}
قراءات

الأكاديميا المنصاعة لرواية سلطة الاحتلال

أنطوان شلحت

7 مايو 2017
في كتاب "فكرة إسرائيل - تاريخ السلطة والمعرفة"، الذي صدر بترجمة عربية أخيرًا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" و"مكتبة كل شيء - حيفا"، قدّم المؤرخ الإسرائيلي النقدي إيلان بابيه جبلًا من القرائن على تحكّم السلطة بالمعرفة في دولة الاحتلال ولا سيما خلال الفترة الأخيرة، وأساسًا في سبيل ترسيخ "فكرة إسرائيل" ضمن قالب مُسبق البرمجة والأدلجة "يجب" أن تقف في جوهره بصورة مطلقة "قصة الخلاص والبطولة وعدالة التاريخ" وأنها (الفكرة) هي "التمظهر الحتميّ الناجع لتاريخ الأفكار الأوروبي"، وذلك في مقابل الفكرة المُضادة القائلة بأنها تمثّل كل ما هو متعلّق بالاضطهاد والتهجير والكولونيالية والتطهير العرقي.   

وفي حين تعتمد دولة الاحتلال، كما كان شأنها أولًا ودائمًا، على الجيش والموارد الاقتصادية والقوة السياسية، فإن الفكرة تظل بحاجة إلى "تدعيم معرفيّ" توفره الأكاديميا، على ما يؤكد بابيه الذي يضيف أن الترويج لـ"شرعية الفكرة" السالفة، خاصة على المستوى الدوليّ، لا يكفيه الاعتماد على قوة المال أو اللجوء إلى الابتزاز الأخلاقي، إذ يلزم أيضًا إثبات عدالة الفكرة وصحتها. وهذا ما تتطلع إسرائيل إليه، وما تعكف عليه رسميًا من خلال الاعتماد على نخبة مفكريها وأكاديمييها بقصد إضفاء الشرعية على الدولة. 

تنشأ الحاجة إلى الترويج من التحديّات التي تواجه تلك الفكرة خارجيًا، ومن الشكوك المُحتملة التي قد تظهر داخليًا. وبطبيعة الحال ثمة علاقة جدلية بين تلك التحديّات والشكوك. ويعتقد مؤلف الكتاب أن التحديّات ليست مجرّد شأن فكريّ أو فلسفيّ، بل إن لها القدرة على توليد تحرّك ضد دولة الاحتلال من جهة وتضامن مع "أعدائها" من جهة أخرى، ويقول إن الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (BDS) قد تمثّل حالة من التشكيك في أخلاقية فكرة إسرائيل تمت ترجمتها إلى تحرّك مباشر ضدّها.


الشكوك الداخلية و"وسائل الدولة"

يتوقف كتاب بابيه على نحو خاص عند أبرز معلم من معالم الشكوك الداخلية على مستوى المجتمع اليهودي، الذي تمظهر في كتابات تاريخية وأدبية تم تأطيرها ضمن "تيار الكتابة ما بعد الصهيونية" الذي يمثّله تياران هما "المؤرخون الجدد" و"علماء الاجتماع النقديون"، اللذان شهدا نموًّا ملفتًا في تسعينيات القرن العشرين الفائت بتأثير عدة عوامل، أهمها - برأي المؤلف - ما جرى بعد الاحتلال عام 1967 وصولًا إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) مرورًا بالحرب على المقاومة الفلسطينية في لبنان (1982).

وكان أفراد هذين التيارين جزءًا من ممارسات نقدية عالمية "أغرتهم باعتماد منهجية أكثر نسبوية عند دراسة علمي التاريخ والاجتماع والأيديولوجيا القومية لإسرائيل"، كما استفاد آخرون منهم، من حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية، في حين فضّل آخرون تناول الصهيونية وإسرائيل والنضال ضدهما كحالة كولونيالية صرفة.

ثمة عامل مهم آخر، وإن لم يأتِ عليه الكتاب، هو تصاعد تحدّي الفلسطينيين في مناطق 1948 لدولة الاحتلال في تلك الفترة المبحوثة، الذي تطوّر على يد المفكّر عزمي بشارة إلى مشروع فكري - سياسي اعتبر وما يزال الأهم في كل ما يتعلق بمعاداة الصهيونية وتحدّيها.

