رحيل أحمد جميل الحسن.. رجل بحجم وطن

ميسون شقير 25 ديسمبر 2019
هنا/الآن
"وداعا يا أجمل الأصدقاء، أعزي فيك بيارات الجليل،وساحات دمشق"
هناك أشخاص يتحولون إلى أمكنة، وأزمنة، مثلما يتحولون إلى طائر من معنى يحط على شجرنا الذي حاولنا أن نحمله معنا أنا رحلنا، أشخاص لا ندري من أين يأتوننا كلما حاولنا العبور إلى أنفسنا متلبسين بالشوق أو متلبسين بالوطن.

ويأتي يوم وتخبرنا شاشة زرقاء على شكل مأتم، بأنهم غافلونا ورحلوا، لا نصدق، نشعر أن أشجار روحنا قد بدأت بالتكسر، ونفكر: كيف يرحلون، لا يمكن لهم أن يرحلوا وهم جزء من الذي ننتظر العودة إليه، إلى من سنعود إن كلهم رحلوا؟
من هؤلاء أحمد جميل الحسن، أبو جلال، الكاتب الفلسطيني السوري، الواسع، الرحب، الطيب الحازم، الواثق بذاته، وبالآخرين، المراهن على الكلمة وحدها لحمل حمل التشرد، والقهر، والبؤس، والفقر، وكل رايات المخذولين العالية.


أول الحكاية
أول الحكاية كان هناك في الحجر الأسود، في دمشق، في بيت صغير عمرته قلوب كبيرة، بيت صغير كان علينا أن ندخله من خلال حارات ضيقة، ثم من خلال ممر صغير، ضيق، ثم نصعد درجا تختلف المسافة بين درجاته لتعطي الصاعد عليها وقتا أطول في تجهيز ذاته للوصول إلى ذاك الصالون غير المدهون والذي استطاع أن يحيطنا في حضور ألوان لم يجدوا لها اسما بعد.
ندخل الصالون، تستقبلنا ابتسامة أبي جلال، ترحيبه، وده الطافح، احتفاؤه الداخلي العميق بنا، وبكل من سبقونا إلى سهرة يوم الجمعة الأدبية، وبكل من سيأتون بعدنا إليها. هذا الصالون البسيط، الطاعن في كثافة الصورة الطالعة من الروايات والقصائد والقصص القصيرة، الطاعن في تعقيد الدراسات النقدية عن هذه الروايات والقصص والقصائد، الممتلئ بشغف المبدع، ونشوته، وبتفكيك جاك دريدا لنص هذا المبدع، ولحياته، ونفسيته، وقهره وبأسه المشرف على الانتصار.

نجلس في هذا الصالون الذي عرف طيلة ما يزيد على عشرين عاما، الكثيرين من الكتاب الكبار، المعروفين، وأولئك الذين حطوا في أرض اللغة جديدا كعصفور تركه أمه للتو وحيدا في بهو السماء، كما عرف صالون أبي جلال أيضا الشغوفين فقط بالاستماع، الملوثين بلوثة القراءة والكلمة، والكثير من المهمومين بتشريح الكتب وإظهار قلبها وسكاكينهم للعلن.
أول مرة تعرفت على أبي جلال كانت منذ ثمانية عشر عاما، حين ناقش صالونه هذا رواية والدي "التجذيف في الوحل"، وتفاجأت حينها بجدية الدراسات البحثية التي قدمت عن الرواية، وبجدية الحاضرين، وبسوية الحوارات وعمقها، وتفاجأت أكثر بشخصية صاحب هذا البيت الذي يفيض إلفة ودقة، ودا وحزما بنفس الوقت، يعرف على صاحب الكتاب الذي سيكون محور هذا المهرجان الأدبي الحر من كل الأطر الرسمية المتخشبة، هذا البيت/المهرجان/ المؤسسة/ الصالون الصغير/ الواسع كأفضل مركز ثقافي في هذا العالم الضحل، ثم ينظم تسلسل المداخلات والحوارات، ويحمي الجميع من الصوت العالي، ومن تجريح المفردات القاسية.
تلك السهرة بقيت في روحي كأنها قطعة من عالم آخر. بعدها دعانا أبو جلال للمداومة في حضور مهرجان يوم الجمعة هذا، وقدم لنا مجموعته القصصية هدية، قرأت المجموعة وعادت بيارات يافا تزهر بغير موعدها، وعاد ملح الرحيل يثقب القلب. 
لاحقاً التقيت أبا جلال في مقر اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين في شارع العابد في دمشق لأستلم الجائزة الأولى عن قصتي "لم أنم حتى أستفيق" في المسابقة التي أعدها الاتحاد للقصة القصيرة عام 2008، وكان أبو جلال مدير جلسة تكريم الفائزين ومقدمها ومنظمها، وكعادته كان ودودا جميلا، رحبا صاغيا، منتبها شغوفا، بسيطا أليفا، يتحدث بلغة أدبية عالية ويحتفي بنجاح الآخرين كأنه هو من فاز بنوبل.
تابعت الحضور في فعاليات المقر وكان أحمد جميل الحسن وريث هذا المكان الذي استقرت فيه نخبة من أقلام فلسطين في فترات مختلفة: يوسف الخطيب، ماجد أبو شرار، حسام الخطيب، محمود درويش، خليل الزبن، خالد أبو خالد، رشاد أبو شاور، ناجي علوش، ناجي العلي، فواز عيد، صالح هواري، عبد الهادي الشروف، فيصل دراج، يوسف سامي اليوسف، غسان وعدنان كنفاني، علي إسحق.. ومَرَّ عليه العشرات، إن لم نقل المئات من كتاب ومثقفي عالمنا العربي.


