عروض

"حب في المخيّم".. قلق الوجود في لغة المنفى القسري

دارين حوماني

31 مايو 2020
في البدء كانت القصة
"في البدء كانت القصة" يقول الباحث الأميركي تشارلز ماي، ومنذ الطلقة الأولى في فلسطين كانت الحكاية هي التي تؤرّخ المصائر والتكاوين النفسية للفلسطينيين، وبصماتهم الشخصية على الحدود والمعابر وتحت الخيم. ونحن هنا الآن أمام قصص يصعب علينا الكتابة عنها لأنها حكايا تستنطق أوجاعنا التي دفنّاها بأيدينا، وسوف نصمت أمامها تاركين كل شيء فينا يؤلّف مكانًا آخر من الحزن الذي لا يموت بسهولة..
"حب في المخيّم" ليس مجموعة قصصية عابرة لأربعة عشر كاتبًا غير محترف، ولا هو فقط حصيلة ورشة للكتابة الإبداعية نظّمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، فالكاتبون هم كائنات متصلة ببعضها البعض عبر مفردة اللجوء القسري وما يتصل بها من أوجاع مرئية وغير مرئية، "مشغولون تمامًا بالبقاء على قيد الحياة" عبر الكتابة، يكتبون يُتمهم المحلي والكوني. هو سرد من نوع آخر، قلق وجودي آخر، والقصص هي حفريات متتالية في محن الذات الجماعية، كل قصة هي الحكاية الأولى لكل كاتب، فإذًا هي الانطباع النفسي الأول لديه، الومضة الحزينة الأولى التي حوّلته إلى مفرد حيّ داخل الموت.
"كيف نقترب اليوم من تجربة المخيّم، ونستمع إلى أصوات جيل جديد من الفلسطينيين لم يعش سوى الخيبة ولا يمتلك من فلسطين سوى ذاكرة المخيّم.. هذه النصوص سوف تُقرأ كنافذة على مقاومة الألم بالحب، ومحاولة تحويل المخيّم/المنفى إلى وطن في انتظار أن يستعيد الوطن اسمه وأرضه"، يقول الروائي إلياس خوري في مقدّمة الكتاب، وهو الذي كان مشرفًا على الورشة الإبداعية الثانية لمؤسسة الدراسات الفلسطينية في لبنان بدعم من "صلات: روابط من خلال الفنون". وقد صدر الكتاب مؤخّرًا عن المؤسسة.
 
 إلياس خوري: نصوص الكتاب تُقرأ كنافذة على مقاومة الألم بالحب، ومحاولة تحويل المخيّم/المنفى إلى وطن في انتظار أن يستعيد الوطن اسمه وأرضه








 

وتكتب الباحثة برلا عيسى في المقدّمة: "يعاني الفلسطينيون في لبنان اليُتم، إنهم يتامى المجتمع الدولي الذي لم يكن متواطئًا فحسب في إحداث النكبة بل استمر أيضًا في تطبيع اللجوء القسري للفلسطينيين. إنهم يتامى الحكومات العربية التي كما يُقال "تحب فلسطين وتكره الفلسطينيين". إنهم يتامى قيادتهم الوطنية المفترضة، فلقد تخلّت منظمة التحرير الفلسطينية عن النضال من أجل حقوقهم الوطنية، ويسود هذا الشعور العميق بين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بالتخلّي عنهم إن لم يكن بالخيانة".  


