على هامش 8 مارس: محفوظ والاعتراف المسؤول بحقوق المرأة

فيصل درّاج 8 مارس 2020
آراء
من الأعمال النحتية البرونزية للفنانة الفلسطينية سناء فرح بشارة
في تصوّر نجيب محفوظ ما يوحّد بين العدل والحرية بعامة، وما يعترف بكيانية المرأة بخاصة. أكّد في الحالين أن الفن حريّة، وأن الفنان يدافع عن تساوي البشر، فلا وجود لفنان، جدير بصفته، إلا إذا شجب الاستبداد، مهما كان مرجعه. شهدت رواياته على تصوّره، وقدّمت وثيقة أدبية هي الأوضح في تاريخ الرواية العربية، إذ الدفاع عن امرأة مضطهَدة تنديد بذكر مضطهِد يجترّ حقوقه ويبتلع حقوق غيره.

اتهم في روايته "القاهرة الجديدة"، الأولى بعد مرحلته الفرعونية، مجتمعاً متداعي القيم يرى المرأة سلعة، يسوّق جسدها ويدفعها إلى الشذوذ والانحراف، لا فرق إن كان هامشاً اجتماعياً رثيثاً أو نخبة حاكمة، تشرف على البشر وتصادر حقوقهم. سفّه رجالاً يمتطون جمال المرأة، ويقايضونه بمنافع وفيرة أو رخيصة. عاد موضوع "استثمار الأنثى" في رواية "بداية ونهاية"، حيث الأخ الأناني ينسى إنسانية أخته ويعاقبها إذا انحرفت عقاباً مميتاً. سارع محفوظ، في الحالين، إلى معاقبة الذكر الرخيص، ألحق "بالزوج الرخيص" فضيحة عبثت بمآله، وحكم على الأخ الجشع بموت عادل.



تجلّى موقف محفوظ من المرأة بوضوح لا مزيد عليه، في "ثلاثيته" الشهيرة، التي تصدّرها "سي السيّد"، الذكر المطلق السراح، المستبد بزوجته إلى حدود الرعب، والجائرعلى ابنتيه إلى تخوم الإلغاء. أخضع الدين إلى نزواته وصيّر أهواءه الشهوانية ديناً وحيداً. و"السيد" لا سيادة له إلا على أهله، يستضعفهم ويسلبهم إرادتهم، مطمئناً إلى نرجسية مريضة يسوّغها موروث من الجهل والتخلّف، يقايض المسؤولية الأبوية ـ الزوجية بعبودية عالية الصوت. لكأن شغفه بذاته السعيدة تنسيه بداهات الأبوّة وتملي عليه الرضوخ للاحتلال الإنكليزي الذي كان يربض على مصر في زمن الرواية.
جاء أحمد عبد الجواد من موروث مريض، وخاض معركته المريضة مع عائلته، مشوّهاً معاني الطاعة والاحترام والهيبة الأبوية. لم تغادر زوجته بيتها عشرين عاماً، ولم يكن يحق لابنتيه النظر من النافذة، وعندما طالبت زوجته الأولى بقسط من الحرية عاجلها بالطلاق، ولم يرضَ عن ابنه الأكبر حين تقاسم مع زوجته قسطاً من التسلية... والسيد مطمئن دائماً إلى "رجولته الطافحة"، أناقته الذكورية، وجاذبيته المنتصرة على الغانيات. والسيد، موضوعياً، إنسان من قش، أبهة فارغة وصراخ مكرّر وصَلَفٌ فادح "كريه الرائحة" ماسخ الطعم بيد أن الأكثر فداحة "احترام" المجتمع له، الذي تعميه المظاهر ويأخذ الكلام المنافق على أنه حقيقة.
رسم محفوظ مخلوقاً شرقياً مستبداً يهزم القيم الإنسانية السوية وينصر غرائزه الرخيصة وينتصر. واجهه بزوجته "أمينة" المقدودة من الكرم والصبر المسؤول والمحبة، التي ينهرها زوجها إذا تكلمت وينهرها أكثر إن صمتت. رحلت الزوجة "حرّة"، وأصاب العجز "السيّد" مبكراً، انكمش صامتاً إلى حدود التهرّؤ والشلل، لا يساعد ذاته، بل يقوم على شؤونه غيره. أنزل به الروائي عقاباً نموذجياً يساوي استبداده المتوّج بكرامة كاذبة.
انطوى خطاب محفوظ على التزام بحقوق الإنسان في الكلام والاختيار، دون أن يقع في تفاؤل ساذج يساوي بين الكلمات والوقائع، فلا كرامة المرأة تأتي من إسعاد الزوج وتبجيله، ولا الانتقال من بيت العائلة إلى مسكن الزوج يوسّع آفاقها. أشار هامساً إلى "ثورة ثقافية" تغيّر عادات المجتمع، تتيح للإنسان الخاضع أن يكتشف فرديّته، التي تقوم على ممارسة المواطن لحقوقه السياسية، ولا تكتفي بمجّانية القراءة والكتابة إن كان التعليم متاحاً. فالإنسان يتنأنسن بوعيه السياسي النقدي، لا بمحاربة الأميّة تلك البداهة الماسخة التي قد تزيد الإنسان الخاضع خضوعاً. والمرأة، كما الرجل، لا تحرّرها المدرسة الرسمية المنعزلة عن الواقع المعيش، فما يحرّرها كفاحها الجماعي ضد ما يصادر وجودها، ويختزلها إلى "شيء" يلبي قواعد الخضوع والانصياع.

