الحركة الثقافية الفلسطينية في ظل عاصفة الجائحة

صونيا خضر 24 مايو 2020
هنا/الآن
التشكيلي الكردي سيروان بران يستلهم كوفيد 19 بريشة
استطاع صوت الشعراء والكتاب الفلسطينيين وعلى مدى السنوات الأخيرة التأثير في الرأي العالمي عبر نقله وتعريته للأحداث من خلال التقنيات التي أتيحت له كما للعالم، مع امتياز تمكنه من كسر الحواجز التي كانت تمنعه من ذلك قبل توفر تلك القنوات وسهولة استعمالها.
بالعودة إلى الاعتداءات المتكررة للعدو الإسرائيلي على قطاع غزة خلال العقد الماضي، نجد أن أصوات المثقفين الفلسطينيين من شعراء وكتاب وصحافيين نجحت في تصدير المشهد على حقيقته لا كما ترغب الماكنة الإعلامية الإسرائيلية بتصديره، ومن بين الأسماء التي تصدرت منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية آنذاك كان الشاعر خالد جمعة، الذي تمكن من حصد العديد من الترجمات والمشاركات لنصوصه اليومية التي حرص من خلالها على تحويل لغة الأرقام التي يتم التعامل بها خلال الحروب والكوارث إلى قصص وأسماء وصور، تمنح قمة إنسانية ومعنوية للمصطلحات الرقمية.
إلى جانب من نجحوا في تحويل المشهد الإنساني من مجرد خبر إحصائي إلى صورة نابضة من لحم ودم وأسماء، وعلى الجانب الآخر من الوطن، برز كتاب وشعراء وناشطون ممن تخصصوا في رصد المتغيرات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني من جراء تقطيع أوصال الوطن وحظر التنقل بين أرجائه، إلا لحملة التصاريح أو الهويات المقدسية، لنجد الكاتب والشاعر ماجد أبو غوش يخصص جزء كبيرا من نصوصه لعروس الشمال يافا، والكاتب والشاعر زياد خداش يقدم مدينة رام الله بنصوصه السريالية على أنها المعشوقة الباقية أبدًا، وتجول خداش مع متابعيه في شوارع رام الله، ذكر معالمها بالأسماء والشجر والمقاهي والنساء المتخيلات والمشردين والباعة المتجولين، ليمنح لهذه المدينة المعزولة كسواها من المدن الفلسطينية، نجومية على مشغلات البحث وأجندات السياح.



عاصفة كوفيد 19
هبت عاصفة كوفيد 19 على جميع أنحاء العالم، ولم تستثن من هذا الهبوب، بلادًا ترزح منذ عقود تحت الهبوب المتقطع لعواصف القهر والأسر والإذلال من جراء احتلال لا يمنح فرصة لتلك البلاد بالتقاط أنفاسها. بداية الأمر وتحديدًا منذ إصابة المدينة المقدسة بالوباء بلغت الصدمة منتهاها، وفي أقل من 24 ساعة، توجهت أنظار فلسطين كلها نحو بيت لحم، وتابع الشارع بكل أطيافه الأرقام التي تتصاعد بوتيرة مقلقة ولافتة، والإجراءات الطارئة لقطاعات حكومية وصحية تخوض تلك التجربة بتوجس وخوف لخصوصية ودقة وضع هذه البلاد المحاطة بسياج الاحتلال من جهة وبوطأة الجائحة من جهة أخرى. 

