ثكنة عسكرية داخل "الجامعة العبريّة" بالقدس
بنك معلومات: "الأكاديميا المُجنّدة"
أعلنت مجموعة "أكاديميا من أجل المساواة" لدى تأسيسها أنها تعكف على إعداد "بنك معلومات" باسم "أكاديميا مُجنَّدَة" يشمل مواد وتقارير إخبارية، من وسائل الإعلام الإسرائيلية
والأجنبية، ووثائق وتقارير رسمية صادرة عن الجامعات، ويرمي أساسًا إلى كشف زيف الادعاء الإسرائيلي بأن الجامعات في إسرائيل "هي جسم مستقل ومتنوّر وتقدمي"، وهو الادعاء المركزي المستخدَم، عادة، في مقاومة مبادرات المقاطعة التي تنضم إليها جامعات متعددة في أنحاء العالم ضد الجامعات الإسرائيلية، وذلك من خلال كشف وتأكيد الدور العميق الذي تقوم به الجامعات الإسرائيلية في تكريس الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، من خلال تعاونها الوثيق مع المستوطنات والمشروع الاستيطاني، ومع الجيش والصناعات الحربية، ومع الجهد الإعلامي الإسرائيلي ضد حركة المقاطعة الدولية.
وقالت نتالي روتمان، أستاذة التاريخ في جامعة تورنتو، وإحدى المبادرات إلى تأسيس مجموعة "أكاديميا من أجل المساواة"، إن الفكرة الأساسية من وراء مشروع "بنك المعلومات" هي الرغبة في الكشف عن الممارسات العديدة المتنوعة التي تلجأ إليها الجامعات الإسرائيلية في قمع الآراء والمواقف المعارضة، والتمييز المنهجي والمُمأسس ضد الطلاب والمحاضرين الفلسطينيين من مواطني إسرائيل، إلى جانب الدور العميق الذي تؤديه في خدمة الاستيطان والاحتلال. وتؤكد أن "بنك المعلومات" سيزوّد الأكاديميين في إسرائيل، وفي العالم، بالأدوات اللازمة والملائمة لفهم كيفية تعاون الجامعات الإسرائيلية تعاونًا تامًا مع الاحتلال، على عكس الصورة المرتسمة لها دوليًا، وكأنها تشكل جبهة معارضة ومقاومة للسلطة اليمينية الحاكمة. وتوضح أيضًا أن "الأكاديميا الإسرائيلية، من مجلس التعليم العالي (المسؤول عن الجامعات)، وحتى التنظيمات الطلابية المختلفة، تتعاون تعاونًا وثيقًا مع الاحتلال بطرق شتى. ولذلك كان من المهم جدًا توثيق هذا التعاون، وكشف خيوطه ومجالاته، سعيًا إلى البحث عن طرق جديدة مناسبة لمواجهته والتصدّي له".
ولا يقتصر الهدف من وراء إنشاء "بنك المعلومات"، بحسب روتمان، على تفنيد ودحض المفاهيم المغلوطة عن الأكاديميا الإسرائيلية فقط، بل يتعداه إلى "وضع علاقاتها مع الحكومة والاحتلال في دائرة الضوء، وكشف طابعها الحقيقي". وتضيف: "صحيح أن ثمة مجموعة صغيرة من المعارضين السياسيين في الأكاديميا الإسرائيلية، بيد أن هذه المؤسسات تقيم منظومة من التعاون الوثيق مع النظام على أساس يومي. ولذا ثمة فرصة أمامنا الآن لكشف حقيقة هذا التعاون الذي يسبغ الشرعية على ما لا يجوز شرعنته"!
وبدأت مجموعة "أكاديميا من أجل المساواة" عملها على إنشاء "بنك المعلومات" انطلاقًا من مجموعة مقالات جمعها الباحث الاقتصادي الإسرائيلي شاي حيفر، تكشف وتوضح مجالات التعاون الاقتصادي ما بين الجامعات من جهة، والمستوطنات والجيش والصناعات الحربية من جهة أخرى. ثم انتقلت المجموعة لاحقًا إلى جمع مقالات ووثائق حول قمع الأكاديميين الفلسطينيين في إسرائيل وفي الضفة الغربية.