رمز لوطن كامل
"سيناريوهات لحكاية طوني" لأيهم الساحلي يحكيها الشاب الفلسطيني مطر المقيم في مخيّم مار الياس وسط بيروت مع صديقه غسان في منزل يقابل نافذة طوني وبابه، طوني الطاعن في السن وفي الوحدة. ويعتقد مطر أن ثمة سرًّا في حياة طوني، يخاف عليه، يكتب سيناريوهات لوحدته، يخبرها لغسان ولمروان ولسماء، والحديث مع غسان ورفيقيه يتحوّل من افتراضات عن ماضي طوني إلى شجار عمّن باع فلسطين، فإذ بطوني يصير افتراضًا يفسّر مطر من خلاله حياته وفلسطين، يصير رمزًا لوطن كامل، وطن لم يقرّر بنفسه أن يكون وحيدًا لكنه فَقَد محبّيه بالتتابع.
"أنا من شعب عكا، ما يهمني حقًا ألّا أموت قبل أن أراها حتى وإن كانت بعيدة كآخر بقعة على الأرض أو حزينة كآخر شجرة قاومت الاحتلال وماتت من الوحدة"، تكتب سماح حمزة في قصتها "حب تحت الاحتلال". سماح تريد أن تسلّم قصة فلسطين في عيون جدها أبو إبراهيم إلى كاتب مقيم في عكا، سيجعل العالم الافتراضي من حبهما حقيقيًا، والقصة هي جزء من سيرة ذاتية ربما متخيلة وربما واقعية ليس مهمًا، سماح تريد أن تنقل ذلك الحيّز الحزين في داخلها إلينا، وسوف تخرج سماح مع صديقها عبر الفيديو من عكا إلى رام الله في رحلة ألم متقطّعة بفعل حواجز الاحتلال، رحلة تظهر ملامح وجوه الشوارع الفلسطينية الجديدة، قُطعت أشجار الزيتون التي نبتت في مخيّلتها وحلّت مكانها مستعمرات، وثمة نصب تذكاري للفيلق اليهودي عند مدخل مستعمرة شيلو، وفي النهاية تكتب سماح: "كان عليّ أن أرمّم قلبي لأدرك أني ما زلت في مكاني ولم أخرج من باب الغرفة"، وتنتهي حكاية سماح مع حبيبها "ببساطة لأننا لم نجد أرضًا نبني عليها بيتًا يأوي هذا الحب".
في قصة "بيت المسعود" تطرح ميرا صيداوي كيف يمكن أن يتحوّل مأتم عزاء بسيط إلى شجار عنيف بين الفلسطينيين، "في قاعة الرجال تم فتح تاريخ فلسطين كله"، هو وجع آخر يؤذينا بثقة تامة للأذيّة، تنتقل بعده الكاتبة إلى الحديث عن العمة ميسّر، ذكريات آلام مخيّم تل الزعتر والحب في زمن الحصار، ثم حكاية طفلها علي الذي ضاع على الحدود عند بوابة فاطمة يوم سُمح للمخيّم بلقاء محبيه عبر السياج ولم يعد إلا بعد وفاتها، وعن ابنتها عبير التي قررت الزواج: "إن هذا الرجل سيسرق ما تملكين وستختفين، سيصيبك الاختفاء.. لم تفهم عبير أن الاختفاء الذي عنته أمها كان اختفاء آخر، إنه اختفاء الروح". 




معاناة المرأة والمحبين
"إلى ابنتي جفرا" لناديا فهد هي رسالتها لابنتها التي لم تلدها، "لم أرد إلا الارتباط بشاب فلسطيني أبًّا عن جد ومخيّمجي قح، أُعجبت بشاب لبناني ولكني لم أكن أرغب أن تسقط عني صفة اللجوء الفلسطيني عدا ذلك لم أكن لأتحمل أي نظرة شفقة منه أو من أسرته كوني مقيمة في المخيّم".. القصة هي حكاية حب أخرى مستحيلة بين الراوية وشريكها في اللجوء الذي اختفى بعد ذلك كأنه لم يكن، تمرّر من خلالها الكاتبة معاناة المرأة كلاجئة فلسطينية ومعاناتها كلها بكل مراحلها مع المجتمع، "البنت بتحبل والشاب لاء"، والخالة تخسر ابنتيها في مجتمع ذكوري وظالم يؤيد حرمان الأم من أطفالها لصالح الأب باسم الدين.