شأن وهلة الدهشة الأولى والصدمة المروعة، التي صفعت العالم كله، كان لوطأة هذه الصدمة أثر سلبي على الطبقة المثقفة الفاعلة في فلسطين، فمن لم يلذ بالصمت أو الاختفاء في حينه تحول إلى مجرد مراسل ميداني ينقل المشهد من موقعه في العزل أو إلى باحث وناقل للأخبار المتداولة عالميًا بشأن الجائحة في أفضل الأحوال.
توجه بعد ذلك المثقفون والكتاب والشعراء الفلسطينيون، وفي بداية الأمر أيضًا، وهم الشريحة المتأهبة على الدوام لمواكبة الأحداث المتوالية بردود أفعال عاطفية ومرتجلة، وتطويع المخزون اللغوي والثقافي لخدمة توثيق ونشر المستجدات التي تطرأ على الوطن عبر المنصات الإلكترونية والمنابر المتاحة للترويج، إلى طرح الأسئلة وجمع المعلومات الخاصة بتلك الجائحة، وانقسموا بين المتشائمين الذين شكلوا السواد الأعظم وبين القلة المتفائلة التي حرصت على نقل الأخبار الإيجابية والترويج للأمل، وبين المروجين لنظرية المؤامرة التي ستطيح بما تبقى من إنسانية الكوكب وتحول البشر إلى مجرد أدوات مطوعة تحت إمرة القوى الخفية التي تسيطر على العالم.
مع مضي الوقت وتجاوز صدمة الوهلة الأولى، تحول أمر الجائحة إلى شأن اعتيادي يجدر التعايش معه لطول أمده على المستوى المنظور أولًا وللعجز القائم من إمكانية النجاة الفردية والقفز خارج المركب، بدأ المثقف الفلسطيني بتطويع أدوات نصه وتحويرها للتواؤم مع المرحلة ومواكبتها، وبدأ باستعادة وعيه التراكمي وتوظيف الذاكرة واللغة والعزلة القسرية للتكيّف مع الشكل الجديد للحياة ولخدمة النص الذي سيخرج متلائمًا مع مرحلة يصعب الكتابة بعيدًا عن أجوائها.

شوارع الضفة الغربية/ فلسطين المحتلة أثناء عملية العزل الصحي 


















العزل الصحي
العزلة هي أمر محبب للكاتب والشاعر، لكن ما حدث ويحدث على أرض الواقع في مرحلة الجائحة لا يشبه شكل العزلة الطوعية على الإطلاق. يقول الكاتب والشاعر السوري فادي سعد المقيم بالولايات المتحدة "العزلة هي أن يكون العالم كله خارجًا وأن تكون أنت بالداخل لكن ما يحدث الآن لا يشبه العزلة بشيء".

ويبدو أن هذه المقولة تنطبق على غالبية الشعراء والكتاب في العالم العربي والعالم، فهذه العزلة الطويلة لم تنتج موادًا أدبية بالقدر المتوقع من شريحة رزحت تحت هواجس القلق والخوف وفائض الوقت الذي لم يعد من السهل اغتنامه للكتابة.
أول ما يحتاجه الكاتب لأجل الكتابة هو الإيمان بمحتوى النص واليقين بجدواه، وهذا ما يصعب توفره في الوقت الذي قلبت فيه هذه الجائحة موازين الشك واليقين والجدوى، ورغم هذا حاول بعض الكتاب الفلسطينيين الخروج من هذه المعضلة عبر تحوير الكتابة على النحو الذي يتلاءم مع المرحلة من جهة ومع الطفرة النفسية العميقة التي طرأت على حيواتهم من جهة أخرى، فاتجه بعضهم ولأجل الخروج من مرحلة الإنكار التي تجتاحهم حيال المتغيرات المرعبة في العالم إلى الكتابة التوثيقية، كما فعل الكاتب والشاعر الفلسطيني بهاء رحال، الذي بدأ بتدوين يوميات العزل في مدينة بيت لحم  التي أصابها البلاء أولًا، فشرع بكتابة نصوص يومية تتعلق بوقع الوباء على الشاعر أولًا وعلى المدينة ثانيًا:

