}

اللاجال: ثلاجات مفتوحة للعابرين

محمود الرحبي محمود الرحبي 28 أبريل 2024
يوميات اللاجال: ثلاجات مفتوحة للعابرين
(منير الساجواني)
اسم القرية المركون وحيدًا في مواجهة الرياح والزمن، على وجه "شاخصة مرورية" مكتوبًا عليها خطأ "الآجال"، أي الموت مجموعًا في كلمة! وهو عكس المعنى الحقيقي في المنطوق العماني "اللاجال"، والذي تذهب سهام دلالته إلى نقيض الموت تمامًا، إلى البرك المائية، التي يكون حولها كل شيء حي ومتحرك، من طبيعة وبشر وطيور. حيث تسمى البركة المائية في اللهجة العمانية بـ الّلجل، وبالتالي يكون جمعها اللاجال. ولكن الذي كتب اللوحة يبدو أنه من خارج هذه القرية الوادعة، لذلك استعاض بالموت عن الحياة، أو أنه لم ير من القرية سوى مقبرتها ــ وهي أول شيء رأيناه فيها ــ والغريب أيضًا أن أهل هذه القرية يضعون المقابر في منبسط بصدور الجبال، وذلك تحسبًا من أن تجرفها مياه الوادي ساعة جريانه وفيضه على الأرض، وكأنما ذلك العلو جاء حماية للأموات من زوال آثارهم وشواهد قبورهم. يمكن أن نضيف كذلك الديوان الأول لمضيفنا يحيى الناعبي: "حياة بين شاهدتين"، الذي صدر عام 2014 عن منشورات مجلة نزوى، ربما بعد كل ذلك، يمكن التماس العذر لمن كتب تلك اللوحة، ولكن كان كل ذلك أيضًا إحدى الخدع الطبيعية للقرية، فهي لن تكشف لنا عن سحرها ولغزها إلا بعد أن تعمقنا في مسالكها. وكان في الرفقة حمود سعود، صاحب المجموعة القصصية "المرأة العائدة من الغابة تغني".

***

لم نلمح إلا الأهالي (العمانيين)، وكل من يمر قبالتك منهم لا بد أن يقف وهو يرفع يده مسلمًا، ويرفرف بعضهم يديه وراء ظهر سيارتك إلى أن تختفي في منعطف. وحين مررنا على برك مائية عديدة وأفلاج ينتهي كل منها بـ"لجل"، أو بركة بين دافئة وباردة وساخنة، أدركنا المعنى البليغ لاسم قرية الناعبي. أفلاج داودية وأخرى غيلية، فلج "الصبيخة" الحار، وفلج "القش" الجبلي، وأفلاج "المحيول" و"المحديث" و"السليل"، مما يؤكد على وفرة الماء، والمعنى الأكيد لاسمها الذي لا يقربه الموت. وكان من الابتكارات اللافتة للقرية، وجود ما يشبه ثلاجات مفتوحة، وهي أحواض صغيرة تملأ في الليل بماء عذب لتبرد، وفي النهار يشرب منها الناس والطيور، دعوة مفتوحة، لذلك يمر (عليه) المزارعون القادمون من قمم النخيل بعد جهد يوم من العمل، وخاصة في وقت الصيف القائظ، أو ترفرف فوقه العصافير لتأخذ غرفتها من الماء وتمضي محلقة. كما وجدنا حوضًا آخر كان يستخدم لاصطياد أسراب الطيور؛ يعلوه وعاء فخاري مثقوب يخرج منه خيط ماء يصدر خريرًا، الخدعة التي يتم بها دعوة سرب الطيور المهاجرة السريعة التي تغرف عادة غرفة واحدة من الحوض قبل أن تطير، ولكن الكمين يكون معدًا في تلك اللحظة، حيث ينتظرهم شبك الاصطياد ليحبسهم في أماكنهم، يظهر بعدها الصيادون المختبئون. وكان الأهالي في ما مضى يعتمدون ــ في جزء من طعامهم ــ على لحم هذه الطيور المهاجرة، حيث تملّح بعد أن تنظف وتخزن لتكون زادًا لموسم الشتاء. في الأعلى، توجد أيضًا قرية صغيرة مسورة تسمى "الحجرة"، تحاكي قرية اللاجال. هي في الوقت الحالي مهجورة، ولكنها تشبه قلعة طينية مسورة فيها بهو كبير في الداخل يسع سكان القرية. إلى جانب حصن للحماية، كان الأهالي يلجأون إليها في الأوقات العصيبة طلبًا للحماية من أنياب بشرية وطبيعية، وقد بدت من الأسفل شبيهة بقلعة إنكليزية عتيقة.
ثم تجولنا في أطراف القرية، حيث تنتهي بواد حصوي يفصل بين قريتين، اللاجال وقرية تسمى "القارة"، وكانت فرصة للتندر، حيث إن يحيى قد جاء حديثًا من أستراليا، وهي قارة بين محيطات، وهذه التي سنذهب  إليها كذلك (قارة)، ولكن الفرق بينهما (شاسع)، وربما هي  الأخرى  محاطة  بالمياه، خاصة حين  يهبط الوادي فإنها تنقطع عن العالم، والذين يكونون في سياراتهم فإنهم ينتظرون طويلًا حتى ينضب ماؤه، لكي يتمكنوا من المسير، وقد كان الأجداد يحلون تلك المشكلة الطرقية بالانتقال إلى الضفة الأخرى على ظهور الحمير التي ستصعد بهم إلى مسالك الجبل. سألت يحيى إن كانت الحمير الآن ما زالت  تصعد  الجبال، فأجاب في نبرة (قفشة): نعم باستثناء الحمير التي نعرفها.

