جورج خليفي: السينما الفلسطينية تصطف إلى جانب الوطن (2-2)

أنطوان شلحت 12 سبتمبر 2017

يتميّز المخرج والناقد السينمائي الفلسطيني جورج خليفي (1947) بمواكبته للسينما الفلسطينية التي باتت مهنيّة منذ أن أنهى دراسته السينمائية في بلجيكا وعاد إلى فلسطين عام 1984. وفضلًا عن مشاركته في رفد هذه السينما بعدد من الأعمال إخراجًا وتمثيلًا وإنتاجًا، ولا سيما مع شقيقه الأصغر المخرج ميشيل خليفي، فإنه أمدّ المكتبة السينمائية بكتب تتناول تاريخ هذه السينما ووقائع تقصّي الذاكرة والمدى فيها، ومساهمتها في بناء السردية والخطاب الفلسطينيين.

شارك جورج خليفي عام 1992 في إقامة "مؤسسة القدس للسينما والتلفزيون" التي كانت أول مؤسسة بادرت إلى تدريس كوادر مهنية للتلفزيون الفلسطيني. وتمّ حلّ هذه المؤسسة عام 1996 وأقيم مكانها معهد الإعلام العصري في جامعة القدس ومن ضمنه تلفزيون القدس التربوي. وقد أشغل لعدة أعوام منصب نائب مدير هذا المعهد ومسؤول الإنتاج والتدريس فيه.

هنا الجزء الثاني والأخير من حوار معه يتطرّق إلى أبرز ما أنجزته السينما الفلسطينية خلال مسيرتها وإلى المراحل التي مرّت بها وصولًا إلى الزمن الحالي، كما يتناول بدايات هذه السينما وأهم عوامل نجاحها:

 

السينما الفلسطينية قائمة بذاتها

 (*) سؤال: ما رأيك في "ظاهرة"- إذا ما صحّ التعبير- إغداق الجوائز على الأفلام الفلسطينية؟ هل هي جوائز منطقية، أم هي نوع من السلوك الناجم عن التعاطف مع قضية فلسطين؟

- المهرجانات هي لقاءات ثقافية، تفاعلية، وأيضا تظاهرات إعلامية وترويجية. إن مجرد وصول الفيلم إلى مهرجان ما هو مكسب له بحد ذاته، ومكسب للسينما التي يأتي منها، لكنه أيضًا مكسب للمهرجان. يسعى المهرجان طبعا إلى أن يضم برنامجه أفلاما نوعية قدر الإمكان، لكنه بالإضافة إلى المقياس النوعي، يبحث عن التنوع كذلك. ويحرص خاصة على أن يشمل برنامج عروضه سينمات من عوالم غير متاحة يوميا، وبنظرة أصيلة لسينمائيين من أبنائها. هذه النظرات الطازجة تأتي بنسمات منعشة، خاصة للسينمات الأنيقة، المتقنة، لكن المصابة بالشيخوخة، مثل السينما الأوروبية، والأميركية أيضا، التي أخذت تنفتح مؤخرا على السينما في ما يسمى بـ"العالم الثالث"، ولم تعد تسمية "أوسكار أحسن فيلم أجنبي" تعني فيلما أوروبيا فقط. هناك منبع آخر لاهتمام المهرجانات: الإعلام. يريد المهرجان أفلاما من عوالم وثقافات يسمع جمهوره عنها يوميا في نشرات الأخبار، ولا يشاهد منها غير تلك الصور التي تنقلها الأنباء، تمر سريعا ثم تزول.

لا شك في أن الاهتمام بالسينما الفلسطينية بدأ من هنا، لكن اتضح منذ البداية أن السينما الفلسطينية - على العموم - تقدم سينما قائمة بذاتها، من دون حاجة كبيرة للاتكاء على قضيتها.  

