"عزيزتي كيتي": رواية الطفلة التي كانت ستبلغ التسعين

عارف حمزة 30 يونيو 2019
"اليوم كان على آن فرانك أن تبلغ التسعين من عمرها. في العديد من البلدان، في ألمانيا وغيرها، سيُحيي التلاميذ، الذين كانوا في عمرها آنذاك، والمدرسون وأولياء الأمور، ذكراها من خلال قراءة يوميّاتها التي كتبتها عن أحوال أسرتها، وأربعة أشخاص آخرين، اختبأوا لأكثر من عامين في المخبأ السرّي خلف منزلهم، قبل أن تموت في الخامسة عشرة من عمرها، في ربيع عام 1945، في معسكر الإعتقال في بيرغن بيلسن"- هكذا قدّمت دار "سيسسيون" البرلينيّة للثقافة كتابها "عزيزتي كيتي" الذي صدر في الثاني عشر من شهر حزيران/ يونيو لهذا العام، وهو يوم ميلاد آن فرانك، واسمها الكامل آنليس ماري آن فرانك، في مدينة فرانكفورت الألمانيّة.
واعتبرت الدار هذا الإصدار الجديد "هدية عيد ميلاد" لتلك الفتاة التي كانت ستبلغ هذا العام التسعين من عمرها، وربّما كان سيتم الإحتفال بها على أنّها من الكاتبات والروائيّات المعروفات ربّما ليس على مستوى ألمانيا، بل على مستوى العالم، لولا موتها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، في أحد معسكرات الإعتقال لدى الحزب النازي الألماني.
سبق أن صدرت العديد من الطبعات لمذكرات آن فرانك، ومنها الطبعة الإنكليزيّة "مذكرات فتاة صغيرة"، والتي تحوّلت إلى العديد من الأفلام التي تناولت الحياة القصيرة لهذه الطفلة التي تحمل في كتابتها "بذرة روائيّة متميّزة" كما عنونت صفحة الثقافة في راديو ألمانيا، متناولة بشكل احتفاليّ الطبعة الجديدة من هذا الكتاب.
"عزيزتي كيتي" لا تشبه "مذكرات فتاة صغيرة"؛ إذ تعتبر "عزيزتي كيتي" رواية مكتوبة من خلال تدفق الرسائل اليوميّة، والتي كتبتها فرانك إلى صديقة متخيّلة أسمتها كيتي، وصارت تحدثها عن حياتها وحياة عائلتها، ومَن انضم إليهم من الهاربين من الهولوكوست. ولكن دار النشر، من خلال المترجمة المعروفة فالتراود هوسمرت (1951) والتي ترجمت مادة الكتاب من الهولنديّة إلى الألمانيّة، وبالتعاون مع المنزل المخصص لمتعلّقات آن فرانك في مدينة أمستردام الهولنديّة، أرادت أن تكون الطبعة الجديدة مشروع رواية مكتوبة على شكل رسائل، وبالتالي عملت على تنقيح تلك المذكرات الشهيرة، والتي تحوّلت لأفلام ومسرحيّات حضرتها أجيال مختلفة، ليبقى منها فقط ذلك العالم الروائيّ لطفلة تظلّ في حالة كتابة، رغم الرعب الذي ينتابها وهي تسمع همسات الكبار حول فظائع الحزب النازي، وكذلك وهي تنصت معهم طوال
الليل لكلّ حركة تحصل في الجوار.
صحيح أنّ فرانك ولدت في فرانكفورت الألمانيّة في عام 1929، إلا إنّها غادرت مع عائلتها اليهوديّة إلى أمستردام في عام 1933، بعد وصول النازييّن إلى السلطة، وفقدت جنسيّتها الألمانيّة، كما كلّ أفراد عائلتها، في عام 1941. وبدءاً من شهر تموز/ يوليو من عام 1942 اضطرت عائلتها للعيش في المخبأ الخلفي لبيت عائلتها في أمستردام، بعد زيادة الاعتقالات بحق اليهود. وبعد عامين من الإختباء تعرّضت المجموعة المختبأة إلى الوشاية والإعتقال، فتمّ إرسال آن ووالدتها إديث فرانك (1900 – 1945) وأختها الكبرى مارغو (1926 – 1945) إلى معسكر الإعتقال، ليموت الجميع هناك، ومنهم من قال بأنّ الأختين ماتتا بسبب حمى التيفوئيد. وبعد انتهاء الحرب عاد الوالد أوتو فرانك (1889 – 1980) إلى المخبأ ذاك، ليعطيه الجيران متعلقات العائلة التي تبعثرت في المكان بعد مداهمة البوليس السرّي الألماني، وكان من بينها دفتر مذكرات الصغيرة آن.

