أدب الرّحلة يستمرُّ مُتجدِّدًا: "الدّرر البهيّة" للباجوريّ نموذجًا
فيصل درّاج
8 يوليه 2023أدب الرّحلة يستمرُّ مُتجدِّدًا: "الدّرر البهيّة" للباجوريّ نموذجًا
فيصل درّاج
8 يوليه 2023
السؤال المحتجب في كلام الرحّالة المصريّ هو التالي: إذا كان أهل الشرق مفتونين "بصنائع الغرب"، فما هي أهدافهم من التعرّف عليها، وهل يمتلكون أدوات الإفادة منها؟ الإجابة واضحة وغائبة معًا، ذلك أنّ معلومات "الرحالة" تقصّر عن التعامل الصحيح مع معلومات غيره. يظهر ذلك في المعارف التي تلقّاها أفندي عمر الباجوريّ، حين عرّف بذاته. فقد بدأ بما تعلّمه في الجامع الأزهر من نصوص دينيّة، وعرّج على "علوم البلاغة"، وذَكَر الكتب التي درسّها لغيره، وهي مزيج من الدين واللغة، وأدرج بندًا غامض القَصْد عنوانه: "شرح أنّ لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص"، الذي يقود، في التحديد الأخير، إلى "القَدَرية"، وإيمان الإنسان بما أغدق الله من مَلَكاتٍ وإمكانيّاتٍ. لا تصدر صفة "التابع" بلغة أبو محارب عن تباين المعارف والقِوى، بل من جوهر الإنسان كما أراده الله أن يكون.
تمثّل الرحلةُ مرآةً مزدوجةً تعكس واقعين حضاريين متفاوتين، وتكشف عن فكرين متباينين ولغتين مختلفتين في الإمكانية، ذلك أنّ اللغة من الفكر، وأنّ فكرًا متقدمًا تعجز عن الإلمام به "لغة تابعة"... ولهذا تأخذ كلمة "الوابور" عند الباجوريّ معنيين لموضوعين غير متساويين، وتظلُّ في الحالين عاجزة: فهي الوابور بالحالة الأولى، وتعني القطار، وفي الحالة الثانية هي الباخرة، والأول والثاني معًا اختراع سبق إليه الغربيُّ مجتمعَ "الرحّالة". وهنالك "البدروم"، وتعني السيرك، وهي اشتقاق "ريفيٌّ" تائه، وتمرُّ كلمة غريبة هي "بوغاز"، وتعني المضيق، وكلمات تُرِكت على حالها الأجنبيّ مثل: الجاليريه، مينيوس، إلسانسير (المصعد)...، بيد أنّ ما يجدر التنبيه إليه هو الجهدُ المعرفيُّ الدقيق، بل الواسع التدقيق، الذي بذله "الباجوريُّ" في نصه، سواء مسّ التاريخ، أو الجغرافيا، أو الحياة الاجتماعية، مع غياب للاجتهاد اللغويّ غيابًا كاملًا، تقريبًا، معترفًا بأنّ "مؤونته اللغويّة" أضيقُ من أن تتسع "للأعاجيب الأوروبيّة"، أو لتلك "الدرر البهيّة"، كما لو كان افتتانه بكلّ ما هو أوروبيّ يَصُدُّه عن "تعريبه". ولهذا قَبِل بكلِّ ما أتت به الحضارة الأوروبية، باستثناء "تململه" من هشاشة الحياة الزوجيّة، وانتشار الخِداع المتبادل بين الأزواج والزوجات... يتراءى في أُفُق القراءة سؤالٌ مؤرِّقٌ: إذا كانت اللغة حامل القوميّة، فما هي الهُويّة القوميّة/ المعرفيّة التي عاين بها الباجوريُّ الحضارة الأوروبيّة؟ لا مجال للحديث عن "التثاقف"، الذي هو حوارٌ بين ثقافتين حاضرتين تتبادلان الاعتراف، إنّما الحديث، على الرغم من ميول الرحلة النهضويّة، أقرب إلى "التبعية الثقافيّة"، التي أملت على صاحب الرحلة الركونَ إلى صيغة التفضيل: "أفعل"، إذ الصنائع الأوروبيّة هي "الأبدع"، والربوع الأوروبيّة هي "الأجمل"، وشوارع المدن هي "الأنظف". ولهذا كان الباحث عامر سلمان أبو محارب مصيبًا وهو يستدعي، بشكل موجز، صفة "التابع"، مستبعدًا الفعل ينهض، الذي أخذت به الراحلة الكريمة رضوى عاشور حين قالت متفائلة: "التابع ينهض".
