والشِّعر إذا أبكى.. شهادة سليمان المعمري

عماد فؤاد 8 مارس 2020
آراء
سليمان المعمري.. ألهث وراء الشَّاعر وهو يصعّد في قصيدته
نافذة نصف شهرية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ - في زماننا هذا - يُبكي أحداً؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلاً بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟

في كلّ حلقة سنلتقي ضيفاً ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الكاتب والإعلامي العُماني سليمان المعمري.

 

سليمان المعمري: سنموت مجانين نحن الذين لم نكتب الشِّعر

صباح الجمعة 5 آذار/مارس 2010 كنت نائماً عندما سمعتُ طرقاً خفيفاً على باب غرفتي. قلت بصوت خنقه النّوم: "ادخل"، لكن يبدو أنّه لم يسمعني فعاود الطّرْق. كرّرتُ بصوت أعلى قليلاً "ادخل"، بيد أنّه لم يصل لأنّ الطرْق تكرّر. هنا صرخت: "اودخوووول". كانت الصّرخة من القوّة حتى لقد شعرتُ بحبالي الصّوتية تتمزّق. فُتِح الباب ودخل محمد. كنتُ أنظر إليه بعين نصف مفتوحة وهو يضع جريدة عُمان بجانب سريري بينما هو يبتسم وعينه في عيني دون أن ينبس بكلمة. خرج حاملاً ابتسامته بينما واصلتُ نومي.
(أفتح هنا قوساً لأقول إنّني أشترك مع شقيقي هذا الذي يصغرني بثلاثة عشر عاماً في الاهتمام بمتابعة الصّحف العُمانية، كان يختار جريدة عُمان لأنّه يعرف مسبقاً أنني أفضّلها عن بقية الجرائد. كان محمد جنديّاً في إجازة تنتهي مساء هذا اليوم، الذي يتصادف أنه آخر يوم من أيام معرض مسقط الدولي للكتاب، وكان طبيعياً أن أتوجّه من الرّدة إلى مسقط في العصر).
في الساعة الثامنة من مساء نفس اليوم، وكنت قد ركبتُ سيارتي خارجاً من معرض الكتاب، تلقّيتُ اتصالاً من الردة. كان أبي على الخط وهو يقول بصوت غريب لا يشبه صوته: "أخوك محمد سوّا حادث وهو تو في المستشفى"، وسمعتُ في الخلفيّة عويل أمّي. سألته بفزع: "وهو بخير؟"، رد: "ما نعرف". وجّهت سيّارتي فوراً إلى طريق الباطنة واتصلتُ بأخي خالد لأطمئن فصقعني بالخبر: "محمد مات".

طوال الطريق إلى الرّدة الذي يبعد مائتي كيلومتر ويستغرق ساعة ونصف الساعة وأنا أستعيد لقاءنا الوداعيّ الباهت الذي كان في الصباح وأبكي، حتى مرّت عليّ لحظات لا أرى الطّريق بسبب الدّموع، غير أن برقع الدّموع لا يعمي كما يقول بيسوا.
انتهت فترة العزاء، ومضت فترة ليست بالقصيرة وأنا لا أتذكر من حياة محمد التي استمرت ثلاثة وعشرين عاماً إلا ابتسامتين: الابتسامة الأخيرة التي رأيتُها في وجهه وهو ميّت، والابتسامة الأخرى الغامضة التي رشقني بها وهو حيّ، وأعني بها تلك الابتسامة التي وضعها في غرفتي في يومه الأخير في الدنيا. أستعيدها كأنّها تحدث الآن. أحاول الكتابة عنها فلا أستطيع. أحاول على الأقل تفسيرها فلا أستطيع: هل كانت ابتسامة حنان أم سخرية أم وداع؟ ومرت أشهر، وربما سنوات. لا أذكر بالضّبط. لكنّني وجدتُني ذات يوم أقرأ قصيدة وقعت في يدي بالصّدفة. فإذا بي أشهق. أشهق وأواصل القراءة وأنا لا أكاد أصدق أن شاعراً ما يقطن في أستراليا منذ سنين عديدة استطاع أن يعبّر عن أدق خلجات رجل في "الرّدة" وهو لا يعرفه البتّة. كان يتحدّث في قصيدته عن بحيرة ليست بماء، بل "بحيرة إنسان" تحدّث إليه الشّاعر طويلاً ثم ذاب! كان يحاول طوال القصيدة استعادة هذا الشّخص الذّائب بلا جدوى، ولكنّه لا ييأس. يقول في قصيدته: "مع ذلك لا بدّ من أن أعيد شخصاً كنتُ أحبه. على الأحباء أن يعودوا إذا ناديتهم. عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء. لو كانوا أمواتاً. لو كانوا طحلباً... على الطّحلب أن يصير إنساناً حين تستدعيه. ويأتي لو مبلَّلاً، لو مترهّلاً، لو عفناً. عليه أن يعود صديقاً ولو مات منذ ألف عام".
كنتُ ألهث وراءه في القصيدة وأنا أتخيّل محمداً عائداً. لا أريده أن يعود إلا لشيء واحد: أن أعتذر له عن ذلك الوداع التّافه. ذلك الصّراخ الذي كافأتُ به كرمه. وليعد بعد ذلك إلى الأبدية إن شاء. شيئاً فشيئاً وأنا أواصل القراءة يطل عليَّ أموات آخرون، أو بتعبير الشّاعر: "قطرة قطرة ينزل الموتى على بابي": جدّي خليفة، عمّي راشد، الشّاعر حمد الخروصي، وأعزّاء آخرون فقدتُهم بدون موت.
أتماهى مع تساؤل الشّاعر: "هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذّائب؟ أم أنّي، من كثرة البحث عن ذوبانه، ذبتُ مثله؟ وصرتُ، عوض أن أبحث عنه، أبحث عنّي"!

