عسكر وديستوبيا: ظاهرة جديدة في الأدب الإسرائيلي؟

أنطوان شلحت 13 يونيو 2018
هنا/الآن
كابوس غزة، أو شبحها إسرائيلياً

تلاحظ عدة دراسات جديدة حول الأدب الإسرائيلي أن العقد الممتدّ بين الأعوام 2005 و2015 يتسّم، ربما أكثر من أي شيء آخر، بصدور موجة من الأعمال الأدبيّة القيامية (الديستوبية). وإحدى هذه الدراسات أفلحت بوضع اليد على الدافع الرئيسيّ، الواقف وراء ازدهار هذا الجانر من الأدب، خلال تلك الفترة، وفحواه أن هناك أمرًا جللًا ما في الواقع الإسرائيلي الآني، وليس فقط في ذاكرة الماضي، يثير الخوف والرعب، وبالأساس يثير الرؤى المروّعة حيال المستقبل.

ويستنتج كاتب هذه الدراسة (الأكاديمي والناقد أريك جلاسنر) أن هذا الصنف من الأدب يعلّم القارئ ليس فقط أنّ إسرائيل تنحو نحو التطرّف وتصبح أكثر تديّنًا وتوحّشًا، بل أيضًا أنها أصبحت أكثر تأمرُكًا (نظرًا إلى كون هذه الكتابة هي صنف أدبي مزدهر في الثقافة الشعبية الأميركية وبالأساس في السينما كونها تتيح عرض تأثيرات متميّزة)، كما أضحت أكثر لهاثًا وراء متعة الترفيه.

ويأخذ الكاتب نفسه على كُتّـاب هذه الموجة من الأدب أنهم ينتمون كلهم إلى الجناح اليساري من ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، لكنه في الوقت عينه يتحاشى إسقاط ضرورة الإصغاء إلى النبوءات السوداء الخاصة بهذا الأدب الديستوبيّ "ولو من باب الحذر والحفاظ على الذات"، على حدّ تعبيره.

وكان هذا قبل أن يشهد عام 2017 الفائت صدور ثلاث روايات ديستوبية إسرائيلية لثلاثة كتّاب قرروا أن يقتحموا عالم الأدب من صفوف المؤسسة العسكرية والأمنية.

وهذه الروايات هي "سمك القرش" لميشكا بن دافيد، التي حققت مبيعات مرتفعة، و"بطل" لأريك تشيرنياك، و"غدًا تنتهي موجة الحرّ الخماسينيّ" ليتسحاق نير. والقاسم المشترك لجميع هذه الروايات هو توقعاتها القاسية، حدّ التنبؤ بمثول تهديد جدّي على وجود دولة الاحتلال. 

ووفقًا لما نُشر بشأن الكتاب الثلاثة، لكل منهم خبرة أمنية عملانية، ذات صلة بمضامين الروايات التي ألّفوها. فقد خدم نير وتشيرنياك كطيارين حربيين في سلاح الجو الإسرائيليّ، بينما أشغل بن دافيد منصبًا رفيعًا في جهاز "الموساد". وروايتا تشيرنياك ونير هما باكورة نتاجهما الأدبي، بينما بن دافيد هو كاتب عريق، وفي رصيده نحو 15 رواية وكتابًا آخر.

وعمومًا يمكن القول إن كل واحد منهم يرى المصيبة تأتي من اتجاه مختلف.

وتحدّق رواية "غدًا تنتهي موجة الحرّ الخماسينيّ" في دولة الاحتلال كجزء من صورة جيوسياسية واسعة، وتدّعي بأنه إذا ما واصلت التعلّق بالولايات المتحدة، فستجد نفسها واقفة، في نهاية المطاف، على شفير الهاوية. وتعرض "سمك القرش" الصراع مع الفلسطينيين، الذين ينضم إليهم فلسطينيو 1948، بصفته مصدر التهديد الأكبر، بينما تحذّر "بطل" من الشروخ الاجتماعية الداخلية التي، بمجرّد حصول ضغط خارجي، ستنفجر وتقود دولة الاحتلال إلى الهاوية.

"قد نغدو ذيلًا للثعالب"!

وجمع الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة "يسرائيل هيوم" أخيرًا الكتاب الثلاثة في حوار مشترك للحديث عن رواياتهم.