وكان تصاعد تحدّي "فكرة إسرائيل" من الداخل يعني أن "النموذج المثالي للصهيونية" أعيد النظر فيه. من هنا كان الهجوم على "تيار ما بعد الصهيونية" كاسحًا. وما إن انقضى عقد التسعينيات حتى وُصف هذا التيّار من طرف دولة الاحتلال وأطياف واسعة من المجتمع اليهودي، بأنه خطر ومدمّر ومن شأنه لو استمرّ أن ينزع عن إسرائيل شرعيتها الدولية وأن يهدم أساسها الأخلاقيّ. وهكذا صارت "ما بعد الصهيونية" حركة معادية للساميّة في نظر مناهضيها، وشهد عام 2000 هزيمتها واختفاءها شبه التام، وفقًا لما يؤكد بابيه.

يعتقد بابيه أن دولة الاحتلال مرّت بثلاث مراحل من ناحية الطابع الصهيوني لسلطتها الحاكمة:

في المرحلة الأولى، التي بدأت عام 1948، شكلت الصهيونية الكلاسيكية الأيديولوجيا التي كانت الحكومات الإسرائيلية المتتالية تعتنقها. واستمرت هذه المرحلة حتى عام 1993.

المرحلة الثانية استمرت على أقل تقدير حتى اغتيال رئيس الحكومة السابق يتسحاق رابين عام 1995 وعلى أكثر تقدير حتى عام 1999، واتسمت بوجود محاولة "خجولة" لتبني خطّ أكثر ليبرالية بل وربما ما بعد صهيوني.

المرحلة الثالثة التي بدأت عام 2000، حلّت مكان ذلك سياسة نيو - صهيونية ما تزال قائمة إلى الآن. وأهم ما يسم النيو - صهيونية هو العمل على تكريس "فكرة إسرائيل" كما ذُكرت أعلاه، وإسقاط أي تفسير آخر لها. وأي محاولة لمعارضة التفسير الأحادي لتلك الفكرة، تواجه تهمة جاهزة: "عدم الانتماء إلى الوطن أو حتى خيانته".


التعليم حجر الأساس لرواية "الدولة"

وبالعودة إلى الموضوع الذي نوينا الخوض فيه، وهو السلطة والمعرفة في دولة الاحتلال، لا بُدّ من ذكر ما يلي: على المستوى الداخلي تملك السلطة/ دولة الاحتلال، الكثير من الوسائل التي تعينها على ترويج "فكرة إسرائيل" من الناحيتين الأخلاقية والمنطقية. مهما تكن هذه الوسائل يركّز بابيه على نظام التربية والتعليم، وهو يعتبر أن النجاح الأكبر للصهاينة الجدد، إلى جانب وجودهم الفاعل في كل الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1996، هو سيطرتهم الممتدة على نظام التعليم الإسرائيلي. ويكتب بهذا الشأن: "شرع وزراء التربية والتعليم الليكوديون بالتعاون مع زمرة من الأكاديميين، كثير منهم من جامعة بار إيلان الحكومية الدينية، وجامعة أريئيل في الضفة الغربية المحتلة، في جعل التفسير النيو - صهيوني لفكرة إسرائيل الأساس الأيديولوجي لنظام التعليم الرسمي في البلد.


وقد وضع الصهاينة الجدد الكثير من المواد التعليمية (من كتب دراسية ومناهج وغيرها) التي ستترك أثرًا على الجيل المقبل من اليهود في إسرائيل، وهو أثر من شأنه أن يخرّج جيلًا عنصريًا إقصائيًا مسكونًا بالطهوريّة العرقية". كما جرى بث الروح العسكرية في النظام التعليمي. وبعد ذلك يشير إلى أنه خلافًا بعض الشيء لنظام التعليم، فإن الإعلام والمجال الأكاديمي يتمتعان بالحرية بعيدًا عن هيمنة السلطة، على الأقل نظريًا، ولا يمكن التحكّم بهما. وهذا ما يوضّح أسباب محاولات إحكام الهيمنة عليهما والمتواترة منذ عدة أعوام.

إذا ما تمحورنا حول المجال الأكاديمي، فإن كتاب بابيه يخلص إلى استنتاج واضح مفاده أن الأكاديميا في معظمها انصاعت لـ"رواية السلطة/ الدولة"، سواء كان ذلك عن قناعة حقيقية أو عن قناعة متوهمة من طريق ادعاء الوصول إلى تفسير مماثل لتفسيرها عبر "تحليلات موضوعية".