فلسطين حيّة
خلق لنا أبو جلال هذا فرحا من لا فرح، تألقا حقيقا في عالم الزيف والمجاملة، فلسطينا حية بكل سحرها وبحرها وجليلها قبل أن تدركها الفاجعة، وزهوا كأننا الناجون الوحيدون من المجزرة.

ذهبت لسهرة يوم الجمعة الثقافية في بيته بعدها عدة مرات، وكل مرة كان الحبق الذي يسكن حافة بسمته يلاقينا، تسبقه ضحكته ولمعة عينيه، وتسبقه فلسطينه التي تسكن في فضة الصوت وفي بحته، مثلما يسبقه الينا أمل يركض على رمل سقط من بين أصابعنا.
خلعت اسرائيل عن أحمد جميل الحسن مسقط رأسه فيها، وخلع القصف على حارات المخيم في 2015 بيت الشتات الذي ترك تعب عمره فيه، خلع القصف عن البيت جدرانه وسقفه، ليكون محكوماً على الفلسطيني الرحيل إلى آخر الكون.
ذهب البيت، ذهب تعب العمر، لكن أبا جلال لم يقبل بفكرة الرحيل عن دمشق، فالغريب يعرف أنه "حين نعتاد الرحيل، تصبح كل الأمكنة زبدا نخطو عليه ونميل".
وها أنت ترحل اليوم يا أبا جلال، وتتركنا لنحصي كم متنا، وكم أحصينا فينا مجازر ومخيمات، وكم عشنا وسنعيش في صور يسندها شريط أسود ليحميها من انهيار الحياة.
ترحل ولا يرحل بيتك من باحة الروح، أنا البعيدة عن دمشقي آلاف الكيلومترات، أنا المبعدة عن بلاد ضاقت بأحلام ناسها، مثلما ضاقت بأصواتهم وقصائدهم آلاف الجراح، البعيدة عن والدي وتجذيفه في هذا الوحل الذي كسر مجاذيفنا وابتلعها، يباغتني وأنا هنا، في غربتي، رحيل مفزع جديد برحيلك، يباغتني اغتراب عصي على الوصف، كأن من كان يحرس لنا المكان كي نعود، قد تخلى عنا وذهب ولن يعود، ومن جمعنا يوما وكان سيجمعنا في أي مكان، وأي زمان، رحل ولن يعود، ومن انتصر للجمال ولفلسطين وللكلمة، انهزم، ولن يعود.
يكفيك يا صديقنا أنك كتبت كثيرا، وراهنت على الحياة كثيرا، وعلى بيارات حيفا كثيرا، وعشت قليلا، ولكن موتك حفر في كل من مر بك حفرة بحجم وطن.
تركت لنا روايتك، قصصك، ودرج بيتك بالدرجات مختلفة المسافة بينها، كي نصعد بما تركت لنا إلى أنفسنا، علنا نصل يوما إلينا سالمين.
وداعا يا أجمل الأصدقاء، أعزي فيك بيارات الجليل، وساحات دمشق وحواري الحجر الأسود التي لم يبق فيها القصف ولا حجر، وأعزي فيك كل سهرات مساء يوم الجمعة التي ستنطفئ بعد الآن. 


سيرة
أحمد جميل الحسن من مواليد قرية السيلة الحارثية – قضاء جنين، فلسطين عام 1957.
تلقى تعليمه في مدارس مخيم جنين حتى الثالث الابتدائي ثم انتقل إلى إربد في الأردن مع عائلته وأتم تعليمه الابتدائي في مدارس وكالة الغوث.
في عام 1970 انتقل إلى دمشق حيث أقام في مخيم اليرموك وأتم تعليمه الإعدادي.
انخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية فأصيب في المعارك مع العدو ثلاث مرات.
عاد وأتم تعليمه الثانوي في دمشق ثم درس الحقوق في جامعة بيروت العربية وفي دمشق.
بدأ الكتابة منذ كان صغيراً وكانت أولى كتاباته قصائد وخواطر، وكانت له زوايا ثابتة في نهاية الثمانينيات في ثلاث مجلات شبابية فلسطينية هي: الغد الجديد – من ذاكرة الوطن. الشبيبة – حكاية بطل من ثورة 1936. الكفاح – من أغانينا الشعبية الفلسطينية.
كتب في صحف الثورة والبعث وتشرين والنور والوطن ومجلة الموقف الأدبي وجريدة الأسبوع الأدبي ومجلة الطليعي لقصص الأطفال ومجلة الطلائع وصوت فلسطين والمعلم العربي ومجلة الرابطة، وكلها تصدر في دمشق.
صدر له: الزواج والموت في الأغنية الشعبية الفلسطينية/دراسة؛ انكفاء، مجموعة قصصية؛ آيلافيلا، رواية؛ شيء من الحزن، مجموعة قصصية؛ الغريبة، رواية (وهي من إصدارات وزارة الثقافة). وشارك في مجموعات بروق، وقوس قزح.
شارك في العديد من المهرجانات القصصية.
فاز بجائزة القدس للإبداع- الجائزة الثالثة- في القصة القصيرة عام 2001. وجائزة اتحاد الكتاب العرب- الجائزة الأولى-  عام 2004. وجائزة الزباء- المرتبة الثانية- عام 2005.
كان أمين سر جمعية القصة في اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين من عام 2003 وحتى عام 2005. ومقرر جمعية القصة في اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين من عام 2007 وحتى يوم وفاته في 17 كانون الأول/ديسمبر 2019.

 

كلمات مفتاحية

المقاومة الفلسطينية الأغاني الشعبية دمشق فلسطين قصة قصيرة الأدب الفلسطيني