"مُهندس البهجة": في تأويل الفن أيديولوجيًا
محمد هاشم عبد السلام
22 أبريل 2024"مُهندس البهجة": في تأويل الفن أيديولوجيًا
محمد هاشم عبد السلام
22 أبريل 2024
الأيديولوجيا والفن
في "مهندس البهجة"، لا يخوض الكاتب كثيرًا في السيرة الشخصية للمهندس، مثلًا ثُنائية المهندس/ شويكار، إلا للضرورة الفنية فقط، وبقدر ما يخدم أفكاره وتأويلاته، منخرطًا في مقاربة جادة جدًا، تكاد تكون نادرة في الإطار البحثي السينمائي العربي، لأعمال عادة ما يُنظر إليها باستخفاف، أو حتى توصم بالتفاهة. منهج الكاتب لا يتعامل معها باستخفاف، أو باعتبارها محض تسلية بسيطة، أو سطحية. وذلك لإيمان الخشاب بأن هذه الأعمال، بخلاف القيمة الفنية والدلالات الثقافية التي تحملها، ذات إحالات وتضمينات سياسية واجتماعية، في الأغلب الأعم، حتى وإن بدا هذا أحيانًا، في رأينا المتواضع، فيه كثير من التأويل المُفرط للأعمال، وتحميله لها بأكثر مما تحتمله. وربما حتى الإثقال عليها فكريًا وأيديولوجيًا. يبرز هذا في أكثر من موضع ضمن فصول الكتاب، وتحديدًا، اعتبار الخشاب أن فترة نجومية المهندس في السينما، الممتدة من عام 1964 إلى عام 1976، أي، منذ فيلم "اعترافات زوج"، وحتى "فيفا زلاطا"، هي "قمة تجسيد لا وعي المرحلة الناصرية وما بعدها".
يتجلى الأمر أكثر في تأكيد الخشاب لدور فؤاد المهندس كفاعل، بل وكرمز من رموز الإنتاج الثقافي في المرحلة الناصرية، أو، على حد تعبيره، كمُمثل لنوع من الإنتاج الثقافي في مرحلة ما بعد التحرر العربي. وكيف أن المهندس في أفلام عديدة كان يعكس، بطريقة ما، لا وعي المجتمع، عبر تقديمه لجرعات فكاهية تُعَبِّرُ بطريقة غير مباشرة عن المشاعر والأحلام والأفكار والرغبات المكبوتة، وحتى الإحباطات لدى الجمهور في المرحلة الناصرية، وما بعدها. كما يرى الخشاب أن إنتاج الفكاهة كان جزءًا من تنفيذ شعار عبد الناصر. بمعنى أن الدولة مسؤولة عن إنتاج كل شيء، بما في ذلك المنتج الثقافي والفني، وقد اختارت دولة التحرر الوطني الفكاهةَ كنهج للأعمال الفنية لإعادة هندسة وتشكيل وبناء المجتمع. وكان فؤاد المهندس "جزءًا من هندسة هذا المجتمع على المستوى الثقافي"، ضمن فئة كبيرة من الممثلين منذ الستينيات، غير أنه تفرد بإبداعه وجماهيريته.