لمى أبو خرّوب تمكنّت من أسرنا تمامًا في قصتها "زيارة مستعجلة"، حوارات بين الراوي الذي هو سائق حافلة وبين الركاب، في طريقه إلى المستشفى حيث ترقد زوجته، الندوب الفلسطينية داخل المخيّمات نعدّها حرفًا تلو الحرف وهم يتشاجرون: "المخيّمات تتراجع أخلاقيًا"، "علّقنا المفاتيح برقابنا، ظننّا أننّا لو رجعنا سنرجع إلى البيت نفسه والحارة نفسها"، "الشهادة لن تنفعك ستضعها في الدُرج تمامًا"، "يريدون تصفية قضية اللاجئين وإنهاء حق العودة"، "هذا الشعب يعلّق آماله على صور المسؤولين، كل متر مربع نجد صورة لمسؤول، أي فلسطين وإحنا صور عن الحيط بنسترجيش ننزلها"، "العرب أوسخ من إسرائيل"، "لقد سلّمنا الأراضي بأيدينا"، "هل قلتَ سلّمناها؟ من نحن؟؟"، في النهاية سيصل الراوي إلى المستشفى ليجد زوجته قد توفيت بسبب عدم قدرته على دفع المبلغ المطلوب لإجراء عملية ثانية. لقد تمكّنت أبو خروب من جرّنا معها إلى فلسطين كلها داخل الحافلة، وكان علينا فقط أن نذهب إلى ما وراء الحوارات لنشاهد بأعيننا مجموعة آلام تؤلّف الفلسطيني اللاجئ في لبنان.
يلقي علينا يوسف النعنع في قصته "الهجرة: موت أو نسيان" قضية موجعة أخرى، لا يتمكّن الفلسطيني من العمل في لبنان ولا يحق له الانتساب لأي نقابة.. من هنا تبدأ الحكاية وهنا تمامًا سينتهي الحب بين الراوي وحبيبته حين يقرّر السفر "يا شباب بدكم تقولوا عني جبان انهزامي قولوا.. خلص والله ما عاد قادر إتحمّل.. والله أنا ما بدي أهاجر لأني هربان بس رح أوصل لمرحلة الجنون إذا بقيت هون".
"أنا فلسطينية لاجئة في مخيّمات لبنان"، "أنا جاركم من إسرائيل"- كانت هاتان الجملتان كافيتين لتشتعل الراوية في قصة "المقاومة على أشكالها تقع" لآمنة الأشقر. تدور أحداث القصة في مطار تكساس حيث تتعرّف الراوية إلى مسافر آخر ويتحوّل التعارف إلى شجار على أرض المطار "أنتِ وعائلتك مجرّد Vagabond" (متشرّدة)، "أنا فلسطينية غصب عن إمك وأبوك يا حرامي يا محتلّ"، تراكمت الإهانات المتبادلة فحضرت الشرطة وأنهت الشجار، لكن شعور الراوية بالظلم الفاحش لم ينتهِ، أحسّت بالخسارة التي تحفر عميقًا في الذات عندما وجدت نفسها تستقلّ الطائرة المتجّهة إلى بيروت بينما كان "جارها" يستقلّ الطائرة المتجّهة إلى تل أبيب.
في "على الحافة" لوسيم السلطي يعيش الراوي مع والدته عائشة في أحد مخيّمات اللجوء في سورية حيث ستندلع مواجهات بين الفرق المسلحة المختلفة وسيتحوّل الحي إلى جحيم، وستحاول والدة الراوي أن تلف أكبر قدر من الكتب ومن الحزن خوفًا من داعش، ينمو السرد هنا في الطبقات السود تحت العينين حيث يصحو القلق والخوف الدائم وبين يديّ عائشة وهي تحمل ورقة كتبها لها ابنها قبل اختفائه "إلى عائشة الغالية وإلى العالم المولع بالدماء"..
"رذالة" لعلاء العلي هي ثلاث حكايا قصيرة ينقلها الكاتب لنا بسخرية جارحة من عالم لم يترك للقِيَم مكانًا فيه، شخصية فخري بك الانتهازية في "زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصرالله سوف تتسلّل دائمًا إلى نفوس البشر، واللائحة البيضاء وفيها كل الجمعيات التي لا تتوخّى الربح وتتقاضى أموالًا وليس لديها موقف صادق هي نفسها اللائحة السوداء التي هي نتاج استعماري وحيث ألصق الرجل الأبيض الصفات السيئة بالسود، وعن حاملي الألقاب الذين ينغمسون في جاذبيتهم ويقدّمون فروض الطاعة.


حلم العودة وثالوث الحب والهجرة والفقدان
لا أدري كيف انتقل إليّ كل هذا الحزن، حزن على طريقة الخطأ المطبعي القاتل، فـ"معشوقة جدي" لخالد النعنع حكاية موت آخر، ستخبرك عن سقوط يافا وهروب أهلها ومن ضمنهم جدّ الراوي، وسنستعيد المشهد كاملًا على لسان الجدّ وهو يقنع حفيده أنهم لم يهربوا: "جارتنا إم زكريا تركت العجين يخمر على أساس راجعة تخبز بعد يومين، بو محمد بياع السجاد ترك البضاعة برّا، ما هو كله يومين وراجعين"، "المجازر شغّالة سمعت إيش صار بدير ياسين".. "إجت البوابير لتطلعنا من يافا وصاروا يقولوا لا تخافوا كلها يومين وبترجعوا"، سوف يُبكينا عميقًا ذلك السرد المحمّل بالخائفين وحيث سيكتشفون في نهاية الطريق أنهم لن يعودوا بعد يومين، سنشعر أن يافا لم تعد تخصّ الراوي وجدّه فقط، ولا تخصّ فلسطين وحدها، إنها تخصّ آخر مكان في القلب حيث يموت الجميع جيلًا بعد جيل ويبقى حلم العودة سمادًا حيًّا.
يتجّه محمد خالد في قصته "مرآة المخيّم" في اتجاهين يتقاطعان في النهاية ثم يختفيان كما تختفي الأحلام الكبيرة، علاقة حب مستحيلة بين فلسطيني ولبنانية، الفلسطيني نفسه يصرّ على دراسة الصحافة فيكون ردّ الأهل أن الصحافة لن تفيده وأن عليه أن يدرس اختصاصًا يجد من خلاله عملًا، يتخرّج من كلية العلوم ليجد نفسه بلا عمل "بعتذر منك نحن ما منوظّف فلسطينيّة".. هي تشكيلات الوجع نفسها تتكرّر وتشغل الفلسطيني في لبنان بدقة تامة وبحزن تام، في النهاية سيفقد الراوي حبيبته بسبب فلسطينيّته الكاملة.




