عروض

"من سيبيريا: جزيرة ساخالين": السجن والمنفى وضمير الكاتب

سليمان بختي

25 فبراير 2024
يقوم أنطون تشيخوف برحلة خطرة استكشافية إلى جزيرة المنفيين (ساخالين)، في كتابه "من سيبيريا: جزيرة ساخالين"، ترجمة عبد الله حبه، وصادر عن "المدى للإعلام والثقافة والفنون"، 2021 (400 صفحة)، مسجلًا للتاريخ والأجيال القادمة وقائع فترة قاتمة من الأحداث الأليمة في الجزيرة المنعزلة بعد انتهاء عهد القنانة في روسيا القيصرية. تبدأ رحلته المضنية في بداية نيسان/ أبريل 1890 إلى مدينة أرسك. ينطلق الكاتب المغامر الذي لقبه تولستوي "ببوشكين الناثر"، في عربة يجرها حصانان في رحلة لآلاف الكيلومترات استغرقت 81 يومًا وسط الغابات والعواصف الثلجية والمستنقعات. كان دافعه إلى تلك الرحلة اكتساب تجارب حياتية جديدة وتقديم جديد للقراء.
كان الوضع في سجون المنافي في روسيا في تلك الفترة يحظى بإهتمام بالغ في الأوساط التقدمية الروسية. فجاء الكتاب بمنزلة صرخة مدوية تدين السلطة القيصرية والمجتمع الروسي عمومًا (حظرت الرقابة نشر فصلين من الكتاب). فهو عرض لمآسي النساء السجينات والمومسات في سن 14 عامًا، والسجناء السياسيين في الجزيرة. لا ينتمي الكتاب إلى أدب الرحلات، كما أنه ليس يوميات مسافر، بل يتألف من مقالات وصور قلمية وقصص في داخل الزنزانات وفي أماكن الأعمال الشاقة.
يسهب تشيخوف في وصف عالم السجناء المبعدين. هم مدمنون على السرقة وشرب الخمر ولعب القمار والصبر على المكاره والإهانات. علاوة على الوضع البائس للأطفال الذين رافقوا آبائهم وأمهاتهم إلى السجن والمنفى. طرح تشيخوف في هذه الكتاب مسألة ضمير الكاتب وموقفه من المجتمع، وهي مسألة تطرح بحدة في الآدب الروسي بشكل خاص.
الطقس بارد في سيبيريا والغابات الخضراء كثيفة والبحيرات مغطاة بطبقة جليد معتمة. "لم أرَ في حياتي قط مثل هذا العدد من الطيور"... يشعر تشيخوف بالكآبة. يسافر من منطقة إلى أخرى في قافلة من العربات... "هؤلاء الذين يمضون الآن في الطريق إلى جانب عرباتهم يبقون صامتين. وجوههم مرمّدة، عابسة". لم يبقَ للمنفيين في الحياة سوى: الفودكا والمومس. يصف الكاتب طبيعة سيبيريا القاسية بشكل دقيق: قرى متباعدة. وفي كل قرية كنيسة، وأحيانا كنيستان، والبيوت الريفية خشبية... أهل سيبريا يحبون النوم في فراش ناعم ويصارعون الطبيعة طوال العام. إن الأخلاقيات هنا من ناحية السرقة عجيبة والتقاليد طيبة".
العاصفة تؤخر السفر وتعيقه فالطريق موحلة ونهر أرتيش واسع. يضطرالكاتب للمبيت في منزل موجيك (من طبقة دنيا) آخر بسبب رداءة الطقس. "هذا الفيضان بمنزلة قصاص! قيل له إن الشعب هنا جاهل وبلا موهبة... لا يجيد عملًا... شعب كئيب". بعد وصوله إلى الجزيرة يتحدث تشيخوف عن المثقف السجين المنفي الذي يجد نفسه متعاطفًا معه. يناقش مسألة النفي الرهيب بحد ذاته لأنه يستمر مدى الحياة. وهو يرى أن الإعدام في روسيا وأوروبا لم يلغ بل تغيرت صورته (المواطن... يموت إلى الأبد). "لدي قناعة أنه بعد 50-100 سنة سينظر إلى عقوبتنا المؤبدة بشيء من الحيرة والارتباك". في حديثه عن المرأة في سيبيريا، يرى الكاتب أنها بلا تلاوين، وباردة، ولا تجيد اختيار الملبس... ولا تغني ولا تضحك. بيوت الدعارة كثيرة، علنية وسرية.
يصف تشيخوف الطبيعة والغابات في تايغا ذات الأشجار العملاقة والطيور المهاجرة. المكان مهيب وجميل في مدينة نيقولايفسك ونهر آمور عريض جدًا ونصف البيوت مهجورة "تتطلع إليك النوافذ المعتمة بلا إطارات وكأنها ثقوب العيوب في الجماجم". يتابع سفره على متن سفينة متوسطة الحجم لنقل البريد والجنود والسجناء والمسافرين والحمولات الحكومية. يصف بدقة جغرافية جزيرة ساخالين. فهي أكبر من اليونان بمرتين. ويعيش المنفيون في القسم الشمالي منها. يتجه نحو الساحل في زورق يسحب خلفه عبارتين فيها سجناء."لا خلجان هنا والسواحل خطرة". كل شيء في ألكسندروفسك بني من خشب وهي بلدة هادئة يقطنها ثلاثة آلاف نسمة.