تجلّى موقف محفوظ من المرأة بوضوح في "ثلاثيته" الشهيرة، التي تصدّرها "سي السيّد"، الذكر المطلق السراح، المستبد بزوجته إلى حدود الرعب


















تطل برأسها في هذا المجال جملة "ذكورية" بليدة هي: مساواة الرجل بالمرأة، التي تسوّغ عبودية المرأة مرتين: تؤكد الذكر مثالاً يحتذى، كما لو كانت ذكوريّته المفترضة ضامناً لتفوّقه وإدراكه السليم، علماً أن أوهام الذكورة تتأسس على "دونيّة المرأة" و"تفوّق الذكر" وتساوي بين "الرجولة" وقهر المرأة. أما المرة الثانية، وهي أشد بؤساً من الأولى، فتعيّن الذكر، مهما كان تخلّفه، معلماً للمرأة ورائدها الأول في تحقيق وضعها الصحيح، أي عبوديّتها البديهية.
وواقع الأمر أن تحرّر المرأة والرجل، وقد يتنافسان أحياناً في التخلّف، لا يستدعي المساواة بينهما إنما يتطلّب الاعتراف المتبادل بينهما، الاعتراف الشامل بحقوق متساوية في الكلام والاقتراح والرفض والقبول، المستند إلى وعي جماعي قادر على الرفض والقبول. يترجم هذا الاعتراف، في معناه الحقيقي، حقوق المواطنة الثقافية والسياسية والاقتصادية، ما ينقل الأمر من حيّز الأفراد إلى فضاء المجتمع، وما يجعل السلطة السياسية مرجعاً، ولو بقدر، لتأسيس مجتمع جديد، اعتماداً على حياة ديمقراطية لا تسوسها دوائر القمع، واعتماداً أيضاً على أجهزة الدولة التعليمية ـ التربوية القائمة على: سياسة مجتمعية تنكر التبعية والإخضاع، وتوحّد بين المواطن الصالح والفردية والمسؤولية الحرّة. وتربط بين الكرامة الذاتية والكرامة الوطنية، فلا وطن لإنسان سرقت حقوقه.

انطوى خطاب محفوظ على التزام بحقوق الإنسان في الكلام والاختيار، دون أن يقع في تفاؤل ساذج يساوي بين الكلمات والوقائع

















المناداة بتساوي المرأة بالرجل كلام جهول بائس المعنى، ذلك أن عادات إخضاع المرأة تأتي من "عادات الذكورة"، ومن سلطة متخلّفة تتماهى بالذكر، أو تكون "ذكراً واسع الأطراف" يتمتع بسلطة متعددة الأدوات.
ما قال به محفوظ ما يزال ينتظره، بعد رحيله هامساً، كعادته، بثورة ثقافية تهتك فراغ "السيّد المستبد" وعجز "سلطته السياسية" اللذين علّق عليهما الروائي، منذ زمن طويل، بقهقهة مجلجلة واسعة الأصداء.
مارس محفوظ دوره كمثقّف نقدي وروائي مبدع ومواطن مسؤول وكفنان حالم، يدرك أن الأحلام تتلاشى في الفضاء.
وأخيراً: لا تولد المرأة خاضعة فالذي يعلّمها الخضوع هو "مجتمع الرجال الذي لا رجولة فيه".

كلمات مفتاحية

نجيب محفوظ المرأة المرأة الشرقية حقوق الإنسان سلطة الثقافة الأب الأسس المعرفية روايات