من ناحية أخرى، مثلًا، يُحيل الخشاب أكثر من مرة إلى أن تكرار شخصية القرين، أو انفصام الشخصية في أعمال فؤاد المهندس كونها بمثابة إسقاط لثنائية جمال عبد الناصر/ عبد الحكيم عامر. ويوغل في مقارنة دور عبد الحليم حافظ كممثل لما أطلق عليه "العروبة الغنائية"، ودور فؤاد المهندس كنموذج لما أسماه "العروبة الكوميدية"، أي إنتاج أغانٍ تحمل خطاب العروبة، وكوميديا تمثل إنتاجًا أو توجهًا عروبيًا. ويشرح كيفية مساهمة كوميديا هذه الأفلام في إنتاج خطابات السلطة وفي مقاومة تلك الخطابات، معًا. ويتساءل، أيضًا، إن كان المهندس قد كرَّسَ في أعماله المصرية أو العروبة؟ وبانحياز أعمال المهندس لتكريس الهوية المصرية، فما سر نجاحه وحبه الشديدين على المستوى العربي العريض حتى الآن؟
نقاط اشتباك
ثمة كثير من النقاط والمحطات، وحتى المراحل المفصلية، في مسيرة فؤاد المهندس السينمائية العريضة، لم يتناولها الكتاب بالدراسة والبحث والتمحيص كثيرًا، وكان من المهم جدًا الاقتراب منها، أو إحاطتها بعمق أكثر لأهميتها. مثلًا، عدم المقارنة المنهجية العميقة لأستاذ بحجم وشهرة المهندس، والفنان إسماعيل ياسين، كأحد أكبر أقطاب الكوميديا في عصره، وأيضًا، النجم عادل إمام، زعيم المرحلة اللاحقة، وقبلهما عبد المنعم مدبولي، مثلًا. وذلك، على غرار رصده وتتبعه ومقارنته لدور وتأثير الفنان القدير نجيب الريحاني على فؤاد المهندس، في بداياته، أو مراحله الفنية الأولى.
اللافت أن الباحث لم يتوقف كثيرًا أمام مفردة "البهجة" بالشرح والتحليل، في ضوء فهمه لها. ومن ثم، الربط والتدليل عليها ضمن أعمال المهندس، أي التعمق في مدلولات "البهجة" على النحو الذي انسحب على مصطلحات أخرى في الكتاب بالشرح والربط والإحالة الجلية، مثل، الفودفيل، وأيديولوجيا الفودفيل والفارس، وغيرها. وبعيدًا عن هذا، فالكتاب في الأساس، يبتعد كثيرًا جدًا عن الفني الخالص، وتشريح وتحليل ونقد جماليات وعيوب ومساوئ ما قدمه المهندس من فن، ليتمحور أكثر حول كونه قراءة مُحِبة، أو حتى عاشقة للمهندس وفنه، رغم المُغالاة في الاستنتاجات والإحالات والمضامين السياسية تحديدًا. وهذا بحاجة ماسة إلى كثير من النقاش والتفنيد والدراسة، نظرًا لأن أغلب الإحالات والاستنتاجات لم توضع ضمن سياق أدبي وفني عام يستعرض ما كان يقدم آنذاك، وتبيان دور العمدية، أو القصد، أو اللا وعي، في ما قدمه المهندس من أعمال من عدمه. أمر يؤكد الخشاب نفسه على صعوبة التيقن من الأمر، وأنه يظل مجرد افتراض، أو تخمين.
أخيرًا، المعروف عن المهندس إبداعه الغزير في أكثر من وسيط فني، ما اضطر الباحث إلى التطرق إليه، واستحالة تجنبه بالطبع، إلا أن هذا التطرق امتد إلى استطرادات جاءت، في النهاية، على حساب السينما التي يستهدفها الكتاب بالأساس، أو على الأقل بناء على عنوانه الفرعي. من ناحية أخرى، لم يخل الجهد المبذول من تكرار لبعض الأفكار، ظن المرء أن الباحث يرغب عبر تكرارها في التأكيد عليها، أو إعادة التذكير بها لأهميتها، أو بغية تناولها من وجهة نظر مغايرة، إلا أن الأمر بدا غير ذلك، في أكثر من موضع، سيما مع التكرار الحرفي أحيانًا. مثلًا، في ما يتعلق باللغة، أو الاقتباس، أو الازدواج، وتجلى في تكرار مُصادفة تاريخ وميلاد ووفاة المهندس وجمال عبد الناصر أيضًا، وأنها كانت في شهر سبتمبر/ أيلول، أو كثرة الإشارة والإحالة إلى ثنائية جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، أو علاقة المهندس بأنور السادات، وغيرها.