ينصح الحاكم المحلي تشيخوف "الحياة هنا شاقة ومملة". يجول الكاتب في المدينة فيرى مجموعة من السجناء مكبلة بالقيود. يسمح الحاكم الجديد لتشيخوف بالاطلاع على كل شيء والوثائق ما عدا التعامل مع السجناء السياسيين.
يقوم تشيخوف بإحصاء لنفوس للسكان القاطنين في الجزيرة حيث تعار أهمية كبيرة في ساخالين إلى الوضع الاجتماعي للشخص. وتنوعت الإجابات: عامل، جندي، حر، فلاح... يكتشف الكاتب أن سكان الجزيرة نادرًا ما يفصحون عن تاريخ وصولهم .."عام الوصول إلى ساخالين- عام التعاسة الشديدة". وغالبًا ما يحكم على المتزوجات بالعيشس بعزلة بلا زواج... أما العزاب والأرامل فيعيشون حياة المتزوجين ولديهم نصف دزينة أطفال. خلال تجواله في الجزيرة ومقابلة المنفيين يسأل تشيخوف أحدهم: "لم يربط الكلب والديك عندكم بالسلاسل؟" فسمع الجواب: "الجميع عندنا مقيدون بالسلاسل...". لاحظ تشيخوف أن الموارد شحيحة ويسأل: "كيف يعيش السكان في ألكسندروفسك... ثمة أمور غامضة كثيرة هنا".

يصف الكاتب سجن المنفيين والسجناء في ألكسندروفسك حيث تبقى البوابة مفتوحة دائمًا ويرابط حارس على المدخل. جميع أبواب العنابر تبقى مفتوحة على مصراعيها ويمضي السجناء السياسيون محكوميتهم. جدران غير مطلية، معتمة، تستوعب العنابر بين 70 إلى 170 شخصًا. لا يوجد أي فراش، وينام المساجين على اللوح الخشن. يتمتع السجناء بنوع من الحرية ، فهم بلا قيود أو أغلال، ويمكنهم الخروج من السجن طول النهار والعودة . المراحيض في السجن هي عبارة عن حفرة عادية في فناء السجن... المقاعد موزعة على امتداد الجدار... من المستحيل المحافظة على النظافة في منظومة الزنزانات العمومية في السجون. يسأل الكاتب أحد المساجين: "لماذا أنت وسخ بهذا الشكل؟"، أجاب: "لأن نظافتي ستكون بلا فائدة هنا".

