}

في حياتنا الحديثة: ما زالوا أحياء لكنهم كانوا...

بلال خبيز 28 أبريل 2024
آراء في حياتنا الحديثة: ما زالوا أحياء لكنهم كانوا...
(Getty)
الحياة الحديثة طافحة بوسائل الحماية والحفظ. ثمة سيارات ذكية، هواتف، ساعات، نظارات، كل ما يضاف إلى جسم المرء يصبح جزءًا لا يتجزأ من هويته الشخصية. ويصعب أن يتم تعريف الكائن المعاصر من دون هذه الأدوات الملحقة بجسمه. مع ذلك، تفترض هذه الأدوات من مستخدميها إجادة استعمالها، وهذا تطلب يفترض ألا مكان لمن لا يجيدون الكتابة والقراءة في عالمها. ها قد حذفنا من أبناء البشر عشرات الملايين ممن لا يجيدون الكتابة والقراءة. هؤلاء إذا واتاهم الحظ سيعيشون كحيوانات أليفة تعتمد في عيشها وبقائها وسلامتها الجسدية على اهتمام الآخرين. أيضًا، ثمة تمييز ثقافي يفترض أن من لا يجيد الإنكليزية في التعامل مع هذه الملحقات لن ينجح في أن ينال كل ما تتيحه وتوفره من خدمات حيوية. لكن الإقصاء لا يتوقف عند هذا الحد. ثمة أيضًا تطلب ملحاح تفرضه علينا هذه الملحقات، يتعلق بتطورها الذي لا يتوقف والذي يجدر بمن أضافها إلى جسمه أن يبقى دائمًا قيد التمرن والتعلم ليسعه استخدامها على النحو الأفضل.
هذه الملحقات حيوية جدًا، لأن ساعة ذكية قد تنقذ حياة كثيرين من أعراض ونوبات قلبية، ولأن هاتفًا ذكيًا بوسعه أن ينبئك بأن إعصارًا يتقدم في اتجاهك، هذا فضلًا عن قدرته على قياس دقات قلبك، ومستوى السكر في دمك، ولأن السيارات الذكية تستعد لأن تقوم بهذه الوظائف في القريب العاجل، ولن يمر وقت طويل قبل أن تطالعنا وسائل الإعلام بخبر يفيد أن سيارة "تسلا" قادت سائقها الذي أصيب بنوبة قلبية إلى أقرب مستشفى، واتصلت بأطبائه، ونجحت في إنقاذ حياته.
القادم من هذه الوسائل سيكون متنوعًا ومتقدمًا في وظائفه. والأرجح أن كل المحظيين سيضطرون للتعلم يوميًا لإجادة استخدام هذه الوسائل والاستفادة منها على أحسن وجه.
ما تقدم كله يقع في خانة المرغوب والمطلوب. ولا شك في أنه يفت في عضد من يفترضون أن الزمن الغابر كان أجمل وأنقى وأسعد. لكن كل هذه الملحقات التي تتصل بأجسامنا اليوم تفرض وجودها على كل شيء. نظام تحديد المواقع يفرض علينا حدود المدن التي نعيش فيها، وطبعًا تلك التي نزورها كسائحين. هذا نظام سيبقي أحياء كاملة من هذه المدن في العتم، بحجة أنها خطرة، أو غير مرحبة. وعليه ثمة أناس كثيرون سيتحولون إلى العيش في الظلمة المطلقة، لأن أحياءهم وأماكن عيشهم لا تحتوي على ما يستحق الزيارة، أو المشاهدة، أو التجربة.




الهاتف الذكي تحول إلى محفظة نقود، ويستعد ليصبح بطاقة تعريف وجواز سفر ورخصة قيادة سيارة، والأرجح أنه في القريب العاجل سيصبح معرفًا عن حامله، شهاداته وكتبه، وقراءاته، وسيرته الذاتية.
الاحتمالات المقبلة كثيرة إلى حد لا يمكن أن نحصيه. لكنها في طريقها إلى التحقق تترك خلفها بشرًا لا يقوون على مواصلة الركض. أكثر هؤلاء سيكونون من المسنين والعاجزين. وهؤلاء جميعًا بتنا نعاملهم اليوم بوصفهم محتضرين.
حين زارني والدي من لبنان، لم يستطع أن يتجاوز الإجراءات القانونية التي تفرضها المطارات. كان علي أن أستأجر مساعدًا له ليجره على كرسي متحرك وينجز له معاملاته القانونية. لم يكن عاجزًا جسديًا، لكنه كان مضطرًا لأن يعامل معاملة العاجز. ذلك أن المطارات والدول والمؤسسات الرسمية والخاصة لم تعد مهيأة للتعامل مع من لا يجيد التعامل مع التقنيات، ومع من لم ينجح في تحويل هاتفه إلى جزء من يده.
في حقيقة الأمر، نحن أيضًا نعامل هؤلاء بوصفهم عاجزين. لا نسمح لهم بالتجول بحرية في المدن، وهم مجبرون على انتظار أوقات فراغنا لنسمح لهم بالخروج من البيت. إنهم مساجين التقنية. وهو سجن عامر بالخوف من كل شيء. وأصلًا هو عامر بالخوف من الناس الذين يفترض بهم أن يكونوا طيبين، وليسوا أشرارًا. والأرجح أن هؤلاء العاجزين ما زالوا قادرين على العيش مستقلين في الأماكن التي نعدها نحن المعاصرين خطيرة. ذلك أنهم لا يملكون ما يستحق السرقة، أو يثير الرغبة، أو الغواية.
لقد أصبح شائعًا أن نتحدث عن هؤلاء بوصفهم كانوا. وليس ثمة ما يمكن أن يعيدهم إلى الحاضر الذي نقيم فيه. ذلك أنهم لا يملكون إلا أيديهم العارية من كل ما ألحقناه بأيدينا، وأدمغتهم العارية من كل ما أضفناه إلى أدمغتنا. ولأنهم كانوا لم نعد نستطيع التواصل معهم بوصفهم رفاق درب، أو حياة. لقد حولتهم التقنيات إلى عبء علينا، ويفترض بنا أن نتعامل معهم كما لو أنهم أقل من بشر. هؤلاء جميعًا، وهم أباؤنا وأمهاتنا، ما عادوا، بسبب التطورات السريعة المتلاحقة في الاجتماع، وكل مناحي الحياة، قادرين على ملاحقة ما يجري. وهذا يجعلهم أعجز من أن يقوموا بدورهم التاريخي المتمثل بإعطاء الأبناء دروسًا لمواجهة الحياة. لقد تحولوا إلى عبء خالص، وكل ما يجدر بهم أن يعلنوه لا يتعدى إبداء اللطف حيال المعتنين بهم، واستحضار الحب، الأمومي والأبوي، بوصفه قيمة لا تضاهى. في حين أن الأبناء يدركون أن المهمة الملقاة على عواتقهم، والمتمثلة في العناية بهم، لا يمكن أن تجازى بما يليق بها. لذلك يعيد الأبناء وهم يعتنون بأبائهم العاجزين تقنيًا، وليس جسديًا، تعريف الحب مرة جديدة. لكنه الحب الذي لم تكتب عنه كتب الأسلاف، إنه الحب الذي يجعل العطاء المجهد سببًا للسعادة. ويفصله تمامًا عن المتع والرغبات. بل يكاد يكون مناقضًا لاحتمال تحققها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.