تعد المهرجانات بالمئات، وتتنوع اختصاصاتها (مهرجانات عامة، وثائقية، أفلام شباب، أفلام تاريخية، أفلام المرأة إلخ). وطبعا تتفاوت أهميتها.  ويمنح كل مهرجان، إلى جانب جوائزه الرئيسية، عددا كبيرا من الجوائز الفرعية، من أبوابه المختلفة ("حبيب الجمهور"، جائزة النقاد، جائزة المحكمين ...) ومن مؤسسات خارجة عنه لكنها تخصص جوائز في مجالات تهمها.

تتفاوت طبعا أهمية تلك الجوائز، لكنها كلها تعكس اهتماما بالأفلام التي تفوز بها، وهذا ما يريده صانعو الأفلام، ونريده نحن: أن تثير روايتنا الاهتمام وتصل، مروية من قبلنا، إلى العالم.

ونحن لسنا الوحيدين الذين "تغدق" عليهم الجوائز، فالعالم مليء بمن أسكتت أصواتهم مثلنا، دهورا طويلة، وهم يسعون لتحطيم جدار الصمت حولهم.

السينما الفلسطينية

ليست صناعة بعد

(*) سؤال: ما هي نظرتك إلى فكرة المُخرج- كاتب السيناريو المُسيطرة على السينما الفلسطينية شأنها شأن السينما العربية وربما غيرها أيضًا؟ ألا تُعتبر كتابة السيناريو "وظيفة" تستحق أن يكون لها فرسانها؟

- نعم، كتابة السيناريو هي مهنة رئيسية من مهن السينما. السؤال هو: أي سينما؟ والجواب: السينما التجارية، واسعة الانتشار. تلك السينما التي طورتها هوليوود منذ بدايات القرن العشرين كصناعة، وأصبحت وما تزال، من أهم الصناعات في الولايات المتحدة، وإحدى الصناعات التي يحق للكونغرس الأميركي إعلان الحرب إذا ما تعرضت إلى التهديد! فهي صناعة لا تبيع منتجها - الأفلام- وحسب، بل تبيع أيضا نمط حياة كاملا: الجينز، الوجبات السريعة، السيارات...إلخ، بالإضافة إلى نظام فكري وقيمي كامل: العائلة، السعي إلى التفوق، رسالة أميركا في العالم، حقها في نشرها حتى بالقوة، حقوق الفرد، قدسية الملكية الخاصة... إلخ.  

قولك "وظيفة" أو "صناعة" معناه الاختصاص. وقد طورت السينما الأميركية الاختصاص في كل عنصر من عناصر صناعة السينما، كما في جميع الصناعات.  السيناريو هو أحد أهم هذه العناصر، وقد بلورته صناعة السينما، ووضعت له أسسا تحكم كافة تفاصيله، من البنية- المقدمة، مرحلة الصراع، النهاية أو الحل- إلى توزيع عناصره- العنف، الجنس، الرومانسية... إلخ-، ومقادير هذه العناصر وتوزيعها على مراحل السيناريو المختلفة. رأس الهرم في هذه الصناعة هو المنتج، وكتابة السيناريو هي أحد أعمدتها. ولحق الاختصاص بهذه المهنة أيضا، فتجد من الكتاب من يختص بالمشاهد الحربية، أو الرومانسية أو غير ذلك، وبالتالي يكثر أن يكتب السيناريو لا كاتب وحيد، بل طاقم من الكتاب.

اقتفت آثار السينما الأميركية كافة السينمات الصناعية/ التجارية، ومنها السينما المصرية والهندية. بل إن السينما المصرية أوجدت إلى جانب اختصاص السيناريو، اختصاصا آخر، هو كتابة الحوار.

