"لست حيوانًا": الفدائي داخل الفلسطيني
بسّام سفر
17 مارس 2024
وعند مدخل حارته، يقفز من السيارة ويدخلها، والذهول في نظرات جيرانه، ومنهم محمد العبد، الذي التصق بالحائط الذي عليه ملصق كبير مزدان بالأعلام تزينه صورة ماجد خليل الحلو، مع عبارة الشهيد البطل، ويقع الأب من المفاجأة أرضًا، والأم تركض نحوه بسرعة صاروخية حافية القدمين متسخة الثياب، تسقط أرضًا متعثرة، فيحملها ماجد، تستجمع قواها وتقبله، ويتمالك الأب نفسه ويعانقه فرحًا بعودته.
يبقى مخيم اليرموك في رواية "لست حيوانًا" للروائي عبد الرحيم منبع الفدائيين الدائم، ومستقر الشهداء، ومولد لحظات الفرح في حياة كل فلسطيني عاش فيه، حيث ينهض المخيم وطنًا في تكثيف ملغوم للزمكان، مشدودًا بوتر الحنين والتنهيدات الحزينة والأهوال الزاحفة، رغم ما حدث به من خراب وهدم في عام 2018، وهو الذي فقد بيته، ولم يجد فيه أية قطعة أثاث.
حب ملحمي
المسار الثاني للسرد في الرواية يتوضح من خلال علاقة الحب التي نشأت بين منال موفق باكير المولودة في مخيم صبرا في بيروت عام 1964، وماجد الحلو الذي تعرف عليها، وانطلقا معًا كسهمين جارفين إلى السماء في رحلة من بيروت إلى فوق عمارات نيويورك إلى فضاءات كوبا والبرازيل، بينما أحمد الكويتي يعلن للفدائيين في الموقع أن ماجد ذاب في خضم الفراغ، وهو كان يمسك بمعصم منال، ويصارع الريح في زيارة الصين، وماليزيا، سابحين بقوة غير مرئية، وعندما يصلان سماء فلسطين يظهر لهما الكائن القمري الذي يحولهما إلى كائنين لا أرضيين، فالحيوانات والقطط والفئران في ميناء حيفا تعرفت عليهما، لأن بينهما جذورًا عائلية تمتد لتسعة آلاف عام مضت، ليرحب بهما القط الجد، ويأخذهما إلى منطقة قريبة من الشاطئ.
ويعود الروائي عبد الرحيم إلى إصابة ماجد الحلو في بيروت، ودخوله مشفى غزة في مخيم صبرا، ووجود منال، وأحمد الكويتي، إلى جانبه، منال التي طلبت منه عدم التدخين، وخاطبته بعد خروج الكويتي من غرفته "لا تهتم... عمري أنت... مهما حدث أنا معك حتى الموت، ثم طبعت قبلة على جبينه"، وكانت تلك أول قبلة من منال.
أما في البيت الكنعاني في حيفا فيفتح القط الجد الصندوق المزخرف البهيج بحركة انسيابية هادئة ورشيقة ومنتظمة السرعة، ويلتفت إلينا وبنغمة محببة قال: "سترحلان الآن في هذا الصندوق، لن نراكما بعد اليوم حتى انتهاء فترة الحياة الدنيا بالنسبة لكما، إنها بالنسبة لنا غدًا، وبتقديراتكم هي سنوات طوال، ويطلقهما في سماء حيفا من جديد إلى جانب نوارس حيفا، ومنال تعلقت بأرجل نورس".
ليعود إلى عمل منال في مشفى غزة ومساعدتها في إسعاف الناس نتيجة القصف الصهيوني مع احتلال بيروت والسيطرة الصهيونية وخروج المقاومة حدثت مجازر صبرا وشاتيلا، وهي في المخيم والمشفى قرب عائلتها التي استشهدت في هذه المجازر، بينما ماجد في مخيم اليرموك، يسمع صوت جورج قرداحي وهو يصدح بالبكاء والإدانة، ويتحرك ماجد إلى بيروت ليجد جسد منال في كيس أسود مرقم بـ 2012.
السرد
يوظف الروائي الراحل وليد عبد الرحيم السرد متنقلًا ما بين الشخصيات الساردة، وأبرزها في مرحلة الغرائبية والعجائبية ماجد والجد القط، التي تتعاطى مع قيمة الحياة السردية من زاوية حب فلسطين والعودة إليها من خلال استخدام التحول من حالة الإنسان إلى حالة الأسطرة الحيوانية للدخول إلى فلسطين المحتلة من قبل الاحتلال الصهيوني، فالاستخدام الغرائبي المنظم في رحلة زيارة عالمية تستقر في نهايتها من حيفا إلى مخيمات الشتات في لبنان (صبرا وشاتيلا) والمجزرة (الشارونية بذراع قواتي لبناني) جعلت السرد يعود إلى ماجد الحلو.
سرديات فضاء رواية "لست حيوانًا" تبدأ من الخيال الثلاثي للمكان الواصل بين مخيم اليرموك في سورية، إلى بيروت والجبل في لبنان، وإلى ميناء حيفا في فلسطين، وفضاءات السماوات التي جعلت من العالم مكانًا سرديًّا واحدًا قابلًا للحياة.