الهدية والشهرة
في عيد ميلادها الثالث عشر، 12 حزيران/ يونيو 1942، أهدى الوالد ابنته كتاباً مغلفاً بقطعة قماش مطرّزة بمربعات بيضاء وحمراء ويُقفل من الجانب، ولأنّه كتاب بصفحات بيضاء قرّرت آن كتابة مذكراتها على صفحاته بدءاً من يوم 20 يونيو 1942. وهو اليوم الذي بدا مفتتحاً جيّداً لهذه الرواية، التي بين أيدينا، التي تدفّقت رسائله حتى يوم 29 آذار/مارس 1944. ولكن آن، في مذكراتها المعروفة والمنشورة في عدة طبعات ولغات، تستمر في الكتابة، في ذلك الكتاب التذكاريّ، حتى الأول من شهر آب/أغسطس من عام 1944، إذ تمّ اعتقالها في الرابع من الشهر ذاته. وهنا نجد فارقاً آخر بين "عزيزتي كيتي" و "مذكرات فتاة صغيرة".
بالعثور على تلك المذكرات، من خلال عودة الأب، تمّ نشرها لأول مرّة باللغة الهولنديّة في عام 1947، ثمّ تتالت الطبعات والترجمات إلى حين صدور الطبعة الإنكليزيّة في عام 1952 بعنوان "مذكرات فتاة صغيرة"، وتلك الطبعة كانت الأرضيّة والمصدر للعديد من الأفلام والمسرحيّات، ولكن ما أصدرته دار سيسسيون بعنوان "عزيزتي كيتي" يختلف تماماً عن تلك الترجمات والطبعات؛ إذ تم تنقيح العمل وترتيب اليوميّات، مع حذف الحواشي وبعض الأشياء السرديّة العاديّة، في حياة أسرة ما، والإضاءة على تلك الجمل والمخاطبات بين الكاتبة وصديقتها المتخيّلة، إذ لم يكن في حياة آن فرانك أيّة صديقة تحمل اسم كيتي. بمعنى آخر، تمّ إعادة سرد اليوميات ولكن من وجهة نظر روائيّة.

ترحيب النقاد والصحافة
بالإضافة للصناعة الفنيّة "العالية الذوق" للكتاب/الرواية، رحّب العديد من النقّاد الألمان في وسائل الإعلام بهذه "الفكرة الذكية لإعادة قراءة آن فرانك كتجربة روائيّة، وليس فقط ككتاب مذكرات من طفلة عاديّة يُذكّرنا فقط بذلك الماضي المرعب، بل كعمل فنيّ وأدبيّ". وفي

الوقت الذي أفردت مجلة "دير شبيغل" الشهيرة عدداً خاصاً للكتاب، مع نشر قطع منه "ساهمت في زيادة الطلب على الكتاب"، كما قال يواخيم فون تسيبيلين، مدير دار النشر، قام "راديو ألمانيا" بإذاعة قراءة فصول من الكتاب بصوت لاورين نوسّباوم التي كانت صديقة أختها مارغو في الحي الذي اختبأت فيه العائلة واعتقلت فيه. الحوار مع نوسّباوم، التي تعيش في الولايات المتحدة الأميركيّة منذ عام 1950 وتدرّس اللغة والأدب الألماني في جامعة بورتلاند، جاء حميميّاً من جهة، وأكاديميّاً من جهة أخرى. وكذلك عاطفيّاً؛ وكأنّ القراءات التي بصوتها تخرج من فم تلك الفتاة التي كانت ستبلغ التسعين لو أنّها عاشت.
"لا شك أنّها كانت تبدو ككاتبة منذ صغرها؛ إذ يبدو أنّ آن فرانك قد قرأت الكثير من الكتب بشكل نقديّ وواعٍ. هذا ما يمكن أن يلاحظه المرء في طريقة وأسلوب كتابتها"، تقول نوسّباوم عن المهارة الأدبيّة لدى آن فرانك. ثم تضيف: "إذا نظرنا إلى الإصدار الأول من مذكراتها، ومن ثم قرأنا الإصدار الثاني، سنجد كم هو مدهش ذلك الذي نعثر عليه في كلّ مرة".
"إنّه مثير للإهتمام حقيقة أن نرى كيف أنّ تطوّراً، بشكل لا يُصدّق، في الكتابة، في هذه النصوص المُنقّحة، قد طرأ على كتابة هذه الفتاة التي في الثالثة عشرة من عمرها"، يقول مدير الدار في حوار معه. ثم يُضيف: "إنّه تطوّر واضح ومثير من الإصدار الأول لليوميات إلى هذا الإصدار، حيث نجد الكتابة (يقصد في "عزيزتي كيتي") أكثر دقة وقرباً من السرد الحكائيّ/ الروائيّ، خاصّة أنّها كانت تعيش مع أفراد أسرتها في ذلك المخبأ السرّي، فكانت تصف الآخرين، لكيتي، ودواخلهم ورعبهم وردود أفعالهم، إضافة لكتابتها عن نفسها خلال ذلك. هنا فرق كبير؛ إذا تمّ قراءة اليوميّات كنصّ مستمرّ ومتدفّق، كما في هذا الكتاب الذي يُنشر للمرّة الأولى كنصّ روائيّ وليس كيوميّات، تشعر بأنّ الصياغة تغيّرت، وتشعر بقراءة مختلفة ورائعة".
إنّها فكرة ذكيّة، ما قامت به دار النشر، علينا قول ذلك. كما أنّها مغامرة في نفس الوقت، في تقديم كتاب قام الآلاف بقراءته في كل جيل، أو مشاهدته كفيلم أو عرض مسرحيّ، وأن تأتي بعد أعوام طويلة لتقول لهم بأنّ هذا الكتاب يخصّ آن فرانك. وهو مختلف عما قرأوه، بأنّه