لكن السينما الفلسطينية ليست صناعة، ومن غيرالمحتمل أن تصبح صناعة في المستقبل المنظور، بل حتى في مستقبل أبعد منه أيضا، إذا ما أخذنا معطياتها بعين الاعتبار. فبينما نجاح كل صناعة سينما يبدأ حتما برواجها لدى جمهورها، الذي يشكل القاعدة الأساسية لنجاحها الاقتصادي، فإن السينما الفلسطينية لا تجرؤ حتى على أن تحلم بذلك. فهي سينما لشعب صغير، مشتت، يفتقر إلى البنية التحتية للعروض السينمائية، إما بسبب الظروف الخارجة عن إرادته، أو باختياره هو (مثلًا: غزة تمنع دور السينما). ليست له دولة تضع الخطط لتطوير صناعته السينمائية، وبديل (أو بدائل) الدولة القائم لا يدرجها- إذا أدرجها-  إلا في ذيل أولوياته. أي أنه إذا وُجد حقا كتاب سيناريو متخصصون، فسيكونون على الأرجح على قائمة البطالة، أو يعملون في غير اختصاصهم، خاصة وأن معدل إنتاجية السينمائي الفلسطيني هو فيلم واحد لكل 4 أعوام.

السينما الفلسطينية ليست صناعة، بل سينما حرفية، يكتبها مؤلفها ويخرجها، وكثيرا ما ينتجها أيضا.  أفلامها إذن "أفلام مؤلف".

المخرج المؤلف أرقى- إن صح التعبير- في سلم الإبداع من المخرج التقني. وكبار السينمائيين هم مؤلفون. بداية من كبار السينمائيين السوفييت مرورا بباقي الأوروبيين. كبار السينما الأميركية مؤلفون أيضا، وفيلم "المواطن كين" الذي يعتبر أعظم الأفلام الأميركية، ومن أعظم أفلام السينما على الإطلاق، كتب له السيناريو وأخرجه ومثل الشخصية الرئيسية فيه، شخص واحد هو أورسون ويلز. كبار المخرجين المؤلفين، في أغلب الحالات، يتشاركون مع كتاب سيناريو مهرة في كتابة افلامهم. لا عيب إذًا في أن يكتب المخرج المؤلف سيناريو فيلمه، وإن كنت، لدى مشاهدة بعض الأفلام الفلسطينية، أتمنى لو كان لكاتب سيناريو متخصص دور في كتابة سيناريوهاتها. ونجد هذا فعلًا لدى هاني أبو أسعد خاصة، السينمائي الفلسطيني الأكثر جنوحا نحو سينما واسعة الانتشار، في بعض أفلامه.  

(*) سؤال: سمعتك أكثر من مرة تتحدث عن تاريخ بداية السينما في فلسطين بخلاف الرواية المتداولة المعهودة.. هل يمكنك أن تدخلنا إلى تفاصيل أكثر بشأن هذا البداية وعلاقتها بالتطورات اللاحقة وبما شهدته أقطار عربية أخرى في هذا الخصوص؟

- يشيع بين الجمهور أن عمل الأخوين بدر وإبراهيم لاما هو البداية الرسمية للسينما الفلسطينية، لكونهما فلسطينيين ينتميان إلى عائلة الأعمى (لاما) من بيت لحم. والأخوان لاما من مواليد يافا كما يبدو، هاجرا إلى أميركا الجنوبية في بداية القرن العشرين، وعادا بحرًا إلى فلسطين في العشرينيات منه، ومعهما معدات سينمائية، بهدف العمل في مجال السينما في الأراضي المقدسة. وأثناء رسو سفينتهما في الإسكندرية، مرض أحدهما، فاضطرا إلى البقاء في هذه المدينة لفترة من الزمن كانت كافية ليدركا أن مصر، بمدنها الكبيرة، وجمهورها العريض، ومجتمعها المنوع، الكوزموبوليتي، هي المكان الأنسب لصنع الأفلام. فأقاما في الإسكندرية، وباشرا العمل في إنتاج الأفلام، ثم انتقلا إلى القاهرة، وأسسا شركة "كوندور" للإنتاج السينمائي. وفي عام 1927، قاما بإنتاج الفيلم المصري الروائي الطويل "قبلة في الصحراء"، وهو فيلم صامت، أخرجه إبراهيم وقام ببطولته بدر. توزيع الأدوار هذا بين الأخوين، بدر يمثل وإبراهيم يخرج، استمر حتى النهاية المأساوية، وفاة بدر عام 1947، ثم انتحار إبراهيم في بداية الخمسينيات.

