}

في رحيل محمد المساح: الكتابة بمواجهة محن الحياة الكبرى

صدام الزيدي صدام الزيدي 28 أبريل 2024
استعادات في رحيل محمد المساح: الكتابة بمواجهة محن الحياة الكبرى
محمد المساح (1948 ــ 2024)

على مدى أكثر من أربعة عقود، ظلّ الكاتب والصحافي اليمني، محمد عبد الله المساح (1948 ــ 2024)، على علاقة وطيدة مع القراء، يسحرهم قلمه المعجون بتراب اليمن، والمهموم بقضايا وتطلعات شعبه وفئاته من الغلابة والكادحين، في بلد أجهزت عليه الحروب والصراعات، وأخذ حصة وفيرة من التشظي والانهيار تحت وطأة حكومات (وجماعات) متعاقبة، بلغ إفسادها مبلغه من دون رادع، أو عقاب.
مساء الجمعة، الموافق 19 أبريل (نيسان) 2024، فاضت روح المساح إلى خالقها في مسقط رأسه بالقرية في محافظة تعز (جنوب غربيّ اليمن)، وهو الذي ــ مُكرَهًا ــ غادر صنعاء قبل سنوات قليلة بعد أن وجد نفسه متسكعًا في شوارع تزدحم بالخراب والفوضى الخلاقة، مكتويًا، كغيره، بلظى نيران الفاقة والجوع، في خضمّ حرب عبثية تسببت بانقطاع مرتبات الموظفين، ولأن المساح كان يومًا (في سبعينيات القرن المنصرم) رئيسًا لتحرير يومية "الثورة" الحكومية الصادرة في صنعاء، وواحدًا من آلاف الموظفين الذين قطعت الحرب رواتبهم، اتجه إلى القرية، حيث سيعجز (وهو الكاتب الذي شغل عقول قرائه في أنحاء البلاد كلها) عن تحرير أحد أبنائه من السجن في منطقة بشمال البلاد، وحيث سيظهر في صورة فوتوغرافية تداولتها المنصات جالسًا القرفصاء في مزرعة غير آهلة، بجانبه ثلاجة شاي، أو قهوة، وعلى رأسه قبعة واقية من لهيب الشمس، وغير بعيد منه قطيع (كسَب) أغنام يقوم برعيها والاهتمام بها بعيدًا عن صخب المدينة وأضوائها...
تأخذنا سيرة المساح إلى رحلة طويلة انطلقت من تعز إلى عدن إلى جدة إلى القاهرة، حيث درَس الصحافة في جامعاتها، ومن ثم العودة إلى اليمن للعمل في وزارة الخارجية، وإصدار مجلة شهرية كانت لسان حال الوزارة وسفاراتها وقنصلياتها في الخارج، قبل أن يتم إرساله للعمل في هيئة تحرير صحيفة "الثورة" (في أوائل السبعينيات) رفقة كوكبة من رواد ونجوم العمل الصحافي اليمني في ما بعد ثورة سبتمبر (أيلول) 1962، وحيث سيشغل منصب رئيس التحرير لأهم صحيفة في البلد، ويقرر نشر اسمه ضمن قائمة هيئة التحرير لا منفردًا بجوار الترويسة العريضة للصحيفة.
لكن ما أن يُذكر محمد المساح حتى يتبادر إلى الذهن "لحظة يا زمن"، وهو عمود يومي كتبه ابتداء من عام 1975 وحتى عام 2016، وقد أخذ العمود حيزًا مرموقًا في الصفحة الأخيرة من صحيفة "الثورة" اليمنية، وهي فترة تزيد قليلًا على الأربعة عقود، غير أن العمود ذاته عاود الصدور في أواخر العام المنصرم 2023، ليس بشكل يومي، وإنما على فترات متقطعة في موقع "النداء"، الذي أنشئ ــ مؤخرًا ــ بُعيد فترة انقطاع طويلة لصحيفة "النداء" الأسبوعية التي كانت تصدر في صنعاء، لتستأنف نشاطها من خلال نافذة إلكترونية تحاول استعادة ما أمكن استعادته من أرشيف السنوات الخالية، وإحداث مواكبة صحافية تعنى بالشأن المحلي اليمني والعربي في أهم قضاياه، كقضية فلسطين.
وثمة صورة أخرى تم تداولها على المنصات في السنوات الأخيرة، يظهر فيها المساح منحنيًا في مجلسه في غرفة بسيطة، يكتب على ورقةٍ ربما إحدى مقالات عموده اليومي "لحظة يا زمن"، في أجواء مغلفة بعتمة وصمت وكآبة، وثمة ثلاث شمعات للإضاءة (عندما يحلّ الليل) كبديل عن منظومة كهربائية مفقودة. تشي الصورة بعلاقة ممتدة مع الكتابة، معرّيةً لحظة يمنية بائسة للغاية، هي اللحظة عينها التي (في بواكير حرب اليمن الراهنة) أراد المساح أن يكتبها، أو بالأصح، أن يجاريها وينازلها، وكان له ذلك، حينما أصدر أوامره (الافتراضية) للزمن بأن يتوقف للحظة، غير أن الزمن يمضي والمساح (كان) كل يوم يطل على الناس بمقال جديد، إلى أن التفت ناحيته الزمن لمرة أخيرة، تحت وطأة قدر محتوم لا يُردّ، مناديًا على المساح، ومن دون سابق إنذار: "لحظة يا مساح"!