"لا تخافوا أبدا

لا تزال الحياة في الخارج على سابق عهدها، غير أن البعض ملتزم ويأخذ الأمر على محمل الجد ولم يتعب من البقاء في المنزل حتى بعد أن قضى أربعين يومًا ملتزما بأعلى درجات الوقاية والحذر. يضحك ذلك الساخر من خوف البعض، ويسأل لو أن هذا الذي دخل إلى بيته ولم يخرج منه طيلة الوقت جاءه زائرًا عابرًا ناقلا للوباء! يطرده ولا يستقبله، هل تراه يفعل؟ لا أظنه أبدا يستطيع طرد زائر قطع مسافة وتخطى حواجز الجيش والشرطة وتسلل من بين أعين رجال الأمن ووقف ببابك. هل يقول له لا تدخل! أم يدعوه لفنجان قهوة عند ذروة المساء الهادئ.
صاحب نكتة دائمة، بوجه بشوش ضحوك، لم يتغير قبل الوباء ولا وسطه، ولم يدخل في العزلة والحزن. يسخر من كل شيء، ولا يطيق من يأخذون الأمر على محمل الجد. يتندر على ديك منير الذي راح ضحية ادعاء البعض. حتى الديك أصابته الإشاعة وانتهى به الأمر، وسقطت أحلام الأكاديمي الذي ترك التعليم وقرر العودة إلى الأرض وتربية الدجاج. عجز الفلاح الذي صقلته المدينة ودفعته ليكون جزءا من نظامها ومن نمط العيش الذي اعتادوا عليه. هل يعود لقريته؟ ولكن كيف فهي مهجورة خلف التلال والجدار منذ النكبة. يسخر من حياة بشغف ينظر إليها البعض، والعمر شظايا يلملمه بمتاع القلب، لهذا يجد ضالته بالتندر فوق صور الأشياء.
هل تعود الحياة كما كانت؟

تعود، فما الذي يجعلها لا تعود. سوف يختفي الوباء ليس بذكاء البشر.

هل هي تعويذة تقولها وتتندر بها علينا؟

يسكت ويطيل النظر من خلف ستار الواقع، وماذا ترى؟

أطبق الصمت في المجرة".

واجه رحّال صاحب رواية "سبت إيلا" حالة القلق وكتب من داخلها في محاولة للخروج من حالة الإنكار وتفتيت الهواجس عبر نصوص مباشرة، تشي بذهوله وحزنه وحزن المدينة التي انقلب حالها رأسًا على عقب.
أما القاصة والشاعرة أحلام بشارات والتي تقضي مدة العزل في بيتها في رام الله، فقد تمادت في حالة الإنكار والانفصال عن المستجدات العالمية وغرفت من فائض اللغة المتكدّس في فائض الوقت الذي أصبحت تمتلكه لتشارك القراء العدّ التنازلي لانتهاء حالة الطوارئ الأولى من مطبخها، الذي تعدّ فيه الوجبات اليومية المرفقة بالصور ومقاطع الفيديو تحت عنوان "أكلات وأغان لشخص وحيد":

"أكلات وأغان لشخص وحيد

العد التنازلي، يوم صفر

طبخة آخر كل شيء

هذه الطبخة وضعت فيها آخر جزرتين، آخر حبة بطاطا، آخر حبة فلفل حلو، آخر نص قرن فلفل حار، آخر قطعه جاج، آخر كاسة رز، ومعها طفت الكهربا، فصارت مع آخر ضوء، وهاد آخر يوم رح أطبخ فيه على اللايف، فصار اسمها طبخة آخر كل شيء".
ومع استمرار حالة  العزل وإدراك الحركة الثقافية الفلسطينية لاحتمال أن تطول بعد، بدأت المؤسسات الثقافية باستعادة نشاطها عبر التقنيات والمنصات الإلكترونية، ولجأت بعض المؤسسات مثل منتدى الخبرات التابع لبلدية رام الله لاستضافة كتاّب وحكّائين لقصص الأطفال لقراءة تلك القصص عبر بث مباشر على الفيسبوك، وبدأ ملتقى طباق للنشر والتوزيع ووزارة الثقافة الفلسطينية باستضافة الشعراء والكتاب في أمسيات تفاعلية تبثّ على الهواء مباشرة مع إعلانات مسبقة لحشد المتابعين ، فيما واصلت  الكثير من الأصوات التي اعتاد القارئ أن يتابعها عبر منصات التواصل الاجتماعي حالة الصمت والعزلة الإلكترونية إلا من مداخلة عابرة يرشح فيها واحد منهم كتابًا للقراءة أو ينشر آخر نصًا قديما له في محاولة للإبقاء على تواجده خلال فترة تعمّ فيها حالة الركود النفسي واللاجدوى  ولا يعرف إن كانت ستنتهي أو كم ستطول.
أصبح البديل الرقمي الذي كان اختياريًا بديلًا إجباريًا لاستمرار الحراك الثقافي في فلسطين، التي لم يتطلب إعدادها لهذا التغيير الكثير من الجهد، ولم تؤثر عليها حالة الإغلاق تأثيرًا دراماتيكيا كما بقية العالم، فالفلسطينيّ معدّ نفسيًا للتواجد في بيته والالتزام بقوانين الحجر الحالية الأسهل كثيرًا عليه من قوانين الاحتلال خلال فرض منع التجوال، بفارق العبء النفسي من جراء مواجهة حالة الخوف في هذه الجائحة.

