لكنْ، ومع ذلك تبقى للكتابة قيمتها وبهجتها وألقها الدائم في نفوس الناس. وبالتالي، فكتابة مذكّرات من لدن الفنانين تُساعد القارئ على الاقتراب من اللوحات والمقاطع الموسيقيّة والأغاني والأفلام، إنّها بطريقة ما تُقدّم صورة مركّزة عن حياة الفنّان وأفكاره ومواقفه وأسلوب حياته ونمط تفكيره. بيد أنّ هذه المذكّرات غير موجودة، وغير مفكّر فيها، في وقتٍ نجد فيه عددًا من الفنانين يكتبون في أجناس أدبيّة أخرى، مثل الشعر، والنقد، والرواية. في حين أنّ سيرهم وحياتهم الإبداعية تظلّ خفيّة، وغالبًا ما يطاولها النسيان. يحقّ للقارئ العربيّ إلى جانب الأفكار والمفاهيم والنظريات التي تحبل بها اللوحات والأفلام أنْ يتعرّف على الحياة الحميمة للفنّان، لأنّها بطريقة ما تُقرّبه من عالمه الفني وتعطيه إمكانات لامتناهية للتواصل مع هذه الأعمال الفنية ومعرفة أصولها ومنابعها والمسارات الجمالية التي مرّت منها قبل أنْ تُحقّق كينونتها ووجودها داخل الغاليري، أو الصالة السينمائية. يتعلّق الأمر هنا بهشاشة منظومة ثقافيّة فنّية عربيّة تتعامل مع الفنّ وفق طريقة انتقائية. وذلك لكون الناقد ليس الوحيد القادر على إنتاج معرفة حول العمل الفنّي، لأنّ الفنّان يتوفّر على معطيات يجهلها الناقد نفسه. فالفنّان حين يتحدّث عن اللوحة فهو لا يهتمّ بالنظريات والمفاهيم، بقدر ما يُحوّل العملية الفنية إلى علاقة حميمة تبدأ من الجسد، لكنّها سرعان ما تتماهى مع التاريخ، وتتشابك مع الذاكرة ومساربها.
ترك لنا الفنان الفرنسيّ أوجين دولاكروا كتابًا عن رحلة مذهلة حين سافر إلى المغرب. وتُعد هذه الرحلة التي كتبها الفنان أهم النصوص الرحلية القويّة التي ترسم ملامح أخرى للبلد، كما تُظهر التحولات العميقة التي عرفتها لوحات دولاكروا منذ زيارته للمغرب، وكيف أسهمت هذه الزيارة داخل بعثة دبلوماسية في تقديم شيء كثير عن مُنجزه الفنّي. لو لم يترك دولاكروا هذا النصّ الزاخر بالكلمات والألوان والروائح، لم نكُن لنعرف شيئًا عن مسار رحلته، والأسباب التي جعلته يكون داخل هذا الوفد الدبلوماسي.
داخل الفن التشكيلي، نعثر على نوع من المخطوط الذي يُطلق عليه اسم دفاتر الفنانين. وهي عبارة عن مخطوطات يقوم بها بعض الفنانين برسم الخطوط العريضة لأعمالهم الفنّية، قبل أنْ يتحولوا إلى فضاء اللوحة المسندية ومجاهلها. غير أنّ الكتابة تبقى منعدمة لدى الفنانين، إذْ يرى بعضهم أنّ الفنان غير مطالب بالكتابة عن أعماله، أو نسج سيرة متخيّلة حول حياته وذاكرته، ما دامت لوحاته تُظهر أكثر ممّا تُضمر. في حين يرى آخرون أنّ الكتابة، ولو بشكل متقشّف حول التجربة الذاتية، يقود الفنّان إلى تمثل تجربته التشكيليّة داخل إطارٍ فكريّ مُركّب. وهذا الأمر يُخرج أعماله من البعد التقني للعمل الفنّي، إلى أنْ يغدو مُنطبعًا بنفسٍ ثقافي ذائع الصيت. إنّنا هنا أمام كتابة تُخرج الفنّ من إسار العقل والنظريات المتحجّرة والمفاهيم المتيبّسة صوب كتابة تنحتها العين ويرويها الجسد. فالفنّان حين يكتب وكأنّه يُعيد خلق معنى جديد لأعماله الفنّية ويعطيها شرعية ثقافيّة. وتُركّز هذه الكتابة على الوجدان أكثر من العقل، بحيث يتحدّث الفنّان عن علاقته الجسدية باللوحة عن طريق المادة والألوان والسند، إذْ يُحاول عبر هذه العلاقة الساحرة أنْ ينسج تاريخًا تخييليًا لسيرته الإبداعية.