"البلد الذي يقتل أحلامنا ليس وطنًا، والبلد الذي يحرمنا من حقوقنا المدنية ليس وطنًا والبلد الذي يذلّنا ليس وطنًا، البلد الذي نموت فيه على أبواب المستشفيات ليس وطنًا.. أليس الأولى بنا أن نغادر هذه البلاد"، قد تكفي هذه الجمل لتختصر ما أرادت قوله سمر محمد في قصّتها "سأصير يومًا ما أريد". تريد سمر أن تمرّر نزيفها الداخلي في لبنان من خلال حكاية واحدة، عدم قدرتها على تحقيق رغبتها بدراسة الطب في لبنان لأن الفلسطيني في لبنان لا يحقّ له الانتساب إلى نقابة الأطباء ولا يحقّ له ممارسة المهنة، ممّا اضطرها إلى دراسة التمريض، وفي المحصّلة ستنخرط الراوية في شعور عميق بالاغتراب، لكن حلمها المدفون لن يموت.
هو ثالوث الحب والهجرة والفقدان مرة أخرى في قصة "طرقات" لصابرين أبو العلا، حكاية انتقال أسماء وأيهم من مخيّم اليرموك عند دماره إلى مخيّم عين الحلوة "حينها اكتشفتُ أنه لم يكن يكفي أن ننجو من الرصاص حتى نكون قد نجونا"، "أما أيهم فقد أفرغ اليأس صبره وجرّده من ذاكرته اليرموكية وأصبح كل حديثه عن الهجرة.. كان الغرق في أحد قوارب الموت أسهل عليه من الموت قهرًا"، لم تنجُ أسماء من لعنة الحرب، لم يهاجر أيهم فقط بل أيضًا أخوها وأختها وعائلتها.. "لم يقتصر فقداننا على الذين ماتوا بل امتدّ إلى الأحياء الذين أحببناهم".
في "قصة الحنّ والقرش وبعض النباتات" لرنا عيسى تحكي الراوية قصة والدها اللبناني وأمها الفلسطينية، من تعارفهما في المدرسة إلى زواجهما المرفوض عائليًا: "قرأت أمي سيمون دو بوفوار وتشجّعت فطالبت بحق تقرير المصير"، الزواج بعد حصار تل الزعتر وولادة الراوية، "الحمد لله الذي ولدنا إناثًا ولم يلدنا ذكورًا وإلا كان اسمي عبد الناصر، كنت سأضطر إلى أن أجد حلولًا لمشاكل الشرق الأوسط".. تفاصيل من جذور الذاكرة صوّرتها لنا رنا عيسى بروح خفيفة وبحسّ فكاهي أحيانًا ومؤلم أحيانًا أخرى، انخراط الوالد في حركة فتح، مجزرة صبرا وشاتيلا، حرب المخيّمات، "محاربة الأقوياء"، عادوا إلى بيروت، الوالد ترك السلاح وانتقل يرسم خرائط خطوط النقل "كل تلك الخرائط لم تشعر أبي يومًا يأن له مكانًا على هذه الأرض.. كان قبل أن ننام يحكي لنا كيف حاول هو وأخواه استرداد فلسطين.. في قصص أبي لم يذق الفدائيون طعم الخسارة قط"..

كل حكاية من حكايا "حب في المخيّم" لها ثيمتها الخاصة، صحيح أن الحب بأشكاله المختلفة يخيّم على الأمكنة، لكن الوجع هو الثيمة الأساسية، ومع كل حكاية تظهر البصمة الشخصية للفلسطيني في لبنان كوجه كامل من الوجع متعدّد الإيقاع فوق طبقات أفقية وعامودية. لقد أتوا بالحقائق المريرة من برادات الموتى التي تخصّنا وأعادوا رشّ البذور بلغة كاملة لا تموت، إنهم أحرار مسجونون تمامًا، أما نحن فنتحوّل إلى مقيمين غير مرئيين معهم بين تضاريس المخيّم بفعل الاحتكاك البصري النفسي مع هذه الحكايا التي تصوغ أصواتها بعناية تامة.

كلمات مفتاحية

لبنان اللاجئون الفلسطينييون المخيم الفلسطيني التهجير الفلسطيني النكبة الفلسطينية النكسة