 




مصطلحات شاع تداولها

مع سريان حالة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة، وتفرغ الشارع الفلسطيني لمتابعة المستجدات لحظة بلحظة، والمحاولات الجادة للغالبية للانخراط في الحالة وركوب موجة الحق بمشاركة الرأي من باب ترك بصمة فردية واستعلائية أحيانًا في وقت تهمش فيه الفرد واسمه وشهرته، طفت على سطح المنصات التواصلية بعض المصطلحات التي تم التداول فيها بشكل لافت ومثير أذكر منها مثلًا:

التسحيج، وهو مصطلح يشير إلى اصطفاف جماعة خلف شخصية ما ومحاولة تلميع وتضخيم ما تقوم به هذه الشخصية، التي لها مكان من التعريف بطبيعة الحال. هذا المصطلح هو بمثابة اتهام لكل من يثني على فعل تقوم به جماعة أو شخصية اعتبارية، تسعى للخروج بإجراءات تراها مناسبة للخروج من هذه الجائحة، والمتهمون بالتسحيج هم المتعلقون بقشة الحكومة للنجاة والمتهمين بكسر الهاء، هم المعارضون بالفطرة وتحديدًا لهذه الحكومة التي يسعون لإحباط الاصطفاف الشعبي حولها وارتفاع أسهمها من جراء نجاحها في إدارة الأزمة، ونهاية الأمر هذا يبرز ويشير إلى الشرخ العميق في الجسد الفلسطيني، والأيديولوجية الفلسطينية الفصائلية، حتى في ظل أزمة عالمية لا تفرق بين فصيل وفصيل.

التنمر، وهو مصطلح يشير إلى الإساءة المتعمدة وايذاء شخص ما تتم الإشارة إليه في خبر صحافي أو بيان حكومي بشأن الجائحة، من متابعين عشوائيين لا أهداف لهم أكثر من إثارة الشغب والتسلية.

التحدي أوchallenge، وذلك بابتكار مداخلات معينة مرفقة بالصور الشخصية التي ترفع الروح المعنوية وتخفف من الوطأة النفسية السلبية للجائحة على  رواد التواصل الاجتماعي .

كورونيات، وهو مصطلح مستجد أطلقه بعض المثقفين على نصوصهم المتعلقة بيوميات العزلة، وبرع في هذه اليوميات الشاعر الفلسطيني عصام السعدي.

الخاصرة الرخوة للجسد الفلسطيني، وهي الجانب الضعيف الذي يسمح للفيروس بالتسلل إلى الجسد، بإشارة إلى العمال الفلسطينيين المضطرين للتنقل بين الأراضي الفلسطينية ومناطق الكيان الإسرائيلي التي تعاني من ارتفاع أعداد الإصابات فيها، وتم التداول بهذا المصطلح بشكل كبير خلال الإيجازات الصحافية اليومية للناطق باسم الحكومة إبراهيم ملحم، الذي لم تخل لغته من البلاغة والحنكة اللغوية واستطاع خلال 56 إيجازًا أن يؤسس لثقافة جديدة في مواجهة الجائحة.
الإنسان بطبيعته كائن متكيّف، يبتكر طرق النجاة الفردية ويؤسس للطمأنينة بوسائل يستجدّها لأجل مواصلة الحياة، وهذه هي حال المثقف الفلسطيني الآن خلال تدرجه في جائحة غير مسبوقة ومربكة، هزّت سرير العالم الغارق في سباته ودعته لمعاودة النظر في بعض السلوكيات المتعلقة بأسلوب الحياة، وهذا ما يكتب عنه المثقف الفلسطيني في المرحلة الراهنة، وبعد الخروج من مرحلة الصدمة، ليقرأ أحفاد هذا الجيل خطابًا روحيًا وجوديًا بعيدًا عن الصراعات الطبقية والوعكات العاطفية والتناحر اللغوي السفسطائي.

كلمات مفتاحية

الفلسطينيون المثقفون الحجر المرض التغيير الاجتماعي