}

الـ"سكّين": "تأمّلات" سلمان رشدي إثر محاولة اغتياله

عماد فؤاد 13 مايو 2024
تغطيات الـ"سكّين": "تأمّلات" سلمان رشدي إثر محاولة اغتياله
سلمان رشدي

إحدى المعضلات التي تواجهها الكتب الصادرة حديثًا للكُتَّاب عمومًا، وخاصة "المشاهير" منهم، أن تلقّيها غالبًا ما يتمّ وفقًا للصورة التي أصبح عليها الكاتب لدى قرّائه، أو في الأوساط التي يتواجد فيها، ما يجعل النظرة النقدية للعمل الأدبي تتأثّر، لا محالة، بالموقع السياسي أو الاجتماعي، أو حتّى بالمنصب الوظيفي للكاتب في المشهد الثقافي العام، فتخرج الأعمال الأدبية الجديدة لتستفيد، أو تتضرّر، من الهالة المحيطة بكتَّابها، وبأعمالهم السابقة.
حين أصدر غابرييل غارثيا ماركيز، وهو في عقده الثامن، روايته "ذاكرة غانياتي الحزينات" عام 2004، والتي جاءت بعد توقّف استمرّ لعشر سنوات كاملة، احتفت اللغات جميعًا بالحدث الكبير، ورغم هذا، بقيت "ذاكرة غانياتي الحزينات"، عملًا روائيًا باهتًا خيّب آمال كثيرين، ولم يضف شيئًا إلى مكانة ماركيز، بل ربّما انتقص منها بشكل أو بآخر، خاصة حين توضع روايته "الفقيرة" أمام الأصل "الفارق" الذي استوحاها منه: رواية "الجميلات النائمات" (1961) للياباني ياسوناري كاواباتا، وإحدى تحف الأدب العالمي (**).
ولأنّ التاريخ يظلّ يلعب لعبته ذاتها بتكرار مملّ، فها نحن الآن، وبعد عشر سنوات من رحيل ماركيز هذه المرّة (رحل في نيسان/ أبريل 2014)، نجد عائلة الكاتب الكولومبي تعلن عن إصدار رواية مجهولة له بعنوان "نلتقي في أغسطس"، كان ماركيز نفسه رفض نشرها في حياته، وقرّر التخلص منها، لكن كان لابنيه رأي آخر، حيث صدرت الرواية في أبريل/ نيسان 2024، لتترجم على الفور إلى عشرات اللغات باعتبارها: "تتويجًا كبيرًا لرحلة أعظم كتَّاب الواقعية السحرية"، وفقًا لغلاف الترجمة الهولندية، وصحيح أن رواية ماركيز هي الأخرى جاءت مفككة وصادمة للآمال النقدية، ولكنّها ــ من المؤكّد ــ ستكون فارقة بقوة في أرباح الورثة.
كانت هذه هي الحال بالتّأكيد عندما صدرت رواية "مدينة النصر" للكاتب البريطاني ذي الأصول الهندية سلمان رشدي عام 2023، بعد ستّة أشهر فقط من محاولة اغتيال تعرّض لها الكاتب أثناء فعالية ثقافية يوم 12 آب/ أغسطس 2022 في نيويورك، على يد شاب من أصول عربية مستخدمًا سكينًا في الهجوم عليه، فطعنه 17 طعنة خلال 27 ثانية كانت مدّة الهجوم، ورغم كثرة الطعنات وفقدان عينه اليمنى، ينجو سلمان رشدي (77 عامًا) من الاعتداء فيما يشبه المعجزة، ويدخل مرحلة طويلة من التعافي، حتى تصدر "مدينة النصر" فيتمّ تلقّيها باعتبارها "نصرًا" شخصيًا لرشدي ضدّ من حاول قتله، وتجد الرواية (يوم نشرها) إشادات دولية شبه جماعية باعتبارها: "انتصار الكاتب على الكراهية والتعصّب الذي كاد أن يكلّفه حياته قبل بضعة أشهر".
من الطبيعي جدًا أن تتمّ إدانة محاولة الاغتيال التي تعرّض لها رشدي، ومن الطبيعي كذلك أن نفرح بنجاته منها، لكن كتابه الأحدث "سكين... تأمّلات بعد محاولة اغتيال*"، والصادر في منتصف نيسان/ أبريل الماضي في 224 صفحة في أصله الإنكليزي، عن دار "راندوم هاوس" الشهيرة، قوبل هو الآخر بحفاوة استثنائية في مختلف اللغات، على الرغم من أنه، في أفضل حالاته، سرد صحافي للحظة الهجوم عليه، ورحلة تعافيه حتى كتابة فصول "سكّينه" الثمانية.