في مسيرته الممتدة، كان المساح قد تعرض للسجن، وهو الذي كان يخرج عن البروتوكول الرسمي في صحيفة حكومية سيّارة، فيكتب رأيه وموقفه وضميره من دون خوف من الرقيب الإعلامي، ولسنا هنا في صدد الخوض في جزئيات، أو تفاصيل من هذا النوع ــ وهي كثيرة ومشوقة ــ ضمن مسيرة الصحافي المساح، لحساب الاحتفاء بتجربة صحافية ــ أدبية مغامرة، تجترح آفاقًا أجمل في مواجهة ماضوية متموضعة بأكثر من شكل وهالة، وإن لوحظ استخدام المساح لمفردات من اللهجة الدارجة في سياق عموده الصحافي، فهي في الأصل موجهة لعامة الناس، تتغيا كتابة رنين أنفاسهم وهم يركضون بعناء في يوميات بائسة وأوضاع كارثية متفاقمة... وانفرد المساح، بأسلوب مختلف عن أمثاله من كتاب الأعمدة الصحافية، فهو تارةً يكتب في السياسة مع الاحتفاظ بنبرة الأديب والحداثيّ، وحينًا يوغل في الرمزية متحاورًا مع أشباح وغيوم ونجوم وليل ومطر وأغنية وجبال ومعارك وموسيقى وتنانين وضباب وغبار وحنين وذكرى ونقد ومرح وتحليق وصمت وأمل وبوح، وما بات معتادًا لديه هو أنه في مواضع ومقالات كثيرة يستلف كلمات من العامية والدارجة ضمن كتابة مقالية ــ سردية تعالج قضايا وتداوي أحزانًا بأسلوب أدبي يقوم على التكثيف والإشارة والاقتباس ونحو ذلك، لغة إبداعية واعية مؤثثة بتهويمات شعرية ــ قصصية، أكثر منها لغة مقالية ــ تقريرية مملّة وثرثارة، ذلك لأن كاتبًا يملك موهبة وخيالًا (أدبيًا) كبيرين، يقبض على جمر الكلمات، وحينما يكتب إنما يكون قلمه هو لسان حال الغلابة والمسحوقين من الناس، وقد جعل من الكلمات صوتًا مدوّيًا، ومن الكتابة رسالة وقضية.

أمّا شعريًّا فقد عُدّ المساح من شعراء الموجة الأولى في قصيدة النثر اليمنية، من جيل الرواد السبعينيين ومنهم عبد الرحمن فخري وعبد الودود سيف وعبد الله قاضي، وإن كانت كثير من نصوصه وكتاباته عصيّة على التصنيف المباشر.  

فلسطين حاضرة

على موقع "النداء" الإلكتروني، تطالعنا ــ في غضون أشهر قليلة ــ عشرات المقالات/ النصوص/ التنويعات، توالت ممهورة بعنوان عريض: "لحظة يا زمن!"، كتبها المساح برغم محنته الكبيرة في القرية، حيث لا خدمات كهرباء، أو إنترنت، ونحو ذلك، متوفرة بشكل ممكن، عدد منها لم يخرج عن سياق تناول قضية العرب المركزية (القضية الفلسطينية)، وما يجري منذ أكثر من 200 يوم من حرب إبادة يواصلها الجيش الإسرائيلي، ضد البشر والحجر، ومقومات الحياة في قطاع غزة. وفي السياق، يلوِّح الكاتب إلى فداحة (وخبث) الغطاء الإعلامي والعسكري الأميركي الداعم لدولة الاحتلال.