ويعتبر أغلب المؤرخين فيلم "قبلة في الصحراء" أول أفلام السينما العربية، بينما يرى آخرون أن فيلم "ليلى" لعزيزة أمير، الذي أنتج في نفس العام، يشاركه اللقب. في الحالتين، للأخوين الفلسطينيين الفضل في انطلاق صناعة السينما العربية، وحسبك هذا فخرا لهما ولنا.

عمل الأخوين السينمائي- نحو عشرين فيلما-  تم كله في إطار السينما العربية/ المصرية. أحد هذه الأفلام- "الهارب"-  تم تصويره في بيت لحم، حول موضوع الهاربين من التجند في الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى (السفربرلك)، ولا نعلم عن أي صلة أخرى لهما بالسينما الفلسطينية. 

السينما الفلسطينية بدأت في أواسط الثلاثينيات ببعض الأفلام الوثائقية وعدد من الأفلام الروائية، ولم تصل إلى مرحلة العرض الواسع بسبب هشاشة البنى الإنتاجية الوليدة، ثم باغتتها النكبة، وتشرد صانعوها، واختفت الأفلام عدا بعض الأشرطة الوثائقية. وكان على السينما أن تنتظر النكسة، وشبوب الثورة الفلسطينية، لتبدأ بدايتها الثانية: سينما الثورة.

أجزاء حيوية من الذاكرة

الفلمية الفلسطينية ضاعت!

(*) سؤال: هل تشعر بالرضى حيال الجهود التي بُذلت لتأريخ وأرشفة السينما الفلسطينية... وما هي الجهود المتميزة التي لفتت نظرك؟

- لنميز أولا بين التاريخ والأرشفة.

على مستوى التاريخ، تزامنت الجهود الأولى لتوثيق ودراسة السينما الفلسطينية مع بدايات سينما الثورة، واقتصرت عليها. في عام 1977 صدر باللغة الفرنسية، كتاب "فلسطين والسينما" (La Palestine et le Cinema) الذي استند إلى لقاءات أجراها الناقد والمؤرخ الفرنسي غي هينيبيل Guy Henebelle، والناقد التونسي خميس خياطي، مع سينمائيي "وحدة أفلام فلسطين" ومؤسسها مصطفى أبو علي، بالإضافة إلى مقالات مترجمة من العربية، تناولت الفكر والأهداف وجماليات السينما الفلسطينية.

في منتصف السبعينيات، اكتشف قاسم حول، السينمائي العراقي المنخرط آنذاك في السينما الفلسطينية، وجود شخص في مخيم فلسطيني في بيروت يقول إنه كان منخرطا في العمل السينمائي في فلسطين قبل النكبة. كان هذا إبراهيم حسن سرحان، ولدى لقائه به، سمع قاسم حول منه عن وجود سينما فلسطينية منذ منتصف الثلاثينيات، خاضت تجارب متنوعة، وثائقية وروائية. وأطلعه على وثائق منها تسجيل شركة للإنتاج السينمائي في يافا. وأتبع قاسم حول ذلك بإصدار كتابه عن السينما الفلسطينية. 

بعد ذلك تواترت الأعمال المؤرخة والدارسة للسينما الفلسطينية، مثل كتابة عدنان مدانات لمقاله المؤسس عن السينما الفلسطينية في الموسوعة الفلسطينية، وكتاب المرحوم حسان أبو غنيمة عنها، وأعمال المرحوم بشار إبراهيم، خاصة كتابه القيم "السينما الفلسطينية في القرن العشرين". في عام 2004 صدر (بالعبرية ثم بالإنكليزية) كتابي مع البروفسور نوريت غيرتس "مشاهد في الضباب: المكان والذاكرة التاريخية في السينما الفلسطينية"، وفي عام 2006 صدرت أنطولوجيا قيمة للسينما الفلسطينية من تحرير قيس الزبيدي. وكتبت عشرات المقالات النقدية والبحثية من قبل كتاب فلسطينيين وعرب وأجانب. وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر. أما اليوم، فيمكن لأي كان أن يجد على الشبكة العنكبوتية مواد متنوعة ووافية عن السينما الفلسطينية، بمراحلها المتعدّدة، وبالعديد من اللغات، حتى اللغة العبرية.

