كوابيس لا تتلاشى في "كلب الحراسة الحزين" لصونيا خضر
أمين دراوشة
3 ديسمبر 2019كوابيس لا تتلاشى في "كلب الحراسة الحزين" لصونيا خضر
أمين دراوشة
3 ديسمبر 2019بداية الخروج من قوقعة الذات المتشظية
استطاعت رفيف التخلص من زوجها القبيح، والذي يحتفظ بها من أجل المال وحسب، وبطلاقها بدأت رحلة البحث عن حريتها، ومع كل معاناتها لم يتقدم أحد من عائلتها ليقدم لها يد العون، فالعائلة تتصرف وكأنها غير موجودة. كانت "تعيش بصمت وهدوء مثل كلب أليف يخاف من أن يجد نفسه يوماً في الشارع" (ص90) تسائل دوماً نفسها عن سر نفورهم منها، ولكن لم تواجههم ولو مرة.
تخوض تجربة الحياة الحقيقية لأول مرة، وأخذت تشعر بذاتها، ومواطن جمالها "تتحسس خدها أمام المرآة وهي تهمس بذلك، تقف أمام المرآة الكبيرة وتدقق في جسدها المنحوت بعناية، لم تنتبه يوماً إلى أن لها ذلك القوام الجميل"(ص 90-91).
لم تحاول الدخول إلى القبو الذي يحوي أغراضها القديمة، ولكنها لم تستطع منع نفسها من المرور يومياً بقرب تلك الأشياء، ترغب في بداية جديدة، ولكن التساؤل حول سبب بؤسها لا يزال يؤرقها.
ستمضي السنوات، وستحقق رفيف ما تصبو إليه من شهرة في عالم الأزياء، وستصبح ضيفة خفيفة على المحطات التفلزيونية.
ولأنَّ الماضي لا يموت، فإنه انعكس على تصميم رفيف لأزيائها، وخلال خمس سنوات من صعودها، استطاعت الخروج من باب ماضيها، أقفلته إلى الأبد، إلا أنها "حملت معها بعض الصور، طبعتها واحتفظت بها داخل صندوق صغير ووضعته مع ثيابها القديمة في القبو
الصغير أسفل منزلها الأول الذي مكثت فيه مدة عام ونصف العام قبل الانتقال إلى العمارة السكنية الصغيرة ذات الطوابق الثلاثة"(ص 117) كان هدفها الهروب من أشباح الماضي التي صاحبتها طوال سبعة وثلاثين عاماً، رحلت إلى العاصمة ورغبة في الضياع في المدينة تتملكها، وبعد سنة أرسل لها والدها مع محامٍ شيكاً بنكياً بمبلغ كبير من المال، هو حصتها من الميراث!
تقول: "أن أتوقف عن العيش في حيوات الآخرين، على هامش افتراضاتهم وهواجسهم وكوابيسهم، ماضيهم الذي أبحث فيه عن سبب وجودي في المكان الخطأ والوقت الخطأ، ماضيهم الذي يمضي خلفهم كظل ويقف أمامي كجبل، عليّ أن أصعده في كل يوم لأواصل وقوفي في المكان الخطأ. لحظة واحدة يبدأ فيها كل شيء ولحظة واحدة أيضاً تنهي أي شيء، لحظة واحدة دفعتني لأنجو بنفسي من كوابيس ذلك الماضي"(ص 141).
عدَّت رفيف قبولها المال تنازلاً منها عن حقها في البكاء على صدر والدها، وخسارتها النهائية للحب الذي تسعى إليه، فقدت الحب أول مرة يوم "منح أبي فوق ثقلي ذهباً رجلاً سيتولى عنه رعاية كلبه المسكين الذي لا يتوقف عن الأنين، رجلاً سوف يخلصه من عبء مرور هذا الكلب أمامه ولو خلسة، ليتذكر ما يريد أن ينساه، وفقدته مرة أخرى يوم تسلمت تعويضاً عن مأساتي، مبلغاً من المال عوضاً من مواساة وكتف كنت بأشد الحاجة إليها" (ص 142).