واستهل بن دافيد حديثه بالقول إنه يخشى بأن إسرائيل تتقدّم نحو كارثة، من جراء عدّة أسباب رئيسية. وقال: "لا أشعر بأن إسرائيل تمتلك تفوقًا عسكريًا واقتصاديًا ونوعيًا واضحًا على الدول العربية؛ لا أشعر بأنّ ثمة تأييدًا دوليًا لإسرائيل، كذاك الذي حظيت به خلال العقود الأولى من عمرها. العكس هو الصحيح. أرى أن ثمة حركات، حتى لو كانت تحصل على تمويل، مثل BDS (حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، تحقق النجاح. أخشى أن يكون قد نشأ واقع يصبح فيه العالم مستعدًا للقبول بعدم وجود إسرائيل، بافتراض أن الثمن الذي سيضطر إلى دفعه لن يكون مرتفعًا جدًا. أعتقد بأن روسيا والصين ليستا في صفّنا، والولايات المتحدة، مع رئيس غير مستقر، قد تنقلب علينا. وفي الحلبة الأقرب، أعتقد بأن غزة في مرحلة الانفجار وسندفع نحن ثمنًا باهظًا لذلك. كما أن سيرورات شبيهة قد تحدث في الضفة الغربية أيضًا. في الجبهة الداخلية، أعتقد بأن إسرائيل أكثر انقسامًا مما كانت عليه في أي فترة سابقة من تاريخها".

وأضاف نير إلى أقوال بن دافيد أمرين حاسمين: الأول، أن إسرائيل غير قادرة على ضمان وجودها المادي من دون دولة عظمى تدعمها. فهي ذيل للأسود، وربما تغدو ذيلًا للثعالب. والثاني، أن الولايات المتحدة، التي كانت الدولة العظمى الوحيدة في نهاية القرن العشرين الفائت، تتعرض الآن إلى سيرورة انحدار وأفول. وربما يستغرق انهيارها 20 ـ 30 عامًا، لكنه سيحدث حتمًا. أما القوة الصاعدة فهي في الشرق، إنها الصين، وربما الهند أيضًا إلى حدّ ما.

وبرأي نير "إنْ أضعنا فرصة الارتباط بالإمبراطورية الصينية وبقينا نضع آمالنا كلها على الولايات المتحدة، فقد نكتشف ذات يوم أنهم سيقولون لنا: "كان لطيفًا جدًّا أيها الأصدقاء، لكن عليكم تدبر أموركم بأنفسكم منذ الآن". وحين يحصل هذا، إذا لم تحدث أمور لا يمكن توقعها الآن، فسيكون الإيرانيون قد امتلكوا قنابل نووية وستكون لديهم صواريخ قادرة على حملها. لن تكون هذه سيرورة قابلة للمنع، ولو حتى بتدخل عسكري كهذا أو ذاك. وعندئذ سيقف اليهود في إسرائيل أمام تهديد وجوديّ يومي. وتحت مظلة التهديد النووي، قد تكون جميع التهديدات الأخرى المعروفة ليست أقل خطرًا بكثير".

أمّا تشيرنياك فقال إنه قلق من الشروخ في المجتمع الإسرائيلي، بصورة أساسية. فالوضع الاجتماعي ـ السياسي هشّ للغاية وقد يمسي أكثر تطرفًا في الحوار بين المجموعات المتنازعة فيما بينها. وأضاف أنه أقل قلقًا من التهديد العسكري بالذات، ويعتقد بأن الحرب التقليدية قابلة للنشوب حقًا لكن في حالات متطرفة فقط، وبأنه في النهاية ستكون في حيازة جميع الدول المحيطة قوة نووية ما. وأعرب عن موافقته على الرأي القائل إن إسرائيل غير قادرة على ضمان وجودها بقواها الذاتية. وربما كان من الأجدى الإسراع، فثمة في الولايات المتحدة الآن رئيس متعاطف وداعم (دونالد ترامب)، وغدًا قد يكون رئيس آخر، غير داعم وغير متعاطف، و"نحن لا نعرف متى سيسحبون هذا البساط".

وبخصوص التهديدات المعروفة، قال نير، بصفته ضابطًا سابقًا في سلاح الجو، إن المتحدثين الرسميين باسم إسرائيل، بمن فيهم قادة سلاح الجو السابقون أيضًا، معتادون على المباهاة بأن "سلاح الجو الإسرائيلي سيعيد أي دولة تهاجمنا بجدية إلى العصر الحجري". وبرأيه هذه عجرفة، إذ يمكن وقف سلاح الجو الإسرائيلي بسهولة، مثلما أوقفت إسرائيل القوات الجوية العربية في عام 1967، وقد كان هو هناك. ولدى القوات العربية كمية هائلة من الصواريخ، ومن السهل جدًا إغلاق مسار الإقلاع بواسطتها.

