}
عروض

"الحالة صفر" لعماد فؤاد: العودة إلى البداية

عماد الدين موسى

21 أبريل 2017

من الصعوبة بمكانٍ تمييز الروح في حالة أن يكون كاتبٌ ما شاعراً ومن ثم ينتقل إلى الرواية، فثمّة غموضٌ يكتنف روح الكتابة، شيءٌ لا يمكن القبض على مفرداته بسهولة، وهذا ما يمكن أن يُستشَفَّ من خلال قراءة رواية "الحالة صفر"، الصادرة عن دار ميريت/ القاهرة، للشاعر المصري عماد فؤاد، فبعد انتقالٍ ما بين عوالم مجموعاتٍ شعريَّة خمس يبدو وكأنّ الشعر ليس كافياً لتبيان البعد والانسلاخ عن الواقع والغوص فيه في الآن ذاته. مجموعة من الشخصيات البائسة والمتخيَّلة تارةً والواقعيَّة تارة أخرى، نثرها "الشاعر/ الروائي" على طوال صفحات الرواية، حالات اغتراب غير ملموسة في ما تمّ تدوينه ضمن الرواية العربيَّة، ليأتي عمله الروائي الأوّل بمثابة ورقة تذكّر لشخصيّات مغتربة عن واقعها بفعل المخدّر، حب ونشوة وأحلام وعدم اتزّان مقصود للتماهي مع فوضى وشلل الحياة برمتها، ردّة فعل من الممكن أن تكون موجودة ومتوفّرة بكثرة في عالمنا الحقيقيّ بعيداً عن السردِ والكتب!.

الفكرة

تغدو الفكرة كالقبض على الجمر، الاغتراب ومن ثمّ الاغتراب، هذه الحالة التي تجعل من القارئ على إثر القراءة متمسكاً بحياته الرتيبة التي لا بد وأن تكون كذلك، كنوعٍ من التسلية لتزجية الوقت الثقيل ليس أكثر؛ إذ ما من شيءٍ يُذكر في الخارج له ملمح الأهميَّة، كل شيء رتيب ويومي معاد ومكرّر، أنشوطةً محكمة في رقبة كل واحد منّا.

روايةُ خلق الحواسّ الجديدة غير تلك التي اعتدناها، أن يحاول الإنسان امتلاك حواس إضافيَّة تُضاف إلى حواسه، لتغدو الحواس القديمة مجرّد آلاتٍ منهكة ومتعبة من كثرة الاستعمال اليوميّ فتبرز الحواس الجديدة النّابتة. ما يميّز "الحالة صفر" هي دقّة الملاحظة للبشر، هذه الكوميديا التي نعايشها بشكلٍ يوميّ تغدو تراجيديا آن التفكّر بمصائر كلّ أولئك، ثمة شيءٌ جوّاني في الرواية ولكن ليس بطريقةٍ فلسفية جامدة إنّما بأسلوبٍ متّكئ على الملاحظة الدقيقة للمشاعر الداخلية التي تغدو حوّاس إضافيَّة، حوّاس تجعل من الخارج آفّة لينكفئ الأبطال– الذين هم صورٌ عنّا نحنّ القرّاء- إلى دواخلهم غير نادمين على الأخطاء الكثيرة.

تغدو "ميشيل" بطلة الرواية الإنسانة الحرّة الحقيقيَّة التي سنلحظ تحرّكها بين العوالم المختلفة، التجريب ومن ثمّ التجريب ولا شيء آخر غير ذلك. يقرر بطل الرواية وصديقته أن يزرعا بذوراً مخدّرة في منزلهما الصغير، لتغدو المخدّرات هي لغة السرد، هذا الغياب عن الوعي الذي يعطي للرواية ثيمة السورياليَّة، وليغدو الموت المسرود بين طيّات الرواية روايةً داخل الرواية ذاتها بطريقةٍ ليست معقّدة وإنّما تبعث على التأمّل في كل شيء، أمرٌ ما يماثل لحظات الاسترخاء على أريكة بعد ثمالةٍ مُنهِكَة ومحاولة إعادة الترتيب لرسم بداياتٍ جديدة ليس الشرطُ فيها أن تكون هنالك نهايةٌ ما معيَّنة، وكأنّها حالة العودة إلى نقطة الصفر، الأخيرة التي هي بمثابة نقطة البداية، الصفر كرقم، كبداية ما قبل البداية، يمكننا أن نعتبر في حالةٍ ما "الحالة صفر" رواية الفوضى المتّزنة والتي تودي إلى الانتظام، شيءٌ ما يشبه الانبلاج من الفراغ لبناء صرحٍ خياليّ سرعان ما يغدو واقعيَّاً بكلّ فجاجة.

لا يمكن سرد الحكاية كلّها، فهي موجودة بعمق، التخبّط والنسيان، الهجرة والاغتراب، الثمالة وشلل الحواس برمّتها وكأنّ الشخصيّات تعودُ إلى حالة الطفولة، لا تشعر ولكنّها تعي ما الذي يحدث بكل يسرْ لا بل وتشير بأناملها الطريَّة. 

اللغة الشِعريّة معياراً للسرد

لا يستطيع الشاعر أن يتخفّف من لغته وخياله، فإن كان الشعرُ غوصاً في الخيال باستخدام اللغة، فالرواية تكون باهرةً آن تجتمعُ العناصر اللغوية والتخيليَّة فيها، محيلةً الرواية للشعر والأخير أيضاً إلى الرواية في بنيانٍ قويم وتعاونٍ لغويّ وانتقاليّ متبادل بشكلٍ آليّ نسبةُ الخطأ فيها قليلة، لا بل نادرة إن جاز التعبير.