وتتوزع المواد في "بنك المعلومات" ـ وجميعها مواد علنية منشورة ـ على أربعة أبواب: الأكاديميا العالمية، والتمويل الدولي، والأكاديميا الإسرائيلية، والأكاديميا الفلسطينية.
ويتيح "بنك المعلومات" للمتصفحين متابعة ورصد حالات انتهاك الحريات الأكاديمية في الجامعات الإسرائيلية. كما يتيح متابعة ورصد الوجهات المركزية في الأكاديميا الإسرائيلية في الوقت الراهن، مثل العدد المتزايد من البرامج الرامية إلى "مقاومة محاولات نزع الشرعية عن إسرائيل في العالم"؛ العنصرية المُمأسسة ضد الطلاب الفلسطينيين في الجامعات والكليات الإسرائيلية، بدءًا من شروط القبول، مرورًا بمنع استخدام اللغة العربية، وانتهاء بالرقابة المفروضة عليهم، وتضييق حريتهم في التنظيم والنشاط السياسي؛ ازدهار "البرامج والمساقات الخاصة" التي توفرها الجامعات الإسرائيلية المختلفة لجنود الجيش الإسرائيلي وعناصر الأجهزة الأمنية الأخرى "من خلال خفض جدي للمعايير والمتطلبات الأكاديمية، في كثير من الأحيان"؛ التعاون الزاحف ما بين مؤسسات التعليم العالي داخل "الخط الأخضر" والكليات في الضفة الغربية والجولان المحتلين؛ التعاون بين الجامعات الإسرائيلية ومؤسسات رسمية في مشاريع عسكرتارية، مثل المشاركة في تسويق الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
ويشمل باب "الأكاديميا الفلسطينية" توثيقًا واسعًا للاقتحامات العسكرية الإسرائيلية للجامعات ومؤسسات التعليم الفلسطينية في الضفة الغربية، بما يتخللها من اعتقالات للطلاب وأعضاء السلك التعليمي، إلى جانب القيود المشددة على حرية الحركة والتنقل المفروضة على الطلاب في قطاع غزة. مع التأكيد، من خلال مقالات ووثائق وتقارير عديدة، على صمت رؤساء
وكبار رجالات الأكاديميا الإسرائيلية المُطبق حيال القمع الذي يعاني منه زملاؤهم الفلسطينيون.
ويدور في الأعوام الأخيرة سجال حول غايات الهجوم الذي تشنّه السلطة اليمينية الإسرائيلية على الجامعات، وأجّجه على نحو مُسبق البرمجة وزير التربية والتعليم في حكومة بنيامين نتنياهو المنتهية ولايتها، وكان بمثابة تصعيد لجولات هجوم أخرى خلال ولايات حكومات يمينية سابقة.
وتمثلت آخر تجليات هذا التصعيد في العمل على سنّ قانون جديد يرمي إلى تخويل "مجلس التعليم العالي الإسرائيلي" صلاحية تقليص الميزانيات الحكومية المرصودة لأي مؤسسة من مؤسسات التعليم العالي (جامعات، أو كليات، أو معاهد أكاديمية) إذا ما كان بين طاقم المحاضرين فيها مَن يؤيد مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية أو يدعو إليها.
وسيُعدّل هذا القانون الجديد قانونًا قائمًا يُسمى "قانون المقاطعة"، جرى سنّه في تموز/ يوليو 2011، ويفرض سلسلة من الإجراءات والعقوبات على أشخاص، أو تنظيمات، تدعو إلى مقاطعة دولة الاحتلال، والمستوطنات في الضفة الغربيّة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2016، عيّن هذا الوزير أحد المحاضرين الجامعيين لإعداد توصيات تُحدّد "آداب المهنة" في مؤسسات التعليم العالي، وتشكل "دستورًا أخلاقيًا" لها، وخاصة في "النشاط السياسي والأكاديمي"، الذي يعني كل ما يتعلق بتفوهات سياسية تصدر عن أساتذة جامعيين، وأعلن أن الهدف هو تقليص ما أسماه "التأثير السياسي لليسار في الجامعات"! ورفع المحاضر توصياته وجرى إقرارها في ربيع العام الفائت.
