لماذا لاحقاً؟

خلدون تانر 6 يوليه 2019
ترجمات
(إيزابيل فياديرو)
يبدو أنهما قد تواعدا على اللقاء في حفلة الساعة الثانية والنصف ظهراً، رغم أن الساعة صارت الثالثة والربع.
رمى إحسان سيجارته على الأرض ودعس عليها، قال متأففاً: "ألا يجوز أن لا تجعلني أنتظر كل هذا الوقت".
كان مطراً رقيقاً يهطل على الشارع. وكان بائع الكستناء كالمعتاد يجلس عند زاوية صالون الحلاقة... نزل الشاب من سلم السينما. دلف إلى الزقاق المقابل، ثم خرج إلى الشارع الكبير.
كان ميدان بيازيد يتلألأ لامعاً تحت المطر. وكان الترام يأتي ويذهب في الشارع، والركّاب ينزلون من الحافلات ذات الزجاج المتجمع عليه بخار الماء، ويمضون في طريقهم في عجالة.
بدأ إحسان المشي على الرصيف المبلل رائحاً غادياً، يقدم خطوة ويؤخر خمساً. فكل مرة يقول مقرراً: "فلأنتظر عربة ذاهبة إلى طوب قابي(*)، ثم أذهب لو لم تظهر". لكنه يمضي بعدم ظهور ملاحت في الترام الآتي، ولا يقوى على الذهاب إلى أي مكان آخر.
انتظر بلهفة في طريق آقسراي لربع ساعة أخرى. ولكن انقطع أمله كاملاً عندما صارت الساعة الثالثة والنصف.
كان من الواضح أنها لن تأتي. أخلّت به الفتاة بشكل صريح.... لم يكن هناك شيء غير مفهوم في ذلك.
ألم تفعل نفس الشيء في المرة الماضية عند باب بائع حلوى الألبان؟ قالت وهي تلعب بتوتر بأزرار معطفها: "إحسان، سمعت والدتي بتجولنا معاً. رآنا شقيق زوج أختي، إن دنيانا صغيرة... فإنهم لن يتركوني أخطو إلى الشارع بعد الآن. لذلك قلت إنني ذاهبة إلى خالتي لآتي اليوم ....".
لم يكترث إحسان بهذه الكلمات في هذا اليوم. وجال بخاطره: أليست من جنس النساء، لا تُيسر أمورهن لو لم يقمن بالتمثيل.. كان ما يراه أنه يكمن بين تلك الكلمات معنى آخر. يعني أنه كان ذلك ما ستفعله في نهاية المطاف.
لم يرد أن يصدق، رغم توعية أصدقائه له. فقد حدثوه عن متقدم للزواج يعمل في تجارة الأقمشة في بهجة تبة، وكذلك أروه طالباً ممشوق القوام يقطن في نفس حي ملاحت. كان يجب أن يفهم ذلك منذ أمد، ولو كان فهم لكان يجب أن ينسحب من الأمر، ولكن لم يحدث هكذا. لم يستطع فعل ذلك. آه من ذلك الرأس!
تماماً في هذه اللحظة لاح أمام عينيه طيف ملاحت. الفتاة واثقة من نفسها، ممشوقة القوام وطالبة طب، لمحها بينما كان ينظر إلى صور سينمات بيوغلو. من يعرف ربما يبدو أنه غندور، ولكنه ورغم ذلك يقف هنا، ينتظر كالمنبوذ، وفي جيبه تذاكر "اللوج". فجأة شعر
بصدغه يصطك.
والآن اشتد المطر بصورة أكبر. وكأن الغيمات المبللة دائماً تسعى إلى ملامسة رذاذ المطر، فتطير منخفضة.
جال بخاطر إحسان: "هل سيتركون لكَ... أسيتركون لكَ أجمل فتاة في الدنيا؟. فأنتَ لا تحمل حتى شهادة الثانوية... ألن تذهب غداً إلى الجيش وتحسب كجندي عادي؟ وحينها لن يعطوك رتبه، وفي نفس الوقت تريد أن تعشق فتاة أرستقراطية".
