رواية "ذئب الله" لجهاد أبو حشيش: التواطؤ مع الشرّ
عماد الدين موسى
19 مايو 2019رواية "ذئب الله" لجهاد أبو حشيش: التواطؤ مع الشرّ
عماد الدين موسى
19 مايو 2019رواية الشخصيّات المتعددة
تكاد تكون "ذئب الله" الرواية الأكثر احتشاداً بالشخصيَّات المتنافرة والمتناقضة، ثمّة ما يمكن القول عنه إنّه مسرحٌ كامل داخل روايةٍ متعدّدة، فإن وضعنا الحكاية جانباً وركّزنا على الشخصيَّات بإمعان، ثمّة ما يتبدّى لنا من شخوصٍ مسخٍ وأخرى تفرح وتريد أن تسعَد في حياتها لكنّها مجبرة على العمل اللا أخلاقي، كلّها تسيرُ معاً في سردٍ واحدٍ ضمن روايةٍ واحدة، مع أنّ الحكايةَ تلفظُ القارئ باختلاط أبوابها ومداخلها الكثيرة، هناك الكثيرُ من المداخل التي تولِج القارئ إلى عوالم الحكايات المنفردة المبعثرة هنا وهناك ومن ثم يُعادُ التئام الجروح داخل الحكايات المبعثرة، إلّا أنّ الأبواب تتلاشى وتغدو الأحداثُ كسجنٍ أبديّ للقارئ سرعان ما يشعر بقساوتها وخشونتها، أحداثٌ متوالية ودخولٌ لعوالم السجون وإبراز الشخصيَّات اللاعقلانية في تعاملها مع المحيط، شخصياتٍ بشريَّة كانت أم مكاناً لا بدّ وأن يُحافَظ عليه، حكايةُ دخول "عوّاد الباز" إلى السجن وخروجه مرّاتٍ عدّة، وكأنّ السجنُ استراحة المحارب لأجل التخطيط في كلّ مرَّةً يفشلُ فيها المُخَطَطُ مسبقاً، علاماتٌ سرديَّة حافلة بالدلالات تحتلّ أجواء الرواية بمطلقَها.
تفاصيلُ رسم الشخصيَّات ونحتها، كلّ شخصيَّة على حِدة ترسمُ ذاكرتها، محبّتها أو كرهها لاسمها، تلكَ الذاكرة التي تربط بعضها البعض وشائجُ محبَّةٍ أو كره، رسمٌ ما لعوالمَ داخليَّة لشخصيَّات تتغذّى على العنف! وعقب كل مشهدٍ روائيّ يدخل فيه اسمُ شخصيَّة جديدة تأتي فكرة التوضيح كهندسةٍ شبه ضروريَّة لسير السرد باتجّاههِ الصحيح.
السرد العنيف
يعمد الراوي في بداية كلّ سردٍ منفصل بعباراتٍ تلخّصُ الحكاية، عباراتٌ تَشي بما ستكون عليه الصفحات المُقبلة من الاعترافات للشخصيَّات المتورّطة في الرواية، تقنيةٌ سرديَّة تتوضّح خلال التنقّلات من لغة ضمير الغائب إلى ضمير المتكلّم والمفرد ومن ثمّ إلى الجمع دون أيَّة توريَةٍ أو ضجيج، غير أنّ محرّكات السرد تغوص نحو عمقها الأبعد من البساطة.
في الصفحات الأولى من الرواية يغدو السردُ شعبيَّاً، أو ربمّا يجاري حكايةً شعبيَّة قديمة يغلب
عليها طابع الانسيابيَّة. السردُ منهمك في الأسباب الفعليَّة لكامل أحداث الرواية، لكن سرعان ما يضجّ العمل بالأصوات المنفردة التي تجتمع في ذروة العمل كجوقةٍ موسيقيَّة تردّد ما يقوله البطل "عوّاد الباز". وثمّة العنف موزّعاً في كلّ أنحاء الرواية، العنف الذي لا شبيه له مطلقاً، القذارةُ وعبادة المال لدى الإنسان إذ يتحوَّل إلى ديدنٍ متجذِّر.
كلّ ما يجمع شخصيّات الرواية هو الموت، الموت وليس شيئاً آخر، عوّاد نفسه سليل الموت، هو وحده الكائن الأشدّ والأوضح رؤيةً لخلفيَّات تلك الشخوص داخل الحكاية، الخوفُ منتشراً في الأنحاء.
في دلالةٍ على رغبة الانتقام حتّى بعد الموت نقرأ في مشهد جدّة عوّاد "عصريَّة": "رغم أنّه لم يسأل عنها لكن أخته هاجر حدّثته أنّ جدته عصريَّة ماتت بعد أشهر من مغادرته، وجدوها عند قبر أمّه ميّتة وفي يدها شبرية، لا أحد يعرف ماذا كانت تفعل بها أو لماذا كانت تحملها".
إذاً لا مجال لحبٍّ ما داخل هذا العمل الروائي، فالأفعال وردود الأفعال مبنيَّةٌ على المنفعة، والمنفعة فقط، لا مجال لأي شيءٍ يوسِمه الحبّ أو مبدأ الحبّ، وإن وجِد فسيكون بطريقةٍ مغايرة كليَّاً: "الحبّ كشجر البساتين، لكنّ الرجال أغبياء، أنانيّون، يجوبون العالم ويتركون شجرة البيت بلا ماء".
النهاية المأساويّة
تأتي نهاية الرواية كصاعقة على "عوّاد الباز"، الذي كان الجميع ضحيَّته، البطلُ العنيف الذي لا يخالج القارئ شكٌّ في أنّه يعاني من خللٍ ما سيكولوجي، يقتل أمّه، يُسجَن ويتاجر بالدماء، عوّاد الذي تغيّر لدواعي الحصول على أموال أكثر إلى إنسان يدّعي التقوى، يشارك في تلقين الموت للأبرياء وترقيم النهايات لقاء المال، لتكون الصاعقة هي من نصيبه وحده، يموت ابنه عادل، الموت بمعناه الآخر الذي طالما وسَم فكر عوّاد طيلة الرواية، النهاية الأكثر مأساوية مما فعله عوّاد طوال حياته الماضية، ثمّة إيقافٌ مفاجئ للشرّ بشرٍّ أضخم لمن كان نفسه سبباً في الشرّ.
"ذئبُ الله" رواية التواطؤ البشريّ مع الشرّ ومع كلّ ما يمكن أن يدمِّر البشريَّة لأجل المنفعة. وكلّ هذه التلخيصات لا تغني عن القراءة المتأنيَّة لعملٍ ضاجٍّ بالموت وبالحياة وبكلّ أنواع الخيانات والتآمر مع الأعداء ضدَّ الأهل، وكلّ الأمر وفق تمازجٍ سرديٍّ أخّاذ لروايةٍ عربيَّة راهِنة.