السلطة والمعرفة
لعلّ جانبًا مهمًّا في محور العلاقة بين الجيش/ المؤسسة العسكرية والأكاديميا هو ذلك المتعلّق بتحكّم السلطة في المعرفة.
وسبق أن توقفنا ("ضفة ثالثة"، 7 مايو 2017) عند هذا الجانب من خلال قراءة في كتاب المؤرخ الإسرائيلي النقدي إيلان بابيه "فكرة إسرائيل - تاريخ السلطة والمعرفة"، الذي صدر في ذلك العام بترجمة عربية عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، و"مكتبة كل شيء- حيفا"، وقدّم فيه جبلًا من القرائن على تحكّم السلطة بالمعرفة في دولة الاحتلال، لاسيما خلال الفترة الأخيرة، وأساسًا في سبيل ترسيخ "فكرة إسرائيل" ضمن قالب مُسبق الأدلجة "يجب" أن تقف في جوهره بصورة مطلقة "قصة الخلاص والبطولة وعدالة التاريخ"، وأنها (الفكرة) هي "التمظهر الحتميّ الناجع لتاريخ الأفكار الأوروبي"، وذلك في مقابل الفكرة المُضادة القائلة بأنها تمثّل كل ما هو متعلّق بالاضطهاد والتهجير والكولونيالية والتطهير العرقي. وفي حين تعتمد دولة الاحتلال، كما كان شأنها أولًا ودائمًا، على الجيش والموارد الاقتصادية والقوة السياسية، فإن الفكرة تظل بحاجة إلى "تدعيم معرفيّ" توفره الأكاديميا، على ما يؤكد بابيه، الذي يضيف أن الترويج لـ"شرعية الفكرة" السالفة خاصة على المستوى الدوليّ لا يكفيه الاعتماد على قوة المال أو اللجوء إلى الابتزاز الأخلاقي، إذ يلزم أيضًا إثبات عدالة الفكرة وصحتها. وهذا ما تتطلع إسرائيل إليه، وما تعكف عليه رسميًا، بالأساس من خلال الاعتماد على نخبة مفكريها وأكاديمييها بقصد إضفاء الشرعية على
"الدولة".
كما قدمنا قراءة في كتاب الباحث الفلسطيني، مهند مصطفى: "المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية: المعرفة، السياسة والاقتصاد"، الذي صدر عام 2014 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار، والذي يؤكد فيه أن الأكاديميا تقاطعت مع المشروع الصهيوني منذ إنشاء "الجامعة العبرية في القدس"، ومعهدي "التخنيون"، و"زيف" ("معهد وايزمان" لاحقًا)، في عشرينيات القرن العشرين الفائت. وجرى تسخير هذه الأكاديميا لخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين قبل النكبة وبعدها، وعمل باحثوها على تزويد المشروع الصهيوني بالنظريات والآليات العلمية لتثبيت وهيمنة المشروع الصهيوني في فلسطين في كل المجالات. فمثلًا، كان هنالك دور واضح للأكاديميا والإنتاج المعرفي الإسرائيلي الأكاديمي في قضايا التخطيط والبناء، والاستيطان، وتزويد ما تطلب من معرفة وأدوات على المستويين العسكري والمدني، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وعشية حرب فلسطين. وتمكنت الأكاديميا الصهيونية، كما يؤكد الكتاب، من أن تموضع نفسها كإحدى المؤسسات المهمة على المستوى الإسرائيلي، وعلى المستوى العالمي، سواء في إنتاجها المعرفي والبحثي، أو في دورها في بناء دولة الاحتلال، وخاصة في حالة مجتمع هذه الدولة، كمجتمع مهاجرين وأقليات، وما يحمله ذلك من تحديات كبيرة على دولة ناشئة.