَ تأويل أو حتى دعوةً إلى الإسلاموفوبيا والعداء للإسلام.
كتاب "سؤال المصير.. قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية" يمثل مراجعة ذاتية ونقدًا لدور المثقفين في مجتمعات لا تكفّ "الحداثة الرثة"، بتعبير مؤلفه، عن تفكيك عراها، وتذكيرًا بمسؤوليات الشعوب العربية والنامية عمومًا للعمل على تحقيق التحرر والانعتاق والمساواة والتضامن الإنساني والسلام العالمي.
برهان غليون: مفكر ومؤلف سوري، شغل منصب أستاذ علم الاجتماع السياسي، ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس (1990 ـ 2017). حصل على دكتوراة الحلقة الثالثة في علم الاجتماع السياسي (1974)، ثم على دكتوراة الدولة في العلوم الإنسانية (السوربون 1982). عمل في عدد من مراكز البحث العلمي الدولية. اختير في عام 2011 رئيسًا للمجلس الوطني السوري المعارض بعد اندلاع الثورة السورية. له عشرات المؤلفات والأبحاث المنشورة باللغات العربية والأجنبية، منها:" بيان من أجل الديمقراطية" (1976)؛ "نظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة" (1990)؛ "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة" (1992)؛ "نقد السياسة: الدولة والدين" (1994)؛ "النظام السياسي في الإسلام" (2004)؛ "العرب وتحولات العالم" (2005)؛ "النخبة والشعب" (2010)؛ "عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل" (2019).