}

لماذا يتوجب علينا دراسة التواريخ البديلة؟

نانديني داس 26 أبريل 2024
ترجمات لماذا يتوجب علينا دراسة التواريخ البديلة؟
نانديني داس
ترجمة: لطفية الدليمي
 
التفكيرُ بالتواريخ (السيناريوهات) البديلة أمرٌ له جاذبيته وإغراؤه على الدوام في حيواتنا الحالية، أو في كلّ حين نحاول فيه إضفاء معنى على الوقائع الماضية. التساؤلات بشأن ما حدث في الماضي يمكن أن تنزلق بسهولة لتتحوّل إلى حدوسات تخمينية في ما قد يكون عليه شكل التاريخ اللاحق لو أنّ هذه الوقائع لم تحدث أصلًا، أو لو أنّها حدثت على نحو مخالف لما حدثت به. المؤرّخون لا يميلون كثيرًا إلى مساءلة مثل هذه التخمينات؛ لكنّ عالم التخييل الروائي يمكن أن يتغذّى على مثل هذه التواريخ التخمينية البديلة للتاريخ الحقيقي الذي عشناه وشهدناه.
في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1616، كتب السير توماس رو Thomas Roe، وهو أوّل سفير إنكليزي لدى الهند، رسالة إلى رؤسائه في شركة الهند الشرقية. اشتكى رو في هذه الرسالة المليئة بالاحباط من أنّهُ يُعاملُ من قبل البلاط المغولي الفخم كممثّلٍ لسلطة "إفرنجية" غربية تمثّلُ مصالح نخبة من الأقلّية؛ لكن برغم هذه الشكوى الطافحة بالمرارة فإنّ الموضوعة الرئيسية للرسالة ركّزت على الأخطاء الجسيمة للشركة. أكّدت الرسالة مرّات عديدة، وبنبرة تحذيرية جازمة أنّ "الحرب والتجارة أمران لا يتعايشان مع بعضهما، وأنّ من الافضل السعي وراء المنفعة (الربح) في بيئة تشجّعُ على التجارة السلمية...". لم يكن السفير رو، وهو يكتب هذه الكلمات، ينحو منحى مثاليًا في تغليب الأخلاقيات على ما سواها عندما يختصُّ الأمر بالمصالح الإنكليزية المدفوعة بالطموحات الإمبراطورية العالمية. نصيحة رو التي ضمّنها رسالته تجوهرت في ضرورة الاستخدام الأمثل لموارد شركة الهند الشرقية بدلًا من إعلاء شأن الرفعة الأخلاقية للإمبراطورية البريطانية؛ لكن لن يكون أمرًا ذا شأن بعد هذا لو تطابقت المصالح الإمبراطورية مع الخصيصة الأخلاقية المثالية الرفيعة. وكما يخبرُنا التاريخ اللاحق، فإنّ التجارة السلمية لم تظلّ الغاية المرتجاة للإنكليز في الهند. يحقّ لنا أن نتساءل: ماذا لو أنّ نصيحة رو جرى اتباعُها؟ سأقول من جانبي، ونظرًا لعملي في حقل تاريخ السفارة الإنكليزية الأولى في الهند، إنّ هذا السؤال ظلّ من الأسئلة التي لا تخمد، ولطالما جرى تكرارها وكانت مادة شغلت تفكيري الشخصي، أو أحاديثي مع آخرين. الجواب اليسير المتاح لهذا السؤال هو أننا لا نعرف المسار الذي سيتخذه التاريخ لو جرى اتباعُ نصيحة رو؛ لكنّ إنكار السؤال وتجاهله ليس بالمقاربة المقبولة أو المفيدة، لأنّه سيعني بالضرورة حتمية المواجهة العسكرية العنيفة التي حصلت لاحقًا، وسيعني أيضًا شطب كلّ الامكانيات البديلة للوجود البريطاني في الهند، واعتبار الوجود العسكري المباشر هو الإمكانية الوحيدة. هذا شكل من أشكال الحتمية التاريخية Historical Inevitability التي لا أميل إليها أبدًا.
سأكونُ دومًا في صحبة طيّبة مع التاريخ لو أتيح لي القدرة على التأمّل والحدس والتخمين في تواريخ بديلة. إنّ المساءلة الاستكشافية لوقائع لم تحصل في التاريخ ليست بالأمر الجديد، وربّما المثال النموذجي الأفضل على مثل هذا المساءلة هو السؤال الذي لا ينفكّ يتردّدُ بين حين وآخر: "ماذا لو أنّ هتلر انتصر في الحرب العالمية الثانية؟". يلجأ المؤلفون الروائيون في العادة إلى الفضاء السردي عند التعامل مع هذه الأسئلة، فهذا الفضاء مفتوحٌ أمامهم من غير محدّدات لعرض وجهات نظرهم ورؤاهم المتعدّدة والمتباينة. صنع التفكير الحثيث في سؤال "ماذا لو أنّ الحرب العالمية الثانية انتهت بكيفية مخالفة لما انتهت إليه؟" خطًّا فكريًا أنتج كثرةَ من الروايات، منها: رواية The Man in the High Castle للروائي فيليب كي. دِكْ Philip K. Dicke، ورواية Fatherland للروائي روبرت هاريس Robert Harris، ورواية Dominion للروائي سي. جَيْ. سانسوم C. J. Sansomهذه الروايات ــ وسواها ــ تناولت تواريخ عالمية خسر فيها الحلفاء الحرب العالمية الثانية أمام ألمانيا النازية. اتّبع روائيون آخرون مساءلة استكشافية في تاريخ أبعد من الحرب العالمية الثانية. وكمثال على هذا الفعل، يمكن الإشارة إلى عمل الروائي كيم ستانلي روبنسون Kim Stanley Robinson المعنون The Years of Rice and Salt، والذي يصوّرُ فيه الكاتب كيف أنّ المحو الكامل ــ تقريبًا ــ لسكّان أوروبا بعد جائحة الطاعون القاتلة أدّى إلى تاريخ جيو ــ سياسي عالمي بديل صار فيه الإسلام والبوذية الدينيْن المُهَيمنيْن على العالم.