يسود في السجن لعب القمار بشراسة... وإطلاق الشتائم والضحك والثرثرة. حتى الصرافون في السجون يأخذون فائدة بمقدار 15 بالمئة يوميًا. ويعمل في السجن طباخون وطباخات وخبازون وخياطون وعمال تنظيف. كما تعمل عدد من النساء في خدمة المسؤولين في الإدارة. يرى تشيخوف أن قضية الخدمات في ساخالين مؤلمة وحزينة، إذ لا يعتبر ذلك من الأشغال الشاقة بل قنانة. وماذا عن مسألة إصلاح المجرم. يسمع تشيخوف أحد السجناء يقول: "الانتقام هو أكثر المشاعر نبلًا".
يشير الكاتب إلى ذكرياته الطيبة خلال النزهات  في ألكسندروفسك وضواحيها "... إذا وقف المرء فوق الفنار وتطلع نحو البحر ونحو الصخور... يبدو كما لو أنك سجين محكوم بالاشغال الشاقة ويجب أن تهرب من هنا حتمًا...". التسميات في ساخالين تطلق على المدن والبلدات تكريمًا لحكام سيبيريا ومديري السجون.
لفتت قرية نوفو- منيايلوفسكويه نظر تشيخوف لفقرها حيث تعمل السجينات والنساء الحرائر في الدعارة مع السجناء لقاء قروش معدودات بسبب ضيق الحال. "... وإذا ما ضحك أحد ما في الشارع من دون قصد بصوت عال لبدا ذلك حادًا وغير طبيعي".
يتعرف تشيخوف على الجيلياكيون وهم الأهالي الأصليون للجزيرة الذين يقطنون شمال ساخالين. يعيشون على ضفاف الأنهر في حياة غير مستقرة  ويتنقلون لممارسة الصيد. هم لا ينتمون إلى العنصر المنغولي أو التونغوسي بل إلى قبيلة جبارة كانت تسيطر على آسيا كلها. هم في صراع دائم مع الطبيعة. لا يغتسلون أبدًا... شعب غير محارب ولا يحب الخصام ويعيش بسلام مع جيرانه. يبحر الكاتب في سفينة "بايكل" إلى جنوب ساخالين للاستكشاف: "الجنوب هنا مناسب للاستيطان والحياة الهادئة أكثر من الدائرة الشمالية".
يصل الكاتب في تجواله إلى دائرة كورساكوفسك ثم قرية أطلقت عليها تسمية يابانية: بورو- آن- توماري، متابعًا إحصاء السكان والعقارات من منازل وأراض زراعية رائيًا جغرافية المنطقة. يكتشف أن ميزة القرى الجنوبية أنها أقل فقرًا من القرى الشمالية . لكن الطرق والجسور أسوأ منها في الشمال. يبدو الأهالي أكثر شبابًا وعافية ومرحًا. وعدد النساء قليل جدًا في الجنوب. ويصل برحلته الاستكشافية إلى ديميرسكويه، وبوبو فسكيه، وكريستي، وصولًا إلى دوبكي.
يؤكد الكاتب أن السجن نقيض الاستيطان وأن الحياة في الزنزانات المشتركة تحول الفرد إلى عبد وبمرور الزمن تقود السجين إلى الانحطاط. أما المستوطن فيلزم أن يدير شؤون المزرعة كما يجب وبصورة صحيحة... بعد 10 سنوات تمنح له فرصة الاستقرار كفلاح.
يشير تشيخوف إلى أن ثروة ساخالين الرئيسية ومستقبلها هو في الأسماك التي تحمل أكثريتها مياه الأنهار إلى المحيط.
يعيش في سجون الجزيرة تحت سقف واحد عتاة المجرمين والأشرار والقساة الذين لا يمكن إصلاحهم مع المجرمين بالصدفة والتعساء والأبرياء المظلومين. تعتبر أعمال السرقة أمرًا اعتياديًا يشبه الحرفة. كما تنتشر عمليات تهريب الفودكا ولعب القمار والدعارة. والعقوبات الأكثر انتشارًا هي الجلد بالعصي والإعدام في حال ارتكاب جرائم القتل.
الهرب من ساخالين ليس يسيرًا. والحافز عادة هو الحب الشديد للوطن والتطلع إلى الحرية. معظم الذين يحاولون الهرب هم المحكومون بالمؤبد. والوضع الصحي للمنفيين والسجناء بائس. وعدا أسوار السجن هناك أسوار الفكر والإرادة والتغيير.
كتاب تشيخوف "من سيبيريا: جزيرة ساخالين" هو وثيقة لأحوال السجن والمنفى في روسيا القيصرية ورصد أدبي وأنثروبولوجي لعلاقة الناس بالأمكنة والحياة والمصير.