بينما هنالك نوعٌ آخر من "الدفاتر الفنّية"، حيث يعمل الفنان على استلهام بعض النصوص الشعريّة، ومحاولة خلق تناصٍ بصريّ مع هذه الأعمال الفنّية. إنّها بطريقةٍ ما استلهام للشعر ومحاولة توظيفه داخل نسقٍ بصريّ لا من باب البذخ الجماليّ، وإنّما كضرورة مُلحّة لتحقيق بعضِ من التماهي البصري بين الشعري والتشكيلي. وهذا النمط يبقى هو الآخر ضعيفًا داخل التجربة العربيّة، الحديثة منها والمعاصرة. وذلك بسبب وجود فئة كبيرة من التشكيليين الذين يجهلون الشعر العربي المعاصر، كما توجد شريحة من الشعراء ممّن لا تربطهم أيّ علاقة بالفنّان التشكيلي من وجهة نظرٍ ثقافيّة. فحين يستلهم الفنّان أعمال الشاعر يكون بذلك قد خلق لتجربته أفقًا حداثيًا تتماهى فيها الاستعارات والمجازات مع رحابة المواد وفتنة الألوان. ويعد هذا النمط الفني من أنجح التجارب التشكيلية العربية، كما نلمحها عند الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي غدا تجربة رائدة في هذا الصدد.
فحين يُوظّف العزاوي نصوصًا شعرية تبدو النصوص وكأنّها في رحلة للبحث عن معنى جديد لجسدها وكينونتها. بهذه الطريقة، يتجاور الشعري بالتشكيلي، ويرسمان معًا صورة متفرّدة للعمل الفني. فالتجريب الفنّي عنصرٌ أساسي لدخول مناهج الحداثة البصريّة، وإلاّ أضحت الأعمال التشكيليّة مجرّد تكرار مُملّ. الوعي بقيمة هذه الدفاتر يعطي للثقافة العربيّة نفسًا آخر يُحرّرها من سطوة المكتوب في زمنٍ أصبحت فيها الصورة تتسيّد المشهد العربيّ. فأينما ذهبت لا تجد سوى الصورة الإشهارية ونظيرتها الفوتوغرافية والأعمال السينمائية. إنّنا نعيش بتعبير آخر زمن الصورة التي أصبحت فيه تقتحم حياتنا اليومية، حتّى في أكثر الفضاءات خلوة وحساسية. إنّ الصورة تُعرّينا من الداخل، وتكشف كبتنا الجسدي وهشاشتنا الاجتماعية، وفسادنا السياسي. وبالتالي، فإعطاء بعض من التفكير لبراديغم الصورة كمدخل لفهم ما يحدث اليوم داخل الجغرافية العربية، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، سيُحدث ثورة ثقافيّة عربيّة حقيقية.
يُرجّح بعضهم أنّ غياب المذكرات الفنية بالعالم العربي يعود إلى كونها عبارة عن مشروع ذاتي، أيْ أنّها مرتبطة بالفرد أكثر من الجماعة. وبالتالي، فهي تخدم صاحب التجربة الفنّية من ناحية الذيوع والانتشار أكثر من القارئ الذي قد يجد فيها بعضًا من الإطناب في الحشو، أمام ما يُمكن أنْ تحبل به اللوحات التشكيلية والأفلام السينمائية.