رواية وليس كتاب يوميّات. إنّ هذا بحدّ ذاته مثير للإهتمام ويُثير الفضول.

هنا ترجمة خاصة أنجزتها من رواية "عزيزتي كيتي":

"الأربعاء 24 يونيو 1942

عزيزتي كيتي،

الجوّ حار بشكل خانق، يلهث الجميع ويتأوّه، وفي هذا القيظ يجب عليّ الذهاب إلى كلّ مكان سيراً على القدمين. الآن أدركُ كم أنّ الترام هو شيء رائع، خاصة العربة المفتوحة منه، ولكن هذه المتعة لم تعد متاحة لنا نحن اليهود، سنتيمات الإسكافي يجب أن تغنينا. البارحة كان يجب عليّ، في وقت الظهيرة، أن أذهب إلى طبيب الأسنان في "يان لويكينسرات". الطريق من مدرستنا في شتادستيمّرتوينين إلى هناك يُعتبر الطريق الأطول، لذلك قضيتُ ما بعد الظهيرة في المدرسة وأنا ميّتة من النعاس. لحسن الحظ أن يمنحك أحد الناس شيئاً من تلقاء نفسه لتشربيه؛ موظفة الاستقبال، عند طبيب الأسنان، هي حقاً شخص لطيف.
الشيء الوحيد، المسموح لنا باستخدامه، هو العبارة. قارب صغير كان ينطلق من محطة "جوزيف إسرائيلسكادا". اصطحبنا الملاح فوراً، عندما رجوناه أن يعبر بنا. بالتأكيد لا يعود الأمر للشعب الهولندي في جعل وضعنا، نحن اليهود، على هذا النحو السيّء.
المرّة الوحيدة التي وجبَ عليّ عدم الذهاب إلى المدرسة كانت في عطلة عيد الفصح، عندما سُرقت درّاجتي. هذه الدراجة تخصّ أمي، والتي حصلَ عليها الوالد مستعملة من معارف مسيحيّين. الدراجة التي كانا سابقاً يحفظانها بعيداً عن متناولنا أصبحت لي. لحسن الحظ، ومع اقتراب العطلة (الصيفيّة) بخطوات سريعة، إذ ما زال علينا أن نداوم لأسبوع آخر، استطعتُ أن أنجو بدراجتي.
حدث شيء جميل معي صباح البارحة؛ كنتُ قد تخطيتُ مكان ركن العجلات عندما ناداني شخص ما. نظرتُ حولي، وإذ بصبيّ وسيم يقفُ خلفي، هو نفسه الذي قابلته، من قبل، عند محل "فيلما". اقتربَ مُحرجاً بعض الشيء، وقدّم نفسه بكلمة "هالو" وبدا كأنّه يقولها من أعلى جبل "زيلبيربيرج" الذي في بافاريا! استغربتُ بعض الشيء، وسألتُ نفسي: "ماذا يُريد؟"، ولكن ذلك توضّح بسرعة؛ هالو بحث عن صحبتي، وأراد مرافقتي إلى المدرسة. "إذا كنتَ ذاهباً، بكل الأحوال، في هذا الإتجاه فإنني أستطيع مرافقتك". أجبتُه. وهكذا ذهبنا سويّة. هالو في السادسة عشرة من عمره، ويستطيع أن يحكي عن كثير من الأشياء بشكل مثير. صباح اليوم كان ينتظرني من جديد، ويبدو أنّ ذلك سيستمرّ على الأرجح في الأيام القادمة.