ويجدر في هذا الصدد أن نسجل كلمات المؤلّف بالحرف: "تبيّن في نهاية المطاف أن الفكرة (فكرة إسرائيل) كانت أكثر قوة ممن تحدّوها. ولم تكن تلك القوة نابعة من قسر أو ترهيب بقدر ما اكتسبت شرعيتها بشكل أساسيّ من القبول بها كأمر واقع. تلك القوة التي بيدها تسيير الحياة اليومية، تولدت من وسائل غير ظاهرة للعيان كان أولئك الذين وقفوا ضدّها يسعون إلى الكشف عنها. تلك القبضة المتينة التي تضمن دعمًا واسعًا لها بين يهود إسرائيل على مستوى العامل في الشارع وصولًا إلى أستاذ الجامعة في برجه العاجيّ. وهذا ما يجعل الأمر حالة جديرة بالدراسة، إذ تساعدنا إلى جانب أهميتها في تقييم مستقبل إسرائيل على التوصل إلى فهم أفضل لطبيعة العلاقة بين السلطة والمعرفة في مجتمعات تدعي الديمقراطية في مطلع القرن الحادي والعشرين".    


تقاطع الأكاديميا مع المشروع الصهيوني في الماضي

في واقع الأمر، تقاطعت الأكاديميا مع المشروع الصهيوني منذ إنشاء "الجامعة العبرية في القدس" ومعهدي "التخنيون" و"زيف" ("معهد وايزمان" لاحقًا) في عشرينيات القرن الفائت. وجرى تسخير هذه الأكاديميا لخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين قبل النكبة وبعدها، وعمل باحثوها على تزويد المشروع الصهيوني بالنظريات والآليات العلمية لتثبيت وهيمنة المشروع الصهيوني في فلسطين في كل المجالات.

هذا التقاطع سبق أن تناوله كتاب الباحث الفلسطيني مهند مصطفى "المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية: المعرفة، السياسة والاقتصاد"، الذي صدر عام 2014 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار.

فمثلًا كان هناك دور واضح للأكاديميا والإنتاج المعرفي الإسرائيلي الأكاديمي في قضايا التخطيط والبناء، والاستيطان، وتزويد ما تطلب من معرفة وأدوات على المستويين العسكري والمدني، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وعشية حرب فلسطين. وتمكنت الأكاديميا الصهيونية، كما يؤكد الكتاب، من أن تموضع نفسها كإحدى المؤسسات المهمة على المستوى الإسرائيلي وعلى المستوى العالمي، سواء في إنتاجها المعرفي والبحثي، أو في دورها في بناء دولة الاحتلال، وخصوصًا في حالة مجتمع هذه الدولة كمجتمع مهاجرين وأقليات، وما يحمل ذلك من تحديات كبيرة على دولة ناشئة. لذلك أرادت الدولة ومؤسسوها أن تكون مؤسسات التعليم العالي جزءًا من المشروع السياسي الصهيوني وبناء الدولة الجديدة في جميع المجالات، وبالذات المجالات العلمية التكنولوجية.

ويشير مصطفى إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول ديفيد بن غوريون، انتبه إلى العلاقة بين القوة والمعرفة بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك كجزء من إعادة تعريف العلاقة بين المعرفة والدولة في العالم بعد تلك الحرب. وقبيل الحرب لم يُبد بن غوريون اهتمامًا كبيرًا وخاصًا بالمعرفة والتكنولوجيا في بناء المجتمع الاستيطاني اليهودي، حيث كان العمل الذي وُصف بأنه "طلائعي" والمتمثل بزراعة الأرض وإقامة المستوطنات، يشكّل أهم أولويات المشروع الصهيوني، ولم يتم ربطه بالضرورة مع إقامة مؤسسات تعليم عال. بينما بعد انقضاء الحرب العالمية، انحصرت جهود بن غوريون في الربط بين المعرفة ومكونات المشروع الصهيوني. ففي لقاء جمعه مع طلبة يهود من المجتمع اليهودي الاستيطاني في فلسطين عام 1944، قال لهم:

"أرى دور هذا الجمهور في تجنيد العلم اليهودي من أجل إقامة الدولة اليهودية وبنائها. صحيح أن الدولة لا يمكن إقامتها من خلال العلم فقط... الدولة تحتاج إلى الزراعة، الصناعة، البحر، الجيش، لكن بدون العلم لا نستطيع أن نفعل كل هذه الأمور، وكل واحد منها يحتاج إلى العلم، حتى الحرب لا يمكن أن نخوضها بدون العلم، لكن هذا السلاح ليس السلاح الوحيد، إنما واحد من الأسلحة المركزية، ويجب أن يكون سلاح الصمود وسلاح الدفاع".