***

وجدنا على مطلع قرية "القارة" المتاخمة للآجال ثلة من الأهالي يجلسون في الخارج أمام عتبات بيوتهم، يحتسون القهوة ويزدردون الفاكهة. حين لمحونا وقف اثنان منهم، ولوحا لنا طالبين منا التوقف لمشاركتهم الزاد. أشار لهم يحيى ــ الذي كان يقود السيارة ــ بيده، بأنه سيتعمق في الدخول إلى القرية أولًا، ثم نعود إليهم. كانوا يطلبون ذلك من أي غريب يدخل إلى قريتهم. وحين دخلنا وجد يحيى رجلًا يبيع الماء بسيارته. صرخ ناحيتنا من بعيد "أهلًا أستاذ يحيى". رفعنا له أيادينا تحية. قال لنا الناعبي: لا بد أنه أحد طلبته، حيث عمل يحيى قبل ثمانية وعشرين عامًا معلمًا في مدرسة القرية. شخص آخر واقف أمام بيته، لمحه من بعيد كذلك ونادى باسمه.  غريب أمر هذه الذاكرة القروية، التي لا تخون أصحابها. وحين رجعنا إلى جلاس الفاكهة عند مدخل القرية، عرفوه بدورهم، وأحدهم تذكر أنه كان معلمه في ما مضى، يحيى اعتذر على عدم تذكره. ولكن يبدو أن التلميذ من المستحيل أن ينسى معلمه مهما تقدم به العمر. كان بينهم رجل مسن اعتذر لنا لأنه يرتدي نظارة سوداء، وقد بدا وجهه مميزًا، وكأنه يحاكي الموضة في مكان لا علاقة له بأي موضة سوى بالطبيعة في هيئتها البسيطة. وكان سبب النظارة وجيهًا: لأنه قد أجرى أخيرًا عملية في عينه.
بعد تلك الجولة، وحين أزف الظلام، أدخلنا الناعبي بيتهم العائلي، حيث توجد صورة لأخ جده (أو عم والده)، وهو أحد فقهاء عمان المعروفين: "الشيخ على بن حمد الناعبي، الذي تتلمذ على يد الإمام محمد بن عبد الله الخليلي في نزوى، وقد زامل الشيخ حمد بن عبيد السليمي" ــ كما أوضح لي يحيى ــ الصورة لا يمكن أن تغادر ذاكرة كل من يراها، حيث العينان الشاخصتان بسماحة، واللحية ذات الشآبيب البيضاء المديدة التي تكاد أن تخترق إطار الصورة من أكثر من جانب. ساعة وظهر صحن العشاء، وقد تركت أم يحيى بصمتها الخاصة عليه، حين خبزت بيديها رخالًا عمانيًا رقيقًا. انطلقنا عائدين بعد العشاء، وتركنا وراءنا قرية وادعة لا حد لثرائها، ولا يمكن أن يلمحها العابر بسهولة لولا وجود أحد من أبنائها بصحبتنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.