}
عروض

قراءة في الأعمال الشعرية لمحمد بنطلحة

محمد أحمد بنيس

28 أبريل 2017

 

أصدر بيت الشعر في المغرب مؤخرا الأعمال الشعرية للشاعر المغربي محمد بنطلحة، على هامش فوزه بجائزة الأركانة التي يمنحها البيت. تضم هذه الأعمال، التي صدرت في 664 صفحة، ما أنجزه على امتداد أكثر من أربعة عقود (1970- 2015): رؤى في موسم العوسج، نشيد البجع، غيمة أو حجر، سدوم، تحت أي سلم عبرتُ، بعكسِ الماء، قليلا أكثر، أخسر السماء وأربح الأرض.

من الصعب الإحاطة بكل هذه الأعمال في ورقة واحدة، نظرا لما تتسم به تجربة بنطلحة من ثراء وتنوع في روافدها ومرجعياتها وخياراتها النصية المتعددة، هذا زيادة على ما عرفته من تحولات تعكس وعيا لافتا لازم الشاعر منذ بداياته الأولى، على نحو جعله أحد أكثر الشعراء المغاربة قدرة على تجديد تجربته، والبحث لها عن دروب ومسالك جديدة تدفع بها قدما في اتجاه النص الذي لا يكتمل بطبيعته. لذلك، لا نبالغ، إذا قلنا إن هذه التجربة تمثل منعطفا مفصليا في مسار القصيدة المغربية المعاصرة، ليس بسبب خصوبتها الشعرية وتنوع مبتكراتها الفنية والأسلوبية والتخييلية فحسب، ولكن باعتبارها أحد العناوين البارزة لانخراط هذه القصيدة في الـتأثير بفعالية ووعي في الحركية العامة للشعر العربي المعاصر، على ما فيه من تعدد وتنوع في التجارب والحساسيات.

ربما كان بنطلحة الشاعر المغربي الوحيد الذي انتبه مبكرا إلى مأزق القصيدة المغربية، وهي تعبر مرحلة السبعينات الملتهبة، فلم يَنسق خلف بريق الإيديولوجيا الذي استهوى معظم مجايليه، بل كان حريصا على ترك مسافة جمالية وفنية بينه وبين واقع سياسي واجتماعي، كان يدرك بِحس الرائي أنه لا يمكن أن يرتقي، بأي حال من الأحوال، إلى حيث يقف وحيدا يتأمل وينصت لأهوال الوجود.

الوعي بأهمية هذه المسافة، لا سيما في أكثر الحقب توترا في تاريخ المغرب المعاصر، سيتبدى في ''رؤى في موسم العوسج''، فرغم أن قضايا السياسة قد تطل من هذا النص أو ذاك، إلا أن ذلك يبدو ملتحما برؤية شعرية بادية لا يضل القارئ طريقه إليها. نقرأ في نص ''حاشيةٌ لا غيرُ'' المؤرخ بتاريخ 14 شتنبر/ أيلول 1970، والذي أهداه الشاعر إلى أطفال اللاجئين (لا نستبعد أن يكون النص قد كُتب على خلفية أحداث أيلول الأسود!):

(أبي!/ متى تضمني لصدرك الرحيب راحتاك؟/ وتفرش الطريقَ لي – بعد النوى- إليك زهرةٌ/ تلتفُّ حول شجر الأراك؟/ فإخوتي العصاةُ راعهم أن تسجد الكواكبُ/ لوجه طفلك الذي تجرع الرماد مرتين، فهو في فؤاده/ يَفُحُّ جُرحَهُ ونارَهُ./ ويقتفي الخطى/ متى يدرك داره؟).