أعاد بن غوريون في عام 1947 تأسيس الشعبة العلمية في منظمة الهاغاناه، وفي آذار/ مارس 1948 أقام السلاح العلمي كجزء من الشعبة العلمية. وبعد إقامة دولة الاحتلال في عام 1948، تحولت وحدة السلاح العلمي إلى واحدة من أهم المؤسسات البحثية في إسرائيل، إلى جانب الجامعة العبرية ومعهدي وايزمان والتخنيون. وقد عمل داخل هذا السلاح في عام 1951، نحو 560 عاملًا في خمسة مراكز بحث تابعة له، وعلى أساسه أقيمت شعبة البحث والتطوير في وزارة الدفاع، وأقيمت بعدها بسنوات شركة "رفائيل" للتصنيع العسكري.

وشهدت سنوات الحرب العالمية الثانية تعاونًا بين المؤسسات العلمية اليهودية في فلسطين وبريطانيا، حيث قامت الجامعة العبرية بتقديم الاستشارة العلمية والمهنية للمجهود الحربي البريطاني، وتمت إقامة اللجنة العلمية الاستشارية التي تضم مؤسسات التعليم العالي اليهودي في فلسطين من أجل تقديم المساعدة والمساندة العلمية والتقنية والطبية للمجهود الحربي البريطاني. وكان واضحًا بالنسبة لبن غوريون، أن هدف السلاح العلمي وشعبة البحث والتطوير في وزارة الدفاع هو بالأساس تطوير صناعة الأسلحة، وتطوير برنامج التسلح للجيش الإسرائيلي، ولكن هذا التطوير يحتاج إلى النخبة الأكاديمية المدنية، التي تعمل في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي التي لا يمكن للبحث والتطوير العسكري أن يتقدم بدونها.

ما بعد الحرب العالمية الثانية

يؤكد مصطفى أن الحرب العالمية الثانية والتحول الذي أحدثته في العلاقة بين الحرب والعلم والتكنولوجيا، نظرًا إلى كونها أول الحروب التي أدّت فيها التكنولوجيا دورًا كبيرًا وحاسمًا في مجرياتها، أدّيا إلى تحولات داخل أجزاء كبيرة من النخب الأكاديمية اليهودية في فلسطين عمومًا، وفي الجامعة العبرية خصوصًا. وقد ساهمت الحرب التي اندلعت في فلسطين إثر قرار التقسيم يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، في تعزيز هذه التحولات، حيث بدأت الجامعة ونخبتها ترى أنها جزء من الدولة القادمة، وأن عليها أن تساهم في المجهود الحربي اليهودي والإسرائيلي خلال الحرب.

وانطلق هذا التفكير كذلك من عوامل فرضها الواقع، فإلى جانب وجود توجهات قومية يهودية واضحة داخل نخب الجامعة، كان واضحًا أن الجامعة ستكون جزءًا من الدولة اليهودية الجديدة، وأن عليها أن تساهم في مجهودها الحربي في هذه المرحلة، وفي بنائها في المرحلة التالية، لتضمن مكانتها في الدولة الجديدة. وهذا ما حدث في العقد الأول بعد إقامة الدولة، حيث تحولت الجامعة العبرية إلى "الجامعة"، بمعنى المؤسسة الأكاديمية المهيمنة في إسرائيل.



وساهم انضمام النخب الأكاديمية العلمية إلى شعبة البحث والتطوير العسكرية في بداية الحرب، في تعزيز وتحسين أداء هذه الشعبة، ففي منتصف شباط/ فبراير 1948، التقى وفد من الجامعة العبرية مع بن غوريون وناقش الدور الذي يمكن أن تؤديه الجامعة في البحث الأمني ومكانتها في الدولة القادمة. وأخبر الوفد بن غوريون أن الطاقم البحثي في الجامعة سوف يجتمع لفحص الدور الذي يمكن أن يلعبه في المسألة الأمنية للمجتمع اليهودي في فلسطين.

وفي السياق نفسه، التقى بن غوريون المدير العلمي في معهد وايزمان للعلوم، إرنست برغمان، الذي أخبره عن استعداد المعهد للمساهمة في المجهود الحربي اليهودي في فلسطين، وقد تم دمج برغمان، وهو كيميائي، في الصناعات العسكرية الإسرائيلية لاحقًا، وتحول معهد وايزمان إلى مؤسسة مهمة في إنتاج هذه البحوث. وخلال الحرب أسس بن غوريون طاقمًا للبحث العلمي الأمني. وضمّ الطاقم ممثلين عن المؤسسات العلمية اليهودية الثلاث في فلسطين: الجامعة العبرية، معهد وايزمان، ومعهد التخنيون، بالإضافة إلى ممثل عن شعبة البحث في منظمة الهاغاناه.