في ما يخصُّ المؤرّخين المتمرّسين، تمثّلُ الرغبة في دراسة واستكشاف التواريخ البديلة Counterfactualism مقاربة شاذة، غريبة، خارجة على السياقات المعتمدة، سخيفة غالبًا، وقد تكون محفوفة بالخطر في بعض الأحايين؛ لكنها إشكالية دومًا. يرى هؤلاء المؤرّخون أنّ هذه المقاربة التاريخية البديلة قد تقود أحيانًا إلى دفع بعض المؤرخين لإسباغ توصيف لا يخلو من بعض الطرافة عليها، وهو توصيف يتوافق مع ما اقترحه إي. بي. تومبسون E. P. Thompson، الذي رفض هذه المقاربة كليًا، واعتبرها "هراءً غير تاريخي"، يسمّى بالألمانية Geschichtswissenschlopff؛ لكنّ الغريب في الأمر أنّ هذه المفردة التوصيفية القاسية لم تلق قبولًا حتى في أضيق النطاقات الممكنة، ولم يتداولها أحدٌ خارج نطاق الكتاب الذي كتبه تومبسون ونشره عام 1978 بعنوان The Poverty of Theoryفي سياق مختلف عمّا سبق، عندما كتب مؤرّخ تاريخ الأفكار البريطاني ريتشارد جَيْ. إيفانز Richard J. Evans مقالته ذائعة الصيت في صحيفة (غارديان) عام 2014 بعنوانها اللافت للأنظار"(ماذا لو؟) هي إضاعة وقت  What if?’ is a waste of timeفقد قصد الاشارة إلى المترتّبات الأيديولوجية المصمّمة بقصدية مسبّقة لخدمة أغراض محدّدة من وراء نشر مثل هذه التواريخ البديلة. قصد إيفانز بنقوداته الصارمة نمطًا من التواريخ البديلة التي لاقت رواجًا شعبيًا مثل كتاب نيال فرغسون Niall Ferguson المعنون Virtual History: Alternatives and Counterfactuals