وغير بعيد، يتداعى مع طفرة التكنولوجيا منوهًا بدور الإنترنت والمنصات الجديدة، منبهًا من خطورة انفراد الصهاينة (والغرب عمومًا) بتملك وإدارة وتوجيه منصات التواصل الاجتماعي، وغيرها من أدوات ونوافذ الإعلام الجديد.

استئناف "لحظة يا زمن"

في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، أعلن رئيس تحرير "النداء"، الصحافي سامي غالب، في خبر صحافي، إمكانية عودة المساح لكتابة عموده "لحظة يا زمن" على موقع "النداء"، مبينًا أن الصحافي والكاتب عبد الرحمن بجاش (زميل المساح وصديقه المقرب) يبذل جهودًا للتواصل مع المساح لإقناعه بالكتابة لـ"النداء" تحت العنوان نفسه: "لحظة يا زمن"، وبالفعل عاد المساح، وعادت لحظته الهاربة من جحيم سلطة وواقع يتقاطع معهما كليةً.
يقول سامي غالب إنه ليس لديه ما يقوله بخصوص علاقة زمالة مع المساح "فالحاصل أن المساح ظل على الدوام محاطًا بهالة تمنعني من الاقتراب منه". موضحًا أن المرة الأولى التي رأى فيها المساح عن قرب كانت خلال المؤتمر الثالث لنقابة الصحافيين في عام 2004، لكن أول تماس معه كان في عام 2012، حيث كنا نشاهد في (مقيل) النقابة افتتاح أولمبياد لندن؛ أدهشني وهو يخوض تفاصيل الأولمبياد وتاريخه وميزات حفلات الافتتاح من أولمبياد إلى آخر، قبل أن أبحر معه في رياضات مختلفة وصولًا إلى نشاطه هو نهاية الستينيات في القاهرة كلاعب كرة قدم في أثناء دراسته.
ويتابع غالب متحدثًا لـ"ضفة ثالثة": في عام 2019، كان المساح في قريته في تعز، وأنا في مصر، استرعى اهتمامي منشور لصديقه وزميله الأقرب عبد الرحمن بجاش، فهمت منه أن المساح في محنة كبرى جراء فقدان الاتصال بابنه الشاب الذي التحق بأحد أطراف الصراع في اليمن، وغاب فيزيائيًا في منطقة شمالي البلاد قريبة من الحدود اليمنية السعودية. تواصلت حينها مع بجاش، وصعقت إذ أوضح بأن الرجل يكابد جراء عدم تفاعل الجهات الرسمية مع قضية ابنه: محنتان عاشهما؛ غياب ابنه وتوقفه عن كتابة زاويته اليومية في أخيرة "الثورة".

ومنذ لحظة إعلان خبر وفاة المساح، امتلأت منصة فيسبوك بعبارات الرثاء ومنشورات الوداع التي وقفت في مجملها عاجزة عن القول في رحيل كاتب وصحافي من طراز مختلف، موقفًا، وسيرةً، ونضالًا، ووفاءً للكتابة، وإيمانًا بقدسيتها، وبقيم الجمال والمحبة.
وكان الابن سهيل محمد المساح، (وهو باحث في شؤون يهود اليمن)، من جهته، ينعى والده على طريقته في عنفوانه وكبريائه: يا لأنفتك يا مساح! حتى للمرض لم تنحنِ... اخترت الرحيل سريعًا... حتى قبل أن نستوعب الفاجعة؛ كانت روحك قد قطعت ألف ميلٍ في الفضاء... نام المساح علّهُ يصحو على وطن معافى خالٍ من (ملاعين الكبد) كما كان يحب أن يصفهم. لحظات حياته الأخيرة كانت أشبه بلحظات قلمه القصيرة.
غير بعيد، نعت نقابة الصحافيين اليمنيين، المساح، منوهةً بدوره منذ ما يزيد عن أربعة عقود كواحد من "أبرز الصحافيين والنقابيين الذين ساهموا بإخلاص في تطوير الصحافة اليمنية وتعزيز العمل النقابي".
وبحسب بيان للنقابة: لقد عرفنا الفقيد المساح ببساطته وتواضعه وعصاميته إلى جانب علاقته الودودة مع جميع زملائه وأصدقائه، وتميز بعطائه الفكري والثقافي الذي استفادت منه أجيال من الصحافيين والمهتمين.




وفي مناسبة "صنعاء عاصمة الثقافة العربية"، كانت أقيمت فعالية تكريمية منفردة للأديب والصحافي محمد المساح تحت عنوان "لحظة يا مساح"، ضمن برنامج شمل تكريم رموز الإبداع اليمني، تحت إمضاء وإشراف وزير الثقافة عامئذ، الكاتب والأديب خالد الرويشان.