بعد محاولة اغتيال سلمان رشدي: لحظة القبض على الشاب المتطرف 


يقسّم سلمان رشدي كتابه الجديد "سكّين" إلى قسمين رئيسيّين: "ملاك الموت"، و"ملاك الحياة". وعبر ضمير المتكلّم، وفي لغة تقريريّة صرفة، يصف لنا الكاتب وقائع محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في ذلك الصباح من آب/ أغسطس 2022 لحظة بلحظة، وصولًا إلى إتمامه العمل الذي بين أيدينا اليوم، لنجد أن الفصول الأربعة الأولى ليست مثيرة للاهتمام من الناحية الأدبية، يصف رشدي فيها محاولات إنقاذه بعد الهجوم عليه، ثم فترة علاجه في المستشفى، ومعاناته من السوائل المتراكمة تحت رئتيه بعد سيل الطعنات التي اخترقت جسده، والملليمتر الواحد الذي لم تخترقه السكين فظل مخه سليمًا، ووجهه الذي لم يتعرّف عليه في المرآة بعد الحادث، وانتهاك جسده المتواصل من قبل الأطبّاء، وهي في أغلبها حكايات وطرف ممّا يمكن لأيّ شخص تعرّض لمحنة مشابهة أن يرويه، أو أن يكتبه.




في حواره الطويل مع سلمان رشدي، والذي انفردت به صحيفة "ده ستاندارد" البلجيكية احتفاءً بصدور الترجمة الهولندية للكتاب، يتساءل الناقد البلجيكي فيليب روجرز عن سبب اختيار رشدي لهذا الأسلوب الصحافي المباشر لكتابة شهادته عن محاولة اغتياله، على العكس من أعماله الروائية السابقة والمبنية على الخيال، فكانت إجابة رشدي واضحة: "لأوّل مرّة منذ خمسين عامًا أجدني في حيرة من أمري فيما يخصّ الكتابة، وتساءلت: كيف سأواصل العمل على مشاريعي السابقة، وأتجاهل محاولة الاغتيال كأنّها لم تكن؟ كانت آخر رواية لي هي "مدينة النصر"، وكان هنالك كثير من الملاحظات والأجزاء غير المكتملة لمشاريع كتب أخرى محتملة، لكن لم يكن من المنطقي أن أبدأ أي مشروع جديد من دون الحديث عن محاولة الاغتيال، فلو تجاهلتها سيعتقد الناس أني جننت، حسنًا! ولكن كيف أكتب عن هكذا تجربة؟ هذا هو السؤال الأصعب لأيّ كاتب، بمجرد تخطّي هذا السؤال ستبدأ الكتابة، كان في إمكاني مَلء عشر صفحات، وربّما ثلاثين، لو تحدّثت عن فترة التّعافي التي أعقبت النجاة، ولكن يبقى السؤال الرئيس قائمًا: ثمّ ماذا"؟...
السؤال ذاته الذي يطرحه رشدي أعلاه فشل هو نفسه في الإجابة عليه في كتابه الجديد، على الرغم من أنه ملأ أكثر بكثير من الصفحات التي افترضها في إجابته، ففيما يخصّص القسم الأول ليسرد اللحظات الأولى للهجوم عليه، والتي كانت: "آخر شيء تراه عيني اليمنى"، حتى عودته بصحبة زوجته إلى مسرح الجريمة بعد قرابة العام من الهجوم عليه، فيشعر: "بالخفّة، بسعادة جديدة، قد تكون "سعادة مجروحة"، لكنها لا تزال تشعرني بالرضى". نجد أنه في القسم الثاني من الكتاب، والذي حمل عنوان "ملاك الحياة"، يبدأ البحث في دوافع الشخص الذي حاول اغتياله، مقررًا أنه لن يذكر اسمه في كتابه، بل سيكتفي بالإشارة إليه بحرف (A)، اختصارًا لكلمة (Aas)، مكررًا كليشيهات رنانة من قبيل "ستكون اللغة سكّيني، لأردّ على العنف بالفنّ"، وفي موضع آخر يوضّح وجهة نظره تجاه الأديان قائلًا: "لست ضد الأديان ما دامت تمارس شعائرها في الأماكن الخاصة بها، من دون أن تحاول فرض قيمها على الآخرين".