يرى إيفانز أنّ المعضلة الكامنة في مثل هذه "التمرينات الفكريةلا تكمنُ في نزعتها إلى التأمّل والحدس والاستكشاف للبدائل التاريخية الممكنة؛ بل يكمنُ خطرها المحتمل في نزوعها الملّح لتعزيز ما أسماه "الفرادة التاريخية"، مشيرًا إلى أنّ مثل هذه الأعمال تعيدنا إلى حقبة "الأبطال التاريخيين العظماء"، حيث تحدّدُ أفعالُ بعض الأفراد حركة ومسار التاريخ العالمي كلّه.
تساءل إيفانز: "لماذا يتوجّبُ علينا ونحنُ في بواكير القرن الحادي والعشرين مقاربةُ التاريخ على هذا النحو (أي بقراءة تواريخ بديلة)؟". أجاب إيفانز على تساؤله هذا بأنّ اهتمامنا الكبير بالتواريخ البديلة مرتبطٌ أشدّ الارتباط بالوضع ما بعد الحداثي Postmodern Condition الذي يدعو إلى عدم الوثوق بالخبرة والحقائق اللتين تمثّلان المادة الجدالية على المستويين الأكاديمي والعام. هذه بالتأكيد هواجس صالحة للتفكّر والاعتبار؛ لكن ثمّة رؤية أخرى. في كتابهما المنشور عام 2021 بعنوان A Past of Possibilities: A History of What Could Have Been لا يتغافل مؤلّفا الكتاب Quentin Deluermoz وPierre Singaravélou عن مخاطر التواريخ البديلة؛ لكنهما في الوقت ذاته يشيران إلى أنّ المقاربات التاريخية التقليدية ليست في منأى عن الوقوع في فخّ ما أسمياه "الانحياز المتأخّر hindsight bias". بكلمات أخرى: الاستدلالات التي تنبثق من بحثنا التاريخي لا تتشكّلُ بمعرفتنا فحسب، بل في السياقات التي نعمل في ظلّها وتحت تأثيرها. إنّ مساءلة مثل هذه الاستدلالات التاريخية التقليدية عبر دراستها ورؤيتها في سياق أسئلة افتراضية من نوع "ماذا لو؟؟؟" هو أمرٌ يختلف تمامًا عن الحدس الحر غير المقيّد. أحد الادعاءات المثيرة لهذين المؤلّفيْن هو أنّ كثرة من التواريخ البديلة وجدت مواطن لها خارج أوروبا في الأمم التي كانت مستعمرات سابقة، ومجتمعات كانت مهمّشة، مثل الهند وأستراليا وبلدان أميركا اللاتينية. يواصل المؤلفان جدالهما الحجاجي فيكتبان في كتابهما آنف الذكر أنّ مثل تلك المشاريع لكتابة تواريخ بديلة في مناطق من العالم خارج أوروبا "إنّما هي محاولاتٌ لبناء سردية أخرى للتاريخ العالمي عبر تغيير مقياس التحليل مع المحافظة على كلّ المنظورات الأخرى".
في ما يخصُّ كثيرًا من المنشغلين بالتواريخ البديلة في أيامنا الراهنة، فإنّ الدافع الأساسي لديهم لدراسة التواريخ البديلة والكتابة عنها هو بكلّ وضوح ليس رغبة في إضفاء عظمة إضافية على بعض الأفراد العظماء، أو على وقائع كبرى محدّدة. يسعى هؤلاء، وكمقاربة بديلة، إلى تذكيرنا مرّة تلو أخرى بأنّ الأراشيف (المحفوظات التاريخية) وطرائق البحث التاريخي اللتيْن تعتمد عليهما الشواهد التاريخية التقليدية هي بذاتها قلّما تكون محايدة. من عاش ومن مات من البشر؟ ووثائقُ مَنْ من البشر تمّ الحفاظ عليها، وأيّها أتلِفتْ؟ وما الحكايات التي تروى حتى اليوم، وبأيّة كيفية وسياق تروى فيه لتخدم غرضًا محدّدًا؟ هذه الأسئلة وكثيرٌ سواها اعتمدت كثيرًا على من هو متاحٌ له الإمساك بقدرات سلطوية أكثر من سواه. ترى الأكاديمية الأميركية سيديا هارتمان Saidiya Hartman أنّ تلك المحدوديات المحتّمة تستلزمُ طرقًا جديدة في مساءلة الماضي بما قد ينتجُ عنه نمط من الكتابة التاريخية يصحُّ وصفه بِـ"الخيال النقدي Critical Fabulation". تكتب هارتمان في هذا الشأن:"هذا النمط الكتابي في التخييل التاريخي من شأنه دفع التاريخ ليكون أبعد نطاقًا من حدود الملفات والسجلات الأرشيفية المحفوظة، ولكي تتاح له القدرة في تأمّل ما قد يكون حدث". يذهب بعضُ المؤرّخين أبعد من هذا؛ إذ ترى ستيفاني سمولوود Stephanie Smallwood أنّ الأمر أبعدُ من محض منح صوتٍ لما قد تكون التواريخ الحالية قد أسكتته؛ بل ما هو أكثر أهمية من هذا هو تشخيص المسكوت عنه، ومن ثمّ الاعتراف بما تمّ إسكاته، ولماذا حصل هذا الإسكات، مقصودًا كان أم بنتيجة تغافل أو خطأ أو إهمال.



لم تزل النقاشات الجدالية والمحاججات الفكرية بشأن ما الذي يكوّن التاريخ مصدرًا لشيوع فهم أحادي الرؤية، صلد لا يتغيّر بشأن الماضي، تشكّله مجاميع من الحقائق الحيادية المستقاة من أعماق السجلات المؤرشفة. أعتقد أنه قد حان الوقت، ربّما، لأن نوجّه اهتمامًا جديدًا ومكثّفًا للشظايا التاريخية وللأصوات المغيّبة التي لم نسمعها، وللانعطافات التي لم ندرسها أو نتأمّل فيها بدقّة. باختصار وجيز: يجب الانتباه إلى التاريخ الذي لم يُسَجّلْ، وإلى التواريخ الممكنة التي لم تحصل.

قراءات إضافية:

Altered Pasts: Counterfactuals in History by Richard J Evans (Abacus)
Wayward Lives, Beautiful Experiments: Intimate Histories of Riotous Black Girls, Troublesome Women and Queer Radicals by Saidiya Hartman (Serpent’s Tail) 
A Past of Possibilities: A History of What Could Have Been by Quentin Deluermoz and Pierre Singaravélou (Yale)

* نانديني داس Nandini Dasأستاذة الأدب الإنكليزي والثقافة الإنكليزية في جامعة أكسفورد. لها اهتمامات واسعة في أدب عصر النهضة، والسفر، والهجرة، والتداخلات الثقافية العابرة للقوميات. نشرت كتبًا عديدة آخرها الكتاب المعنون:
Courting India: England, Mughal India and the Origins of Empire.
الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 20 آذار/ مارس 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية.
العنوان الاصلي للمادة المنشورة باللغة الإنكليزية هو: 
Why we should study the history that never happened?

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.