آن"

*****

"الأربعاء 1 يوليو 1942

عزيزتي كيتي،

ببساطة لم أجد الوقت حتى اليوم للكتابة مجدداً؛ طوال ما بعد ظهيرة يوم الخميس كنتُ عند

معارف لنا، ويوم الجمعة كان عندنا زوّار، وهكذا مضى الوقت حتى اليوم.
هالو وأنا تعرّفنا على بعضنا أكثر خلال هذا الأسبوع، تحدّثَ لي كثيراً عن حياته، كان قد قدم من مدينة "جيلزين كيرشين" (مدينة تقع في ولاية شمال الراين وستفاليا، في غرب ألمانيا) من دون والديه، ويُقيم هنا عند جدّيه في هولندا. الوالدان في بلجيكا وليس باستطاعته الذهاب إليهما. هالو كانت لديه صديقة، أورسولا، أعرفها أنا أيضاً، إنّها نموذج للرقّة والسأم. بعد أن قابلني هالو توصل إلى قناعة، بأنّ مشاعره تجاه أورسولا قد خمدت. لذلك كنتُ أبدو مثل الحارس المُتيقّظ؛ فالمرء لا يمكنه أن يعرف أبداً، لأي أحد، يوماً ما، قد ينفع هذا من جديد.
مساء الاثنين كان هالو عندنا في البيت ليتعرّف على والديّ، اشتريتُ قالب كاتو وبعض الحلويات، عندنا شاي وقهوة وبقيّة الاحتياجات، لكن لا هالو ولا أنا لدينا الرغبة في الأكل أو الشرب، وطوال الوقت جلسنا بالقرب من بعضنا على كرسيّ واحد. كنّا قد تنزّهنا، وكنتُ مجدداً في البيت في الثامنة وعشر دقائق. الأب كان غاضباً جداً؛ وجدَ أنّ عودتي متأخرة إلى المنزل شيء غير لائق. وجبَ عليّ أن أتعهّد له؛ أنني سأكون دائماً في البيت في الثامنة إلا عشر دقائق. دعاني هالو أن أكون عنده السبت القادم. كانت صديقتي جاك تشاهدني دائماً مع هالو. ولكن أنا لم أقع في غرامه. حقيقة. بالطبع من المسموح لي حقاً أن يكون لي أصدقاء، ولا أحد ظنّ أنّ هناك شيئاً ما بيننا.
كثيراً ما كان الوالد، في الأيام الأخيرة، في البيت، لم يعد يتواجد في الشركة. إحساس فظيع ينتاب أحدنا عندما يشعربأنّه بلا قيمة. مع السيد "كليمان" أسّس شركة "أوبيكتا" (لاستخراج البكتين من الفاكهة) ومع السيد "كوغلر" شركة "جيّس أوند سي أو" للتوابل والمخللات. في أوائل عام 1941 كان قد أسّس كلّ ذلك. حينما كنّا نتمشّى سويّة حول منزلنا، كان والدي قد شرع في الاختباء. رأى أنّ ذلك سيكونُ شاقاً علينا؛ بأن نكون معزولين تماماً عن العالم كي نستطيع البقاء على قيد الحياة. سألته، لماذ يقوم الآن بالذات بقول ذلك. "حسناً آن، قال بعد ذلك، أنت تعرفين، نحن نوصل قطع الملابس والمواد الغذئيّة وقطع الأثاث لأناس آخرين، لكي لا تسقط أشياؤنا في أيدي الألمان، ولكن ما زال هناك مَن يُريد أن يُلقى القبض علينا، لذلك علينا أن نغادر من تلقاء أنفسنا، وأن لا ننتظر حتى يُلقون القبض علينا".
"ولكن متى يا أبي؟". شعرتُ بالرعب؛ لأنّ الأب قال ذلك بمثل هذه الجديّة.
"لا تقلقي. نحنُ نرتّب ذلك في الحقيقة، استمتعي بحياتكِ بقلبٍ متوهّج، على قدر ما تستطيعين أن تستمتعي".
هذا كان كلّ شيء. أوه. تركُ تحقيق هذه الكلمات القاتمة سيتركُ بالتأكيد أثراً سيدومُ لوقت طويل جداً.

آن".

كلمات مفتاحية

رواية أدب حديث أدب مترجم النازية الهولوكوست