لا تشعر بحريتها، إلا عندما تختلي بنفسها وسط الليل، فتتحرر حتى من جميع ملابسها "ليلاً وقبل أن أخلد إلى النوم أتعرى من كل شيء، حتى من ثيابي التحتية، ليلاً فقط أكون أنا، وليلاً فقط أشعر كم أنا وحيدة" (ص147).
ولكن يبقى سرها يضغط عليها، ويقيدها بسلاسله، ذاك العنقود الصغير الذي عربشت عليه خيباتها، وإن نجحت في هزيمة الماضي ودفنه في القبو، فما زالت تحتفظ بعنقودها، ورفضت إجراء عملية تجميل لإزالته، فهو غائر في الروح "يلازمها منذ طفولتها، ويرافق صعودها وهبوطها مثل جرس بلاستيكي، لا يسمع رنينه سواها، يقف بينها وبين انعتاقها من ذلك الكلب الحزين الذي يقبع في طفولتها، ويواصل نباحه المكتوم دون توقّف"(ص159).
يدخل الحب حياتها عن طريق المصور قيس، الذي تفضي له بآلامها، فيحاول مساعدتها، ولكنه يفشل، حتى زار والد رفيف في الجزيرة. وينجح في النهاية في جمع رفيف ووالدها على شاطىء البحر...
وكأن الرواية تقول: رغم مرور السنين والألم المستمر، يمكن البداية من جديد.
وكنت أتمنى لو أن الروائية طورت بعض شخصياتها، ولم تبترها، فليلى شخصية إشكالية تبحث عن اللذة دون أن يردعها رادع، وزوج رفيف شخصية شريرة تشبه كثيرين ممن نراهم في حياتنا، والذي زاوج المال بالسياسة.
إنَّ العلاقة بين الشخصيّة الروائية والواقع جدلية، فالرواية تقدم شخصياتها وهي في شبكة من العلاقات الاجتماعية، وليست خارجة عن التاريخ، ورأى الناقد ميشيل بوتور: إنَّ "الروائي يبني شخوصه، شاء أم أبى، علم بذلك أم جهل، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصّة، وإنّ أَبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصّته، ويحلم من خلالها بنفسه"(4).
أما الروائي مصطفى لغتيري، فيرى أنَّ على الكاتب: "أن يعي أن الرواية عمل تخييلي، أي
أنها من ورق، أو من كلمات، لذا حين يكتب روايته عليه أن يتخلص من وهم الواقعية، ويسعى في المقابل إلى خلق "واقعيته" الخاصة، و"واقعيته" ليست سوى فنه الروائي، الذي يتعين أن يقدمه لنا نابضاً بالحياة، من خلال التحكم في الشخصيات والأحداث والفضاءات والزمان، واللغة، أي يقدم لنا قطعة فنية منسجمة العناصر والمكونات"(5).
في النهاية، ارتكزت الروائية في لغتها على لغة فنية تجمع السرد والحوار والمونولوج، واستخدمت اللغة الفصحى، واستطاعت نسج أحداث روايتها المتشابكة بحرفية، وطغت الدراما على كل سطورها.
جاءت هذه المقالة لأنَّ التجربة الروائية لصونيا خضر تستحق أن تنشر ويذاع صيتها، فهي تجربة غنية وثرية ولا يمكن تجاهلها.
الهوامش:
1- عبدالرحمن التمارة. "انفتاح تأويل النص الروائي". الكويت: مجلة عالم الفكر الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. المجلد 41 أكتوبر. 2012. ص (231-278) فكل المحكيات في النهاية ترجع للعالم الذي نعيش فيه.
2- صونيا خضر. كلب الحراسة الحزين. بيروت: دار الفارابي. 2019م. ص 62.
3- للاستزادة، انظر: حليم بركات. "غربة المثقف العربي". مجلة المستقبل العربي، ع2. تموز، 1978، ص 106.
4- نبيه القاسم، الفن الروائي عند عبدالرحمن منيف، منشورات دار الهدى للطباعة والنشر، كفر قرع، ط1، 2005م، ص 228.
5- مصطفى لغتيري. "الطريق إلى كتابة الرواية". صحيفة القدس العربي. 24-10-2019م.