يمكننا إذًا القول إن التأريخ يفي السينما الفلسطينية حقها.

أما بالنسبة للأرشفة، فالحكاية مختلفة تمامًا.

لا شك في أن الجهات الفاعلة في السينما الفلسطينية في مرحلة سينما الثورة خاصة، وهي مؤسسة السينما الفلسطينية، والأقسام السينمائية في التنظيمات المختلفة، تجمعت لديها أرشيفات سينمائية، تضم في حدها الأدنى المواد الخام التي كان مصوروها يلتقطونها يوميا على مدى المرحلة التي امتدت منذ عام 1967 وحتى الخروج  من بيروت عام 1982، والأفلام التي استخدمت فيها تلك المواد. لكن الأرشيف الخاص بمؤسسة السينما/ وحدة أفلام فلسطين كان الأغنى والأكثر تنوعا. فقد ضم بالإضافة إلى المواد الخام والأفلام، مواد مصورة من داخل الوطن تم اقتناؤها من وكالات الأنباء العالمية، واستخدمت في الأفلام المنتجة، مثل فيلم مصطفى أبو علي "مشاهد من الاحتلال في غزة" وغيره. كما ضم الأرشيف أفلاما ومواد فيلمية من الدول وحركات التحرر الصديقة، وأنشئت بجانبه وحدات عروض متنقلة. وتم تبويب وترقيم المواد، وأرسلت مسؤولته خديجة أبو علي للتدريب في الخارج، وأُفردت قاعة خاصة مزودة بوسائل لصيانة محتوياته، التي تم تبويبها وترقيمها. وعندما تكثفت في السبعينيات الغارات الجوية على المناطق التي تحوي المنشآت الفلسطينية، تم نقل الأرشيف إلى منطقة أكثر أمنا، ووضعت السفارة الفرنسية علمها عليه للحماية. ولدى خروج المنظمة من بيروت عام 1982، ومعها السينمائيون، أوكل بالأرشيف شخص فلسطيني وأشخاص لبنانيون لرعايته. وقد بقي الأرشيف في مقره، حتى نشوب حرب المخيمات عام 1985، واضطر الفلسطيني الموكل به إلى مغادرة بيروت نتيجة لضرورات أمنه الشخصي. بعد ذلك اختفى الأرشيف! وفشلت كل المحاولات لمعرفة ماذا جرى له. وانتشرت تفسيرات، أو تكهنات مختلفة، منها أنه دفن تحت الأرض في مكان ما في محيط مستشفى حيفا في صبرا وشاتيلا، ومنها أن قوة عربية صادرته، أو أن فصيلا لبنانيا ما ضمه إليه... إلى آخر ذلك.

لا نذكر الإسرائيليين في هذا السياق برغم شهيتهم المثبتة للاستيلاء على الأرشيفات والمكونات الأخرى للذاكرة الفلسطينية، لأن الأرشيف المذكور بقي موجودًا لثلاثة أعوام بعد انسحابهم من بيروت. فالإسرائيليون نهبوا أرشيفات معهد الأبحاث الفلسطيني (واضطروا إلى إعادة غالبها للفلسطينيين)، ونشرت جريدة "هآرتس" مؤخرا تحقيقا عن وجود مواد فيلمية فلسطينية بحيازة الجيش الإسرائيلي، دون أن يحدّد التحقيق مصدرها. أما أنا فأرجح أن مصدرها أرشيفات أخرى غير الأرشيف المركزي، خاصة أرشيف مؤسسة صامد، الذي توجد شهادات من مواطنين بيروتيين أنهم، بعد احتلال مبنى مؤسسة صامد من قبل الإسرائيليين، شاهدوا في محيطه بكرات أفلام مكرورة وملقاة في الشارع يلعب بها الأولاد.