يبدو النص وفيا لزمنه السياسي والإيديولوجي، حيث الحضور الطاغي آنذاك لرمزية القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي والثقافي العربي، خاصة بعد الرجة التي أحدثتها نكسة يونيو/ حزيران 1967، لكن الشاعر استطاع برؤيته أن يجتذب هذا الزمن إلى حيث يريد، ويحوله إلى زمن آخر ويزج به في نسيج النص، ضمن متخيل يعكس وعيا مبكرا بأهمية الأسطورة والرمز في استثارة الجماليات الكامنة داخل هذا النص، حتى لو كان موضوعه قضية كبرى بحجم فلسطين. إن استدعاء قصة النبي يوسف ليس مفتعلا، بقدر ما هو حرص على مضاعفة الجوانب الدراماتيكية التي تحيط بقضية اللاجئين لتعبر من طورها الفلسطيني والعربي إلى طورها الإنساني.

كان بنطلحة من الشعراء المغاربة الأوائل الذي حدسوا إكراه التحولات الثقافية التي كانت تلوح مع مطلع ثمانينات القرن الماضي، الأمر الذي جعله واعيا بضرورة تنويع عُدته الشعرية والمعرفية بِطَرق مناطق جديدة في مساره الكتابي، عَبر الانفتاح على روافد جديدة مثل الفلسفة والتاريخ والتراث والسوريالية والصوفية والفنون البصرية، ضمن أفق للخروج بالقصيدة من حدودها الضيقة إلى قارة الشعر اللامتناهية.

في ''سدوم'' تدهمنا نصوص على قدر عال من الكثافة التي تجعلها مختبرا مفتوحا للتجريب الواعي وغير المفتعل، فالشاعر يبدو منشغلا بمتخيل لا يتوانى عن تجديد فاعليته اللغوية والتركيبة والإيحائية والرمزية، بإقحام كل ما هو غير مألوف في الزمن والمكان، لكن مع الحفاظ على شعريته التي تبدأ بصهره مواده وعناصره، وتنتهي بإعادة بنائها في صور مستفزة ومُربكة. نقرأ في نص ''مصباح أرسطو'':

معتمٌ ذلك الضوءُ/ والديثرامبُ الحزينُ/ على وشك أن يحمل، الآن، شمسَ الأناضول/ فوق يديه/ إلى مجلس  الشعب؛/ حيث سيحظى أرسطو بعقد فريد؛/ وحيث سيستثمر العبدُ قولَ نؤوم الضحى.

يمتلك بنطلحة ناصية كتابة شعرية لا تكتفي بإعطاء هوية جمالية للنص، بل تدفعه إلى مناطق تشتبك فيها الطبيعة والثقافة في جدليات مفتوحة لا تنتهي إلا بإيجاد صيغة معدلة لهذا العالم، أكثر انحيازا لتلك الومضة  التي لا تفتأ تلوح في قعر النفس البشرية، فتغري، دائما، باستئناف ومعاودة الحلم بعد تخليصه من أدران الواقع. ورغم حرصه على تنويع موارده المتباينة التي تسند نصه وتفتح أمامه مسالك وآفاقا مختلفة، إلا أننا لا نعدم تلك العفوية التي يكاد لا يحسها القارئ لأول وهلة، إنها تكمن بين شقوق الجمل والعبارات والصور والتراكيب، هناك خيط رفيع يربط بين هذه العفوية (الموهبة الشعرية تحديدا)، والكتابة باعتبارها صنعة وتمرسا وقدرةً على تجديد هذه الموارد وتخصيبها وصهرها داخل دينامية النصوص بما لا يؤثر على قوة تأثيرها الشعري، ما يفتح المجال دائما أمام تغذية الدلالات والمعاني.

من هنا، تمنح شعرية بنطلحة إمكانات هائلة للاشتباك بأسئلة فلسفية ومعرفية ووجودية وإنسانية كبرى. فمنذ أعماله الأولى، كان باديا نزوعه نحو اجتراح نص ينصتُ لهذه الأسئلة التي تختزل كل ما هو أونطولوجي ولا تتوقف عن التجدد الدائم في دلالاتها، فنجد حضورا باذخا للطبيعة بمعناها اللانهائي والآسر، إذ يبدو من الصعب، في كثير من الأحيان، الفصل بين تَحققها المادي والتخييلي حين تعبر الميثولوجيات والأنساق المعرفية الأسطورية في اتجاه كتابة شعرية تحتضن بسلاسة كل ما يقع في طريقها. يظهر ذلك، بشكل أوضح، في أعمال الشاعر الأخيرة كما هو الأمر بالنسبة ل ''قليلا أكثر''. فالنص، في هذا العمل، يقيم في برهة يشتبك فيها الوجود بالعدم، فلا تتحقق هذه الطبيعة وتكتمل، إلا بهذا الاشتباك الذي يفضي إلى حياة سلسلة حيوات لا نهائية. نقرأ في نص '' الوجود والعدم'':