وعندما شرعت الحكومة الإسرائيلية في الخمسينيات في سنّ قانون مجلس التعليم العالي، حرص بن غوريون على أن يقنن ضمن القانون العلاقة بين الجامعات والبحث العلمي والتطوير وبين الأغراض القومية للدولة. وعلى المنوال نفسه اهتمت الدولة ومؤسسوها بمراكز البحث في العلوم لكي تكون جزءًا من مجهود بناء الدولة وحمايتها، إلا إنها أرادت في ذلك الوقت، وبتوجيه ومبادرة من بن غوريون، مركزا للأبحاث مختصًا بالعلوم الإنسانية يكون ذراعًا دعائية للدولة الجديدة في صياغة روايتها الرسمية حول أحداث النكبة الفلسطينية، ودحض الرواية العربية الفلسطينية. وكانت هذه الفكرة هي التي وقفت وراء تأسيس معهد "شيلواح" عام 1959، والذي يعرف الآن بـ"مركز موشيه دايان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في جامعة تل أبيب.


التعاون بين جامعات دولة الاحتلال والمؤسسة الأمنية

يلفت مصطفى إلى أن أستاذ العلوم السياسية الإسرائيلي يحزقيل درور، يعتقد أن مراكز الأبحاث الإسرائيلية لم تؤد دورًا في التأثير على صناعة القرار السياساتي في إسرائيل، وفي ما عدا الأبحاث ذات الطابع التكنولوجي والعلوم، فإن مراكز الأبحاث في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية لم تؤثر كثيرًا على السياسات الجماهيرية وصناعة القرار في إسرائيل. ويرجع درور سبب ذلك إلى أن القيادات الإسرائيلية حتى قبل إقامة الدولة كانت تهتم أكثر بالعمل وأقل بالتفكير، بمعنى إنتاج معرفة لذاتها. ويضيف أن تفسير درور قد يكون صحيحًا إلى حد ما، وفي سياق تاريخي محدد، غير أن مراكز البحث اليوم وخاصة ذات التوجهات الأيديولوجية اليمينية، تؤدي دورًا كبيرًا في البلورة والتأثير على سياسات الحكومة في السنوات الأخيرة تجاه قضايا سياسية واجتماعية وثقافية في مجتمع دولة الاحتلال، مثل "معهد الاستراتيجية الصهيونية" الذي له دور كبير عبر أبحاثه في التأثير على تشريعات قانونية وسياسات حكومية في الشأن العام.

ويُظهر العالِم الإسرائيلي أهارون تشخنوبر، الحاصل على جائزة نوبل للكيمياء، في مقالاته المتعددة التي كتبها حول الأكاديميا الإسرائيلية، توجهًا قوميًا عميقًا، فهو يربط بين التقدم العلمي الإسرائيلي والأهداف القومية والتراث اليهودي، فمثلا يكتب في أحد مقالاته: "رأى بن غوريون في التعليم والفكر والتقدم العلمي لإسرائيل بمثابة الأعمدة الأساسية التي تقف عليها الدولة، فهي التي تضمن وجودها، وهي استمرارية للموروث اليهودي الذي يمتد لمئات السنين من التعلم، واكتساب المعرفة ونشر العلم، والتي حولت الدولة إلى منارة لجيرانها وللعالم كله.. وكان يرى في الأكاديميا التي كان له دور فاعل في تأسيسها، بأنها بيت لأفضل العلماء، والباحثين، والأدباء، والمؤرخين، والاقتصاديين، والحقوقيين ورجال الفكر في الجامعات ومؤسسات البحث في إسرائيل، ورأى فيها مؤسسة تعمل، أيضا، كجسم استشاري لحكومات إسرائيل في قضايا مختلفة في مجالات التعليم، والعلم، والفكر". وبرأيه، فإن "رؤية بن غوريون تحققت لكن بشكل جزئي، فحكومات إسرائيل التي جاءت بعده لم تكمل طريقه ولم تستعمل جيدًا المعرفة الكبيرة، والتجربة وسمعة الأكاديميين (الإسرائيليين) الدولية، لا بل بدأت عملية استنزاف مستمرة ومدمرة للجهاز التعليمي والبحثي في إسرائيل".