ويقدم كتاب تشيرنياك وصفًا شبيهًا لطائرات سلاح الجو التي تجثم في مساراتها غير قادرة على الإقلاع من جراء عاصفة رملية. وكذلك لدى بن دافيد: الروس يقصفون المطارات العسكرية ويسلبون إسرائيل تفوّقها الجوي.

وأوضح بن دافيد أنه أخذ الأمور بضع أعوام إلى الأمام. وعرض بعض الأمور المعقولة التي قد تحدث، منها أن يعود "الإخوان المسلمون" إلى الحكم في مصر مثلًا، وينشأ وضع يبدأ فيه الجيش المصري ـ الهائل عدديًا ـ بالدخول إلى سيناء، مما سيغيّر ميزان القوى تمامًا. كما أن سلاح البر الإسرائيلي ليس مؤهلا وليس مستعدًا للمواجهة في حرب متعددة الجبهات. وهذا برأيه فشل بنيوي. وهو مستعد، بالكاد، لمواجهة في الشمال مع سوريا ولبنان معًا. وإذا ما انضم المصريون، ثم الأردنيون أيضًا، فسيكون هذا السلاح في مشكلة حقيقية. ونوّه بأن توقعاته هي وفق فهمه لموازين القوى الحقيقية وطبقًا للتطورات المعقولة، وبأن الحل هو غواصة تحمل صواريخ نووية، تبقى بمثابة "الدرع الواقي الأخير". 

ويشعر بن دافيد بالقلق جراء ما يسميه "التهديد الداخلي". ويقول: "أعتقد بأننا غير منظمين تنظيمًا حقيقيًا لحالات طوارئ قصوى، وخاصة لاحتمال حصول تمرد عربي جديد داخل حدود الدولة. ليس ثمة بحث جدي لاحتمال انضمام العرب في إسرائيل ـ بصورة جزئية ـ إلى أعدائنا في حالة حرب. أعتقد بأننا لا نملك جوابًا على هذا في مستوى الاستعداد السياسي والعسكري. ليست لدينا وحدات حُدّدت مهمتها بالمسؤولية عن اقتحام منطقة وادي عارة، أو شارع رقم 6 على الأقل، إذا ما استولى عليهما العرب الذين يعيشون في المنطقة ومنعوا التنقّل الحرّ فيها".

لا مستقبل للإمبراطوريات!

يقول بن دافيد إنه بغض النظر عن ماهية الحلول التي يقدّمها، لا بُدّ من أنها ستتيح تجاوز الـ 20 ـ 30 عامًا المقبلة بنجاح. لكن أي إمبراطورية لم تعمّر طويلًا. فالإمبراطورية اليونانية أو الرومانية حكمتا العالم كله آنذاك، بيد أنهما انهارتا واندثرتا، والاتحاد السوفييتي كان إمبراطورية عظيمة تفككت بين ليلة وضحاها. وحتى لو كانت إسرائيل إمبراطورية، لما أمكنها أن تعمّر 200 أو 300 عام.

فبادره السائل إلى القول إن انكلترا موجودة منذ ألف عام على الأقل، إن لم يكن أكثر، فأجابه بن دافيد: "إنكلترا ليست في وضع يتحدّى فيه طرف ما مُجرّد وجودها، لكن كثيرين تحدّوا وجود الإمبراطورية البريطانية. وإنكلترا أيضا ستشهد انقلابات، فاسكتلندا تريد الانفصال، وسنرى ما سيحدث من ثمّ في إيرلندا وويلز. وبلجيكا ستنقسم إلى دولتين، وأمور شبيهة ستحدث في العالم كله. ليست هناك دولة واحدة يمكن أن تدوم لعدة أجيال، إن لم تكن دولة شعب واحد!".

*****

نحن إذًا إزاء جانب جديد في كتابة أدب الديستوبيا الإسرائيلي، الذي تحوّل مع انتهاء العقد الأول من الألفية الثالثة إلى ما يشبه الظاهرة في الكتابة الأدبية الإسرائيلية. فهل يشكل هذا الجانب إيذانًا ببروز ظاهرة أخرى ضمن تلك الأعم؟. هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.

إلى ذلك الحين، يتعين القول إن لهذا الجانب تعبيره الاجتماعي والثقافي، وله شهادته المخصوصة على المجتمع، وهو ما سعينا إلى استجلائه هنا، وإن بنظرة طائر.

كلمات مفتاحية

رواية BDS إسرائيل اسرائيل والعرب