غلاف الطبعة الهولندية من كتاب "السكين" لسلمان رشدي (إلى اليمين)، مع غلاف روايته "مدينة النصر" 


على هذا النحو المباشر، يعبّر رشدي عن التزامه الأصيل بمبادئ "حرية التعبير" على مدى مشواره مع الكتابة، مرورًا بفتوى آية الله الخميني بإهدار دمه عام 1989 إثر نشر روايته الشهيرة "آيات شيطانية" (1988). وفي نهاية العام ذاته، باءت أول محاولة لاغتيال رشدي في لندن بالفشل، بعدما انفجرت القنبلة قبل موعدها فلم تقتل إلّا حاملها، لتتكرر محاولات الاغتيال مرات أخرى، حتى بعد أن قررت السلطات البريطانية حماية سلمان رشدي، ليحيا عشر سنوات كاملة متخفيًا خلف اسم وهمي هو "جوزيف أنطون"، وهي الفترة التي سجلها رشدي لاحًقا في كتابه السيري "جوزيف أنطون، مذكّرات" (2012).
منذ إعلان فتوى الخميني عام 1989، وحتى يومنا هذا، أصدر سلمان رشدي خمسة عشر عملًا أدبيًا، تتنوع بين الرواية والسيرة والقصص القصيرة والمقالات، من أهمّها: "هارون وبحر القصص" (1990)، "شرق، غرب" (1994)، "زفرة المغربي الأخيرة" (1995)، "الأرض تحت قدميها" (1999)، و"شاليمار المهرج" (2005)، وكان قد نشر قبل "آيات شيطانية" عملين لافتين، هما: "أطفال منتصف الليل" (جائزة البوكر الدولية، 1980)، و"العار" (1983)، وضعتا اسمه على المستوى الدولي قبل صدور الرواية "الملعونة" كما يحب رشدي أن يسمّيها.
رشدي، الذي درس التاريخ في جامعة كامبريدج العريقة، والذي سبق أن وصف نفسه في كتابه "جوزيف أنطون" بأنه "مؤرّخ تحت التدريب"، لم يكتف في "سكّين" بطرح الأسئلة المشروعة حول دوافع "A" لقتله، بل وضع نفسه مكانه، ليبدأ الكاتب في الإجابة على الأسئلة التي يطرحها بنفسه نيابة عن المتعصب، في حوار متخيّل تمامًا بينهما، خصص له رشدي الفصل السادس من كتابه، ليحاول من خلاله "الدخول إلى عقل قاتلي، في محاولة لفهم دوافعه الهمجية لقتلي".