أتوقّف قليلاً وآخذ نفَساً طويلاً كأنّني أستنشق الشِّعر وأعبِّئ به رئتَيَّ هواءً جليلاً منعشاً. الشِّعر الذي يروي لي بدقّة ووضوح أشياء كانت غامضة، أو كنتُ أحسبها كذلك، لأنّني لم أكن منتبهاً. ألهث وراء الشَّاعر وهو يصعّد في قصيدته. يتوقّف فجأة فأتوقّف. أسمعه وهو يقول نيابةً عني: "لا أعرف كيف لا تتوقّف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصاً نحبُّه. ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟ ألم تكن النّزهة كلّها من أجله؟ ألم يكن هو النّزهة؟ كيف يمشي واحدٌ إذا فقد شخصاً! أنا، حين فقدت شخصاً، توقّفت. كان هو الماشي وأنا تابعه. كنت الماشي فيه. وحين توقَّف، لم تعُدْ لي قدمان".
كان حزني غامضاً لحظتها، أشبه بفرح مفقود، أشبه بطفل قضى طفولته في البرد، طفل كان مختبئاً داخلي وينتظر من يُخرجه من قمقمه. قصيدة عابرة للأزمان هي التي أخرجته من القمقم. عنوانها "استعادة شخص ذائب" لشاعر كان يمرّ عليّ اسمه قبلها دون أن أكترث باسمه: وديع سعادة. لكنّني بعدها صرتُ أقرأه بشراهة. شاعر لن يموت مجنوناً بالتأكيد ما دام قادراً على اجتراح كلّ هذا الجمال. أما نحن الذين لم نكتب الشِّعر فتأكيداً - وكما تنبّأ لنا بوكوفسكي- "سنموت مجانين".

 

مقطع من لوحة للرسام الإيطالي ميكيل أنجيلو بوناروتي (Getty)

















استعادة شخص ذائب

وديع سعادة

 

هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصاً تحدثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب!

ولا أحاول الآن النظرَ إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب.

كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!

قطرةً قطرة ينزل الموتى على بابي

ومركبٌ يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلى الرمل.

لم أرتجف. لكني جُننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشتُ قليلاً. ثم جُننت.

على سطح البحيرة ورقة، كانت عيناً. على الضفَّة غصن، كان ضلعاً بشرياً.

أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون. أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.

لكن مرَّ كثيرون من هنا، جمعوا ورقاً وحطباً ليشعلوا مواقدهم.

لن يتمَّ أبداً جمْعُ شخص. لن يتمَّ جمع أعضاء كاملة. كثير منها احترق.

مع ذلك لا بدَّ من أن أعيد شخصاً كنت أحبّه. على الأحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم. عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء. لو كانوا أمواتاً. لو كانوا طحلباً… على الطحلب أن يصير إنساناً حين تستدعيه. ويأتي لو مبلَّلاً، لو مترهّلاً، لو عفناً. عليه أن يعود صديقاً ولو مات منذ ألف عام.

يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع الناس عن الضفاف. طريقة لإعادة الأوراق والأغصان الطافية على البحيرات، بشراً.

لم أرتجف. الأعضاء ارتجفت. وكان عليَّ أن أسدَّ الفراغ بين مفاصلها كي أوقف ارتجافاتها وتهدأ.

لوحة لـ لويس ليوبولد بيلي 


















ولكن، كم طويلةٌ المسافةُ بين مفصلين! وكم أحتاجُ إلى ردم لسدّ الفراغ بينهما!