لا يمكن تحديد الشخصيّات في قصيدةٍ ما، والحال هذه في "الحالة صفر"، ثمّة تضاربٌ لغويّ يحيل إلى المعاني كلّها وفق اختلاطٍ في الزمن والعودة الكثيرة إلى أزمنةٍ أخرى ربمّا توجد وربمّا لا كذلك!: "الكتابة كانت محاولتي الأخيرة لأنقذ نفسي من مصير السّقوط المدويّ يا ميشيل، صرت أكتب لأنسى، لأخرجك من تحت جلدي، صرت أكتب كلّ يوم، كلّ ليلة، أكتب كلّ شيء، كلّ تفصيلة، كلّ نأمة، أكتب عنك، وإليك، مستعيناً بالماريجوانا كي تحملني إلى ضفاف أخرى لم أكن لأتخيّل أنّني سوف أراها يوماً ما، ولكي أطيل زمن استمتاعي برؤية هذه الضّفاف، كنت أستمرّ في الكتابة، مثل محكوم بالإعدام، يعرف مصيره جيداً، لكنّه لا يعرف الموعد الذي سيموت فيه".

الإحساس الذي يضاعفه المخدّر موجود بكثرة في الرواية وإن كان بتوريةٍ ما، حالاتٌ عدّة علميَّة تحدث بفعل المخدِّر، يسردها الراوي بطريقةٍ تكادُ تشعر معها أن جنوناً ما مسّ الشخصيّات، حواسٌ جديدة تنبت وتعطي البعد الأعمق للحالة، الاسترخاء والسقوط والتخيّلات والمناظر التي توصِل الأبطال إلى حالات هلوسةٍ حقيقيَّة، تختلطُ فيها الحواسّ ووظائفها بشكلٍ كوميديّ، كل ذلك بلغةٍ هي الأقرب إلى الشعر منها إلى تقنيّات الرواية على اعتبار الأخيرة فنّاً مختلفاً عن الشعر أو القصّ.

الموتُ ثيمةً للروايات

باتت فكرة الموت العنصر الأهمّ داخل الرواية العربيَّة. عنصر فعّال وآسر، على اعتبار أنّ الموت هو الحدث اليومي المكرّر دون توقّف في العالم، لذا تبدو "الحالة صفر" رواية موت المشاعر وموت البشر وموت الأشياء في كلّ الأنحاء، ثمّة موتٌ موزّع يتقافز ويبرز أو يلوح بيده مهدّداً ببشاعة: "المحصّلة وباختصار، هناك ميتات لا تعد ولا تحصى، تحصد الآلاف يومياً وهم سكارى أو مخدّرون، منهم من مات بسقطة كهذه، فشجّت رأسه وبقي ينزف حتى خرجت روحه مع الدماء التي رسمت هالةً حمراء تحيط برأسه، كأنّها إكليل شوكٍ أخير"، متابعاً عن الموت: "ومنهم لا تكشف جثّته إلّا بعد أن تفوح رائحتها، ويطلب الجيران رجال الشرطة قائلين أنّ رائحةً نتنة بشكلٍ مريب تفوح من شقّةٍ أو بيت جارهم أو جارتهم منذ يومين أو ثلاثة، وعادةً ما يكون هؤلاء المحظوظون وحيدين، وحيدين تماماً، وحيدين بدرجةٍ لا يمكن وصفها".

إذن حالاتُ موتٍ متعدّدة يسردها الراوي في بضعة أسطرٍ تكشف فجائعيَّة الموت واختلاف طرقه، وثمّة الكثير من تلك الحالات التي وإن تمّ سردها تأخذ صفحاتٍ أكبر من العمل، الموتُ ثيمة الكتابة في عصرنا الحاليّ.

"ميشيل" تغدو بئر الأسرار للراوي، البئر التي لا قاع لها. رغبةٌ في البوح تتكاثر مع تقادم الصفحات ونموّ السرد عن الموت وحوله، الهرب عن ذكر الموت بذكره! تلك الدائرة المفرغة التي لا تودي سوى إلى الموت، هذا التناقض المرير الذي يفضي إلى النسيان من خلال التكرار اليوميّ، الشيء ونقيضه داخل روايةٍ واحدة.

 فصولٌ خمسة بتقطيعٍ متقن يُدخِل القارئ إلى عالمٍ مليء بالحشيش واختلاط الحواسّ، لينتهي العمل بفصل (الجذر)، الحبّ بين فتاة أوروبيَّة وشابّ مصريّ، هذه المعادلة التي تدفع إلى الكسل اليوميّ دون ندمٍ على الأشغال التي تمضي، فكرة الإتقان في السرد اعتماداً على الهذيان ومن ثمّ ترتيبه وفقَ أناقةٍ لغويَّة وانتقالٍ بتقنيّة (الفلاش باك) أو العودة إلى الوراء، حيث أنّه ثمّة في- الوراء المُعاد إليه- موطن الأسرار وماهيَّة الأشياء الحاضرة أو التي ستحدث في الأيّام المقبلة التي تعادل النبوءة، عمل التخلّص من التكرار، أو المحاولة بغية التحرّر من القيود والمضيّ بحريَّة نحو المجهول دون هلعٍ أو خوفٍ من ذاك المجهول، أسودَ كانَ أم أبيضَ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.