"السهل الممتنع"

عبر الأديب عبد الله قاضي، المتواري عن الأنظار منذ ربع قرن، والذي اتخذ هو الآخر طريق العودة من صنعاء إلى القرية في بني حماد ــ تعز، بدأت معرفة الأديب والكاتب منصور السروري بمحمد المساح، في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، بعد أن ظل يتابع عموده الصحافي لسنوات. يقول السروري لـ"ضفة ثالثة": كنت كلما جلست إلى المساح، أكتشف محطات وجوانب من صفاته وتاريخه الشخصي والمهني والإبداعي...
ويلفت السروري الانتباه إلى أن "لحظة يا زمن" كانت قد سبقته أعمدة للمساح في صحيفتي "الثورة" و"الشورى"، مثل: "لقطة من الزاوية" 1972، وبعده "الناس والأشياء"، ثم عمود "لقطة من عين الكاميرا"، الذي استمر حتى 1975. كما أن العمود نفسه شهد توقفًا في بداية التسعينيات، ثم عودة ثانية لكتابته مع نهاية التسعينيات، وفق ظروف بقاء المساح في "الثورة"، أو مغادرة مؤقتة وعودة لاحقة.
ووفقًا للسروري: "لحظة يا زمن" كتبه المساح بأسلوب سهل ممتنع، فأحيانًا يكتب برمزية مكثفة، وتارةً يقدم قصصًا قصيرة مازجًا بين الشعرية والمفردات الشعبية، وتارةً يستعين باقتباسات وشروحات بلاغية وأدبية من كنوز التراث وإعجازات اللغة العربية بطريقة فلسفية، أو صوفية.

كتاب وحيد عن المساح

في 17 فبراير/ شباط 2020، نشرت في منبر "ضفة ثالثة" عرضًا لكتاب "لحظة يا زمن محمد المسّاح" (دار أروقة القاهرة)، وهو كتاب من إعداد انتصار السري، وفوزي الحرازي، تضمن محطات وذكريات في حياة محمد المسّاح.
تقول القاصة والكاتبة انتصار السري لـ"ضفة ثالثة" إن الفكرة الأولى لإعداد الكتاب تشكلت عندما كانت في أرشيف مكتب رئاسة الجمهورية في صنعاء، في صدد جمع مادة عن القصة القصيرة جدًا في اليمن. ولوهلة، طالعها نص للمسَّاح بعنوان "لها حين ترقص": شدتني اللغة، والصور البلاغية، والأسلوب، فتلك ليست لغة مقال صحافي، بل لغة شاعرية عذبة، ثم قرأت عددًا آخر من النصوص واللحظات، ووجدت نصوصًا قصصية وشعرية منشورة، في صحيفة "الثورة"، وعدد من المجلات التي كانت تصدر في السبعينيات، لكننا لم نعثر على أي أعمال قصصية للمسَّاح في المكتبات.
بعد ذلك، قررت السري التواصل بالمساح، الذي أفادها بأنه كتب قصصًا ونصوصًا شعرية، لكنه لم ينشرها في كتاب، وإنما في الصحف والمجلات؛ و"لحظتها قررنا إصدار الكتاب. تواصلت مع الأستاذ عبد الرحمن بجاش، وعرضت عليه الفكرة، فرحب بها، وساعدني كثيرًا. وسألته عن بداية عمل الأستاذ المساح في الصحافة، فقال لي: بعد عودته من القاهرة، أي من بداية السبعينيات، وعندها عملت مسحًا بالموبايل لكتابات المساح في صحيفة ’الثورة’ والمجلات التي نشر فيها من بداية عام 1970، جمعت كل نصوصه الشعرية والقصصية ومقالاته من أول "لقطة من الزاوية"، إلى عموده الثابت ’لحظة يا زمن’.
ثم جمعت شهادات عنه من أصدقائه وزملائه المقربين، وانتهيت بإجراء حوار مطول معه امتد لشهر ونصف الشهر صوتًا وصورة. وعند الانتهاء من تفريغ الحديث الصوتي، وترتيب مواد الكتاب، قام الباحث فوزي الحرازي بمراجعته وتدقيقه لغويًا إلى أن صار جاهزًا وخرج إلى النور عام 2020".
ختامًا، تتمنى السري على الجهات المعنية جمع ونشر مقالات ونصوص المساح في كتب، فلغتها ساخرة، وكاتبها كان سابقًا زمانه، وينبغي على طلاب الإعلام والدارسين والباحثين أن يطلعوا على تجربته المتميزة والفارقة في الكتابة الصحافيّة والأدبية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.