في عجالة:/ وجهان لعملة واحدة،/ الحياةِ./  قرأتُ هذا في عظمة كتف/ عثرت عليها بالصدفة بين أوراقي/ بدون تاريخ. الخط زناتيٌ. وفي الهامش:/ الوجود أريكةٌ/ والعدم صولجانٌ.

هكذا نجح بنطلحة في أن يوقع بكل شي، يمكن تَخيله، في قصيدته، ويحكم ''قبضته'' عليه قبل أن يمر به إلى مختبره الشعري المعتم. أشياء كثيرة قد لا تخطر على بال، منها ما يصعد من ذات قلقة تقارع الموت والزمن، ومنها ما يَفِدُ من اليومي، ومنها ما يثب من داخل أمهات الكتب في شتى التخصصات، ومنها ما يتولد فجأة من داخل النص. لكن الشاعر يصهرها كلها ويعيد بعثها على نحو يعزز الفقد والاغتراب والانكسار والخيبة.

اعتاد قارئ بنطلحة على التعثر بأصوات تأتي من بعيد، من برهة سحيقة خلفها الوجود في تغريبته الأزلية؛ سدم مترسبة في الزوايا المعتمة للذات والوجود، عويلُ المنبوذين والموتى الواقفين على باب الأبدية ينتظرون وصول خساراتهم التي تركوها هناك. عميانٌ، وغبارٌ، ومَهاوٍ، وحجرُ فلاسفة، وشعراء، وروائيون، وجسدٌ لا ينتهي إلا ليبدأَ في جسد آخر. دلالات تحتشد لتنفرط من جديد بين يدي الشاعر في انتظار ما سيجود به خياله المتوثب. نقرأ في نص '' كيف أعبر من نفسي إلى نفسي'':

لا أنا جورجياس/ ولا أنا حاكمُ صقليةَ/
إن أنا سوى كائن من ورق/ ماذا عساني؟ قُصارايَ/ سواء عثرتُ على رمانة زرقاء/ أمام باب الآخرة/ أم لا/ أن أرقص بأقدام سارد أعمى.

ولعل الانعطاف الأكثر وضوحا في أعمال بنطلحة الأخيرة توسله بالسرد، باعتباره عتبة أخرى لتوليد الشعر وتخصيب ممكناته، إنه سرد منشغل بتعقب الواقعي والفانتازي والتخييلي، هذا دون أن نغفل الإشارة إلى اعتناء بنطلحة بالتوزيع والتشكيل البصري للنصوص لما لذلك من أهمية كبيرة في تغذية دلالاتها المختلفة. نقرأ من في نص '' لسان حوّاء'' الوارد في مجموعة ''أخسر السماء وأربح الأرض'':

في الظاهر بلحُ البحر،

وفي الحقيقة أصل الأنواع.

 أقسى الشهور هو هذا، الأرض تتلعثمُ. وكل ما فوق

الأرض ينحني: ديدان محمد زفزاف. أيـائلُ محمد

 بنطلحة. ذئب السهوب. فراشات نابوكوف. عشبٌ

 تحت السرة. شفاهُ تِسليتْ. ركبتاها. والحاشية:

  ملائكتي، وشيطاني.

طوال ما يقرب من خمسة عقود لم يتوقف محمد بنطلحة عن العبور إلى نفسه قادما من بساتينها الوارفة، يسوس استعاراته التي تتسرب من الأشياء والكائنات الحقيقية والمتخيلة، قبل أن ينثرها أثناء عودته بعد أن يكون قد أعاد تشكيلها وتخييلها

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.