وعلى المنوال نفسه، كتب إيهود كينان، أستاذ الكيمياء في معهد التخنيون، ورئيس الجمعية الإسرائيلية للكيمياء، مقالاً ادعى فيه أن الجامعات مهمة لأمن إسرائيل ليس أقل من الجيش الإسرائيلي: "جامعات البحث هي واحدة من الموارد الثمينة للدولة، وبصورة سخيفة أهملت حكومات إسرائيل في العقود الثلاثة الأخيرة استغلال هذا المورد، ما أدى إلى تراجع الجامعات المستمر في قدرتها على التنافس مع مؤسسات رائدة في العالم، والسبب في ذلك يعود إلى تقييم خاطئ وغياب منطق المسؤولية الحكومية عن هذا الموضوع... أهمية الجامعة لبقاء الدولة يجب أن تحظى باهتمام جدي أكثر، يجب وضعها في رأس سلم الأولويات القومي، وبنفس مستوى أفضلية الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع".

ويشير الكاتب إلى أنه بالرغم من تراجع التعاون البحثي بين الجامعات والمؤسسة الأمنية بسبب امتلاك هذه الأخيرة للخبرة والمعرفة التكنولوجية الكبيرة ومراكز البحث، فإن العلاقة ما تزال مستمرة، كما تقول الدكتورة عنات مطر في بحثها حول استمرار التعاون بين الجامعات والمؤسسة الأمنية، حيث تموّل وزارة الدفاع 55 بحثًا من الأبحاث التي تُجرى في جامعة تل أبيب. وهناك تسعة أبحاث أخرى تموّلها وكالة البحث الأمني المتطور في وزارة الدفاع الأميركية، ويشار من بينها إلى بحث المواد المتفجرة الجديدة في كلية الكيمياء العضوية، وجهاز البصريات الكهربائية المضاد للصواريخ الذي يتم تطويره في كلية الهندسة، وطرق التشفير التي يجري بحثها في كلية علوم الحاسوب (والتي حصلت سبع مرات على "جائزة أمن إسرائيل"). كما تقوم جامعة تل أبيب بتطوير خطط تعليمية معدة - هكذا علنًا - لخدمة عناصر الأجهزة الأمنية: مسارات ماجستير سريعة في دراسات الشرق الأوسط أو الدبلوماسية والأمن. وقد أجاد البروفسور أبراهام كتسير توصيف هذه العلاقة بقوله: "إن من الأشياء التي تساعد إسرائيل هي حقيقة أن كل واحد منا هو مواطن وعامل في هذه المجالات في آن معًا.. أنا أكاديمي أعمل في الجامعة، كنت في الجيش، عملت في شركة (رفائيل) عدة سنوات. كل هذه الأمور متصلة ببعضها. نحن نساعد بعضنا بعضًا، وهذا ما يميّزنا. كنت في أوروبا والولايات المتحدة، وهناك قطيعة بين الورشات العلمية والجيش؛ إنهم يكرهون الجيش! أما عندنا، فأعتقد أننا ننجح بفضل حقيقة أننا نساعد أحدنا الآخر".

وتشير مطر إلى أن البروفسور كاتسير أدلى بهذه الأقوال في إحدى الورشات العلمية الشهيرة لـ"العلم، التكنولوجيا والأمن"، التي تدار من خلال "برنامج دراسات الأمن" في كلية العلوم الاجتماعية، والتي تموَّل أيضًا من قبل وزارة الدفاع وشركة "رفائيل" وإذاعة الجيش، ويقف وراءها البروفسور الجنرال احتياط وعضو الكنيست السابق عن حزب "كاديما" يتسحاق بن يسرائيل، الذي كان شغل رئاسة "مفات" (هيئة البحث وتطوير الأسلحة والبنى التكنولوجية)، ويشغل اليوم منصب رئيس وكالة الفضاء الإسرائيلية وصاحب شركة خاصة للاستشارة الأمنية. وكان بن يسرائيل أحد أبرز المحرّضين على شن هجوم شامل على غزة، وضرب المفاعل النووي الإيراني. وقد جُلب إلى جامعة تل أبيب مباشرة من هيئة أركان الجيش في فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وحصل على توظيف رسمي ولقب بروفسور من خلال إجراءات خاصة.

لا شك أن بحث مصطفى، شأنه شأن بحث بابيه، يفتح المجال أمام فهم أفضل لطبيعة العلاقة بين السلطة والمعرفة في مجتمع دولة الاحتلال التي تسوّق نفسها في العالم بأنها "واحة الديمقراطية" في "صحراء الاستبداد العربية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.