كم هي طويلة المسافة بين ضلع وضلع!

أجري بطيئاً، مثل آخر نقطة ماء نزلتْ، وتأخرتْ عن السيل.

أجري بطيئاً زاحفاً للالتحاق بالجريان، وأتبخَّر رويداً رويداً.

لن أصل. بعضي سيصير في الفضاء. وبعضي سيغرق في الأرض.

تأخرتُ عن رفاقي ولن أصل. أزحف لكني لن أصل.

قطَعٌ مني أفقدها، وقطعٌ ترافقني منهَكَة، وقطع تصير هباء.

حتى إذا وصلتُ، أيُّ شيء مني سيصل؟!

حولي عشب وحصى وتراب. طيرٌ ينقدُ بعضي. ونملٌ يأكل بعضي. وبعضي للعشب والحصى والتراب.

أجري بطيئاً وفوقي يصعد خيطٌ مني، وتحتي ينزل خيط مني. أجري بطيئاً بين إبرتين، تخيطان عدمي.

نزلتُ آخرَ نقطة. كنتُ في غيمة ونزلتُ. هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذائب؟ أم أني، من كثرة البحث عن ذوبانه، ذبتُ مثله؟

وصرتُ، عوض أن أبحث عنه، أبحث عني!

أرى على الطريق أشخاصاً عابرين. بعضُ ما بقي مني يرى أشخاصاً. هؤلاء، على الأرجح، لم يفقدوا شخصاً أحبُّوه. أم أنهم فقدوه، ومع ذلك يكملون الطريق؟!

لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصاً نحبُّه. ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟ ألم تكن النزهة كلها من أجله؟ ألم يكن هو النزهة؟

كيف يمشي واحدٌ إذا فقد شخصاً! أنا، حين فقدت شخصاً، توقفت. كان هو الماشي وأنا تابعه. كنت الماشي فيه. وحين توقَّف، لم تعُدْ لي قدمان.

تأخرتُ وزاحفٌ وأتبخَّر. كيف إذن سأُعيد شخصاً ذاب؟ أليس عليَّ بالأحرى أن أعيد أولاً نفسي؟ أن أعود على الأقل قطرةَ ماء كاملة، تنزل على ورقة، على عين، على ضلعٍ على ضفَّة؟

أليس عليَّ، لكي أُخرج من الطحلب شخصاً، أن أكون على الأقل من ماء البحيرة؟

تأخرتُ ولن أصل. كلُّ ما أفعله أني أرى، أرى من بعيد. رؤيةٌ مشوَّشة من عين شيء لا هو غيمة، ولا هو ماء، ولا جماد ولا بخار.

إني، إذن، لا أرى.

كلُّ هذا مجرَّد خيال. عتمةٌ تستجدي عتمة. ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد شخصاً ولن أعيده...

إني، فقط، أحاول أن أزحف. أحاول أن ألحق برفاقي.

لكنهم صاروا بعيدين، بعيدين جداً.

ربما كنتُ في الماضي شخصاً يبحث عن شخص ذابَ أو ربما كنت أنا الذائب. الآن، حتى ولا قطرة. وفي تماهيَّ المرعب بين الماء والبخار والشخص، أبحثُ عن اسمٍ أعرّفُ به نفسي حين ألتقي النمل والعشب والطير. أنت الزاحف مثلي، ستتوقَّف حتماً على نتوء. ارسلْ لي من هناك نداء، وبه سأسمّي نفسي.

متماه بين ماء وجماد وبخار. مع ذلك لي مفاصل!

ومفاصلي بينها فراغات. ترتطم المياهُ بها، ترتطم الرياح بها، ويرتطم الناس.

ناسٌ كثيرون يعبرون الآن بين مفاصلي. لا أعرف من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون. لكنهم يرتطمون بعظامي.

ناسٌ التقيتُهم مرَّة، ناسٌ التقيتُهم مرات، وناس لم ألتقِهم... لكنهم يتدفَّقون الآن، ويدقُّون على عظامي.

عليَّ أن أفتح هذه العظام لكي يدخلوا.

لو كانت هذه العظام باباً!

من أين جاؤوا؟!

أظنُّ أن الذين ننظر إليهم يدخلون في أجسادنا عَبْرَ عيوننا ويصيرون دماً ولحماً.

وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا.

... ونستمرُّ، هكذا، نسمع طَرقات على عظامنا.

إني أسمع الآن دقَّات ماء

وعليَّ أن أفتح.

كلمات مفتاحية

الشاعر الموت وديع سعادة الحب السرد العربي الكاتب ومجتمعه