من المحقق أنّ "الدرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة" لم تكن ممكنة القراءة من دون جهد المحقّق، على المستويين اللغويّ والمعرفيّ، الذي وضع الرحلة في سياقها التاريخيّ، وتقصّي آثار مؤلفها ومعارفه وثقافته، وكتبه، وأنجز قراءة نصيّة موضوعيّة بعيدةً عن الهوى والاستسهال، نفذت إلى قَرار النّصّ ومكوّناته، وقبضت على القول الأيديولوجيّ الصادر عنه.
اتكاءً على القراءة النافذة، استنطقَ الأستاذُ عامر خطاب الرحلة الذي ينوس بين الكتابة الرّحلية/ التسجيلية والكتابة الإبداعية، وانتهى إلى رحلة/ مرجع تتبوّأ بين "الرحلات النهضويّة" مكانًا جديرًا بها على مستوى الكتابة والبناء، وتتكشّف رحلة/ مرآة تعكس تصورات الرحالة المشرقيّ المفتون بالغرب، والمأخوذ بمنجزاته من دون مساءلة.
تعامل الأستاذ عامر مع رحلة الباجوري "كنصّ توثيقيّ تسجيليّ"، معتمدًا على توثيق دقيق متعدد الوجوه يضيء الرحلة في مستوياتها البنائيّة المتعددة، ويكشف عن تناقضات "رحّالة نهضويّ" انبهر بلا أسئلة، فترجمت تناقضاته مآل نهضة عربيّة هزمت من بداياتها، فقد شكّل الغرب علاقة داخليّة في الوعي النهضويّ المشرقيّ أرسى فيه إعاقة فكريّة لا يسيطر عليها، انبهرت بالمنجز الغربيّ، ولم تسائل شروطه الاجتماعيّة والسياسيّة. كأنْ يرددَ ذلك الوعيُ المعوّقُ شعار المساواة، من دون أن يدرك أن المساواة ديمقراطيّة، وأن الديمقراطيّة ثورة اجتماعيّة، وأنّ المساواة والديمقراطيّة يستندان إلى "مجتمع المواطنة"، حيث المواطن يعرف حقوقه وواجباته، يمارسُ حقوقه في الرفض والاقتراح والتغيير، ويقومُ بواجباته إزاء مرجع سلطويٍّ أعلى يمارس بدوره واجباته كمصدر للعدالة.
والأرجح، بل الأكيد ربما، أنّ الوعي النهضويّ العربيّ المعوّق حلم طويلًا، وتوّهَم حالمًا، استقر في عجز متوالد مفرّجًا كربه بقول مريح: "كل ميسّر لما خلق له"، هذا القول الكريم الذي له سياقاتٌ مختلفة.
"الدّرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة" كتاب يُعلِّم ويُسائِل، يصف صادقًا، ويبالغ في الوصف "مرتاح الضمير"، ليشكل، في الحالات جميعًا، وثيقة أدبيّة تاريخيّة، أعطاها عامر سلمان أبو محارب ما تستحق من "العناية والتحقيق والدراسة والمساءلة المنهجيّة"، وأعطى، وهو يُحقّق ويُقدّم، درسًا في "النزاهة الفكريّة والمسؤولية العلميّة".