بذلك تكون أجزاء حيوية من الذاكرة الفيلمية الفلسطينية قد ضاعت. وهذا محزن طبعا، لكنه ممكن التعويض بطرق أخرى، أهمها الأفلام نفسها. فلئن كانت أصولها قد ضاعت أو تلفت، فإن نسخا من أغلبها موجودة في أماكن مختلفة كانت ترسل إليها للعرض، مثل ممثليات منظمة التحرير في أنحاء العالم، والتنظيمات الصديقة وغير ذلك، ويجب جمعها.

وقد تم فعلا مشروع كهذا مع وزارة الخارجية الألمانية، وبإشراف السينمائي العراقي الناشط في السينما الفلسطينية قيس الزبيدي، جرى جمع ما مجموعه 23 فيلما من أفلام مرحلة بيروت، وأفلام عن فلسطين من إنتاج سينمائيين أجانب. وهذا الأرشيف موجود في برلين.

هناك أيضا أرشيف دائرة الثقافة في منظمة التحرير، وفيه مئات إن لم يكن آلاف ساعات التصوير والأفلام الجاهزة. كان هذا الأرشيف الغني في حيازة وزارة الثقافة في مكاتبها في مدينة غزة. المحزن أنه بعد الانقسام، حمل هذا الأرشيف من مقره، واختفت آثاره، فيما يشبه ما حدث للأرشيف السينمائي في بيروت. ومثله أيضا تضاربت المعلومات عن مكان وجوده، ومن ضمنها أيضا احتمال دفنه في مقبرة ما!

لكن العمل الشامل، الذي يمكن بعده أن نقول إن الذاكرة الفلمية الفلسطينية قد تم جمعها وترميمها وحفظها، سواء في فلسطين أو خارجها (خوفا من أن يعيث بها المحتل كما سبق أن فعل)، هذا العمل الشامل بعيد عن أن يكتمل.

كل ذلك حدث ويحدث برغم أنه يخيل لك أن الأرشيف هو هاجس كل من له ضلع في السينما/ السمعيبصري في فلسطين، أو يطمح لأن يكون له ضلع. فلا تقرأ أهداف وخطط أي جسم كهذا، قائما أو يريد أن يقوم، إلا وتجد الأرشيف وجمعه والحفاظ عليه يحتل مكانا بارزا فيها.  لكنك لا تحاول أن تجد ما تم، أو تتبع الخطوات، إلا وتجدها لا تتجاوز كتابة المشاريع، ولقاء هذه أو تلك من الجهات، ثم لا شيء.

كل ذلك على الرغم من حماسة المؤسسات الخبيرة الأجنبية للمهمة، مثل  المركز القومي الفرنسي للسينما (CNC)، وهو من أكبر أصحاب الخبرة في العالم في مجال الترميم.

والأفلام الفلسطينية، تلك التي تم جمعها، أو التي تنتظر، ستكون بحاجة ماسة إلى الترميم، إذا أخذنا بالاعتبار ما لا بد أن يكون لحق بها من تلف بفعل العروض، أو بفعل التخزين في ظروف سيئة.

مؤخرًا اتخذ قرار في السلطة الوطنية بإسناد أمر الأرشيف السمعيبصري  إلى قسم الأرشيف في التلفزيون الفلسطيني، فيما يبدو أنه أول جهد جدي في هذا المجال، وقد بدأت فعلا عملية تجميع الأفلام، وشراء حقوق عرضها، وأرجو أن تبدأ العناية بأمر ترميمها أيضا.

نجاح السينما الفلسطينية

يظل مرهونًا بإبراز أصالتها

(*) ما رأيك حول مقولة أن السينما الفلسطينية تخوض "معركة" على صورة فلسطين أمام نفسها وأمام العالم.