نسي حتى المطر المنساب من شعره الناعم على قفاه. وبعطسه مرتين متتاليتين خطر بباله: "فلأذهب، ما الذي يوقفني؟"، قال وهو غاضب من نفسه. كان ينتظر الترام في المحطة خمسة أو ستة أشخاص. فاختلط بهم.
لكن تماماً في هذه اللحظة رأى على الرصيف الموازي مجيء ملاحت ركضاً. لم تلاحظه الفتاة. عبرت الشارع، وكانت تربط منديلاً أحمر على رأسها كالشمسية، وانحرفت إلى زقاق السينما.
بمجرد أن رآها إحسان بدأ قلبه في الارتجاف. ولكنه تريث في عناده. ولكي يكبل انفعاله قام بإشعال سيجارة، ثم بعد ذلك مشى صوب السينما بخطى واثقة رزينة.
كانت ملاحت تتلفت حائرة في الردهة. وبرؤيتها لإحسان جاءت وكأنها تطير، وسألته: "جعلتك تنتظر أليس كذلك؟ جعلتك تنتظر طويلاً جداً أليس كذلك؟ لو تعلم ماذا حلّ برأسي يا إحسان".
"لااااااا، لم أنتظر"، قال إحسان. وقام بنفخ دخان سيجارته بلا مبالاة في الهواء.
وضعت الفتاة يدها على قلبها، وقالت: "لا أقوى على التقاط أنفاسي، كم جريت.... جهزت وكنت على وشك الخروج، إلا أتت سلفة عمتي؟ وجدتُ أنه من غير اللائق ترك المنزل لعدم وجود أحد به. كان عقلي دائماً مَعك.... ظلت المرأة طويلاً ولم تبرح. على أي حال مضيت في طريقي رغم الصعاب. وحتى لا أمُر من أمام أزواج أخواتي نزلت كلي في الطين".
سمع إحسان هذا دون اكتراث. كان ينظر إلى الفتاة التي احمر أنفها وتقف أمامه وتجاهد من أجل أن يصفح عنها، بنظرات غير مبالية هادئة ويشوبها قدر من الاستخفاف.
ارتابت ملاحت من حاله هذا وقالت: "ما الأمر لماذا تنظر إليّ بهذا الشكل؟".
أجابها الشاب: "لا شيء...". 
وكأن الفتاة تريد تشتيت البرودة بينهما: "ماذا ننتظر؟ فلندخل إذاً. نشاهد الفيلم من المنتصف". تقدمت الفتاة صوب السينما، وتبعها إحسان على مضض.
عندما دخلا، كان الفيلم الأول قد بدأ منذ وقت طويل، حتى أنه اقتربت نهايته. ولأن موظفة السينما كانت تمسك الكشاف إلى أسفل للحظات، فأضاءت ساقي ملاحت الطويلتين، وكان منديل الفتاة الحريري لا يزال ملطخاً بحبيبات متناثرة من الطين.
عندما أغلقت الموظفة باب المقصورة عليهما، قاما بانتزاع معطفيهما وجلسا متجاورين ولكن تفصلهما مسافة لا بأس بها.
قامت ملاحت بتنحية شعرها إلى الوراء بحركة رأس عنيفة، ورفعت خصلات شعرها المجعد المنسدلة على قفاها. في ذلك الوقت عند رفعها لذراعيها، تناثرت في المقصورة رائحة عرق طازجة.
كان إحسان يجلس مثل الصنم ويتابع الفيلم.
سألت الفتاة: "ما بك يا حبيبي اليوم؟ هل أنتَ مريض؟".
قال إحسان دون أن يدير رأسه: "لا".
"هل أنتَ سئم من شيء ما؟ هل أنتَ غاضب من تأخيري؟".
"لا يا روحي، ما العلاقة؟".
"قُل من فضلك، والله سأخاصمك".
اشرأب رجل يجلس في الصفوف الأمامية بعنقه ونظر إلى مقصورتهما. قامت ملاحت بخفض صوتها: "فلأمُتْ لو لم تقل، ما الذي حدث؟ هل اغتابني شخص ما؟".
لم يَرد إحسان.