لا أعتقد أننا أمام هكذا حوار "متخيّل" نستطيع فهم وجهة نظر "المعتدي" (الغائب) بقدر ما نستطيع فهم وجهة نظر "الضحية" (التي تكتب)، ما أراد سلمان رشدي أن يستنتجه القارئ من حواره "المتخيّل" مع قاتله القابع في السجن تحت حراسة مشدّدة، أن جماعات الإسلام الراديكالي تزايدت مع ثورة الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعي، ومن أخطرها يوتيوب، وفيسبوك، وتويتر، وفي مثل حوار كهذا، من الطبيعي أن تخرج الأسئلة التي يطرحها رشدي على قاتله المحتمل محملة بالمنطق والحجج العقلانية المتحلية بالانفتاح والتسامح، فيما تأتي إجابات (A) منغلقة ومحدودة وساذجة وفقيرة، تؤمن بالغيبيات والخرافات التي لا أساس لها.
على هذا النحو "الافتراضي"، ينسى سلمان رشدي أنه يجري حوارًا من طرف واحد، مغيبًا صوت "الآخر" عن عمد، وهو ما لاحظه الناقد البلجيكي فيليب روجرز في حواره مع الكاتب، متسائلًا عن جدوى حوار وهمي في إثبات وجهة نظر معينة لدى القارئ، فيجيب رشدي: "بعد نجاتي من محاولة الاغتيال اعتقدت أنه سيكون من المثير للاهتمام أن أواجه الفاعل بفعلته الفاشلة. قيل لي إنه سيتمّ إعطائي الفرصة للتحدّث في المحكمة، وأنه يمكنني رفع قضايا إن شئت، ولكنّني فكرت ماذا سأقول؟ إلى أن قررت أن أجري حوارًا متخيلًا معه، ربما أفهم وجهة نظره التي دفعته إلى محاولة اغتيالي بعد 33 عامًا من فتوى الخميني"! وكما نرى، لم تقدم إجابة سلمان رشدي أية إجابة حقيقية على السؤال الذي طرحه هو بنفسه في بداية حواره مع فيليب روجرز حين قال: "ثمّ ماذا"؟...
لم يكن من المفترض أن تقع حادثة الاعتداء الجبانة ضد سلمان رشدي، لكنها حدثت، وكان على رشدي أن يتقبل خسارة عينه اليمنى بهذه الطريقة الوحشية إلى الأبد، هذا صحيح، وصحيح أيضًا أن "سكين" كان من الممكن أن يخرج لقرائه في أشكال عديدة مختلفة، وموهبة رشدي كانت كفيلة بجعله تجربة لا تنسى، إلا أنه ارتأى تقديم شهادته عن الحدث الكبير في أبسط أشكاله الأدبية وأكثرها مباشرة: التقريرية الصحافية المفرطة، والدفاع المستميت عن انحيازه الدائم لحرية التعبير.
أدرك سلمان رشدي مبكرًا أن فتوى الخميني بإهدار دمه عام 1989 نقلت اسمه من خانة "الكاتب الموهوب" إلى خانة "المغضوب عليه"، ما جعل منه رمزًا لحرية الرأي أكثر من كونه كاتبًا له ثقله في عالم الأدب، ويظهر هذا جليًا حين يصر رشدي على وضع نفسه وسط روائيين كبار آخرين، من بينهم ميلان كونديرا، وبول أوستر، وحنيف قرشي، باعتبارهم زملاءه في الدفاع عن الحرية في مطلقها ضد أي مذهب ديني متزمّت، إلا أن "ثقل" رشدي الروائي لا يقارن بإنجازات أقرانه الذين ذكرهم، خاصة حين يبدأ تعنيف غريمه "A" في حوارهما الافتراضي، مؤكّدًا رفضه: "العودة إلى الشرنقة الأمنية التي كانت تحميني خلال التسعينيات في لندن"، ومشددًا على أنه: "لا يريد أن يكتب كتبًا "خائفة"، أو "انتقامية"...
التشديد الذي يفضح زيفه كتاب "سكّين" نفسه، باحتوائه على كثير من هاتين السمتين، حتى ليكاد القارئ يغلق الكتاب قائلًا: "الـ"سكّين"... التي لم يكن لها أن تُشهر".

هوامش:
• Salman Rushdie: ‘Knife, MEDITATIONS AFTER AN ATTEMPTED MURDER’, Random House, 2024.
(**) نقلتها إلى العربية ماري طوق، وصدرت عن دار الآداب البيروتية، 2012.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.