- أهم ما في سؤالك هو قولك "أمام نفسها" قبل أن تقول "أمام العالم"، ذلك أن السينمائي الفلسطيني كثيرا ما يجد نفسه أمام مقولة يحملها البعض، جمهورا وناقدين، تقول، في اتهام مبطن أو صريح، إن السينما الفلسطينية بداية من عام 1980، تتجه بأفلامها ليس إلى الجمهور الفلسطيني/ العربي، بل إلى جمهور آخر، الجمهور الغربي خاصة.

سؤالك في مكان آخر من هذه المقابلة عن الجوائز العديدة التي تمنح للأفلام الفلسطينية، واستخدامك مصطلح "إغداق" لوصف ذلك، فيه رائحة من ذلك الاتهام، إلى جانب ما قد يبطنه من تشكك في استحقاق الأفلام، فنيا ومهنيا، لذلك "الإغداق".

فالسينمائي، كما قد يقول بعض الحاملين لتلك الآراء،  يصنع أفلاما كما يريد الغرب، والغرب يكافئه على ذلك بالجوائز، كما تكافئ المعلمة أطفال الروضة إذا صدرت عنهم "لمعات" مبشرة. وكون التمويل يأتي من الغرب- يقول المشككون-  يؤثر دون شك ليس في لغة الأفلام وحسب، بل في مضمونها أيضا، الذي يتجه نحو مواضيع تهم الغرب، وليست في رأس سلم الأولويات عند مجتمعنا.

الأفلام الفلسطينية، وأيضا تلك العربية التي لا تنتمي إلى السينما والتلفزيون التجاريين، يبدعها سينمائيون، ترعرعوا في قلب مجتمعاتهم وثقافتهم. وكونتهم مشاهد طفولتهم فيها، حكاياتها، شخصياتها، نضالاتها، معاناتها، مشهدها الطبيعي... ذلك هو فضاؤهم الحميم الذي يتنقل معهم أنى تنقلوا. لكنهم انكشفوا أيضا على فضاءات أخرى، فضاء الآخر الغربي، بحكم دراسة أغلبهم وإقامتهم في الغرب. وحتى فضاء المحتل، بحكم معيشتهم تحت الاحتلال. ذلك يجعلهم يلقون نظرتهم من فضاء ثالث، متحرر، منفتح، متعدد الزوايا.

معركتهم التي يخوضونها مع مجتمعهم، هي على حقهم من موقعهم في فضائهم ذاك، أن يرووا قصتهم وقصة شعبهم، نفس القصة، لكن في نظرات جديدة هي نظراتهم هم، متحررة من قوالب تكونت في عصور أخرى.

أما معركتهم مع الآخر، الغربي، المحتل، فعلى الرواية نفسها، تلك التي أسكتتها رواية المحتل، ورواية المستعمر، لعصور طويلة. بل روتها هي، بنظرتها هي. نعم خاضت السينما وتخوض معركة على الصورة الفلسطينية، بنظرة فلسطينية، وتعبير فلسطيني. في الثمانينيات والتسعينيات، كان الظهور (النادر) لفيلم فلسطيني في التظاهرات العالمية الكبيرة، يجر مباشرة اعتراضات صاخبة، من الجهات الرسمية الإسرائيلية واللوبيات المساندة، ومحاولات لمنع مجرد عرض الفيلم. فإذا لم يتيسر لهم ذلك، تبدأ المعركة على جنسية الفيلم، كفيلم فلسطيني، لأن فلسطين، في قولهم، ليست موجودة.

يمكن أن نقول إن تلك المعركة على الصورة الفلسطينية مع الخارج، ما عادت ترتبط إلا بمدى نجاح السينما الفلسطينية في إبراز أصالتها، في رقي لغتها، في أسئلتها التي تطرحها على نفسها وعلى مجتمعها، في تحررها من القوالب الفكرية الجاهزة. وبكل هذا يرتبط نجاحها أيضًا في معركتها مع نفسها ومع مجتمعها.

كلمات مفتاحية

النكبة النكسة أورسن ويلز الذاكرة الفلسطينية السينما الفلسطينية