على الشاشة الآن هناك طفل وجهه به نمش يحتضن والده، وكان يقول شيئاً وهي يبكي، قالت ملاحت: "هل استدعيتني اليوم لكي تقطب جبينك؟ أنا ذاهبة". ونظرت إلى معطفها المعلق وكأنها ستذهب فعلاً.
تمتم إحسان وعيناه مثبتتان على الشاشة: "دعينا نشاهد الفيلم".
"يا ...هكذا إذاً! حسنا". قالت ملاحت. ووضعت قدماً على قدم زافرة بحدة، ثم صمتت. لم يكن قد رأى إحسان وجهها، ولكنه يعرف جيداً، اهتزاز أرنبة أنفها وقرضها لشفتيها بعصبية.
جلسا من بداية الفيلم حتى نهايته كالمتشاجرين.
وعندما أضيئت الأنوار، فعلت ملاحت مثلما تفعل كل مرة، انكمشت في المقعد، وولت ظهرها إلى الصالون.
خرج إحسان لتدخين سيجارة. لمحته ملاحت من بين الباب ينظر بشهوانية إلى ثدي موظفة

السينما التي مرت أمامه. دخل إلى المقصورة بعد خمس دقائق من بدء الفيلم التالي.
لم تتفوه الفتاة لوقت طويل. ولكن عندما شعرت لوهلة وكأن إحسان ينظر إليها، قالت: "أفهم، "بدأت أصير حملاً ثقيلاً عليك، وأنتَ تفكر كيف ستقول لي. لا تُحزن نفسك. فلا نلتقي مجدداً وينتهي كل شيء".
أدار إحسان رأسه. وكاد أن يقول شيئاً، ولكنه تراجع.
بدأ بينغ كرسوبي بغناء أغنية عاطفية، على الشاشة الآن. قالت ملاحت: "كنت أعرف من الأصل. كنت أعرف مللك مني.... قالوا عنكَ شخصاً متقلب المزاج. وأنا خطأ وثقت فيك وارتبطت بك".
فجأة وضعت منديلها الصغير على أنفها وبدأت في البكاء. استدارت بعض رؤوس الجالسين في الصفوف الأمامية، قال إحسان: "لا تجني، الجميع يتطلعون إلينا".
"دعهم ينظرون، فأنا لا أبالي بأي شيء". ردت عليه بصوت مرتعش.
ابتسم إحسان في عتمة المقصورة. ولوهلة نسي بسرعة الفتاة الصغيرة الموجودة إلى جانبه والتي تبكي من أجله، والفيلم المعروض على الشاشة، والمشاهدين الموجودين في صالة السينما وحتى العالم الخارجي، وأمسك بشعر الفتاة وسحبها إليه وقال: "اصمتي، هيا اصمتي".
كانت اليوم شفاه ملاحت المبللة بالدموع بنكهة البرقوق المالح.

 ***

خلدون تانر (1915-1986)، كاتب قصة قصيرة وكاتب مسرحي وصحافي تركي، واحد من رواد الكتابة في فترة الجمهورية التركية. ولد في إسطنبول، ذهب إلى ألمانيا في بعثة من قبل الدولة لدراسة العلوم السياسية في جامعة هايدلبرغ. ولكنه لم يتم دراسته لإصابته بالسل. بدأ الكتابة في سن مبكرة. في عام 1953 حصل على جائزة القصة القصيرة لصحيفةThe New York Herald Tribune. درس المسرح في أكاديمية ماكس رينهارد للمسرح بفيينا.
(*) طوب قابي: أكبر قصر في إسطنبول، وهو محل إقامة سلاطين الدولة العثمانية.

ترجمته عن التركية: مي عاشور.

كلمات مفتاحية

الأدب التركي قصة قصيرة ترجمة