في كتاب "شيء عابر... نابلس تحت الاحتلال"، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو عبارة عن مذكرات ووثائق حمدي طاهر كنعان ما بين يونيو/ حزيران 1967 ومارس/ آذار 1969، تتقاطع سيرة مدينة نابلس مع سيرة رئيس بلديتها حمدي كنعان (1909 – 1981)، في سردية تؤرخ للمدينة خلال الأيام الأول لحرب حزيران 1967، وحتى آذار بعد عامين من الاحتلال، استنادًا إلى مذكرات وأوراق كنعان، التي أبرزت صوت مقاومة الأهالي وممثليهم في مواجهة تمدّد المشروع الاستعماري الصهيوني منذ بداية الاحتلال.
ويستكمل الكتاب، الذي هو من دراسة وتحقيق الباحث بلال محمد شلش، بقيّة سيرة المدينة وكنعان، مؤرخًا لشيء من الجوانب العمرانية والاجتماعية والاقتصادية علاوة على السياسية في المدينة، ولأعوام من الاشتغال اليومي والإنجاز التراكمي في مرحلة بينية لاحقة لحرب أهل البلاد الكبرى ما قبيل وأثناء وما بعيد النكبة، كما تؤرخ للطريق إلى الحرب بصوت أهالي نابلس وعيونهم، فيما ترافق ذلك كله إضاءة على صراعات التمثيل للمدينة، بل لعموم الأرض المحتلة، والخلافات الدائرة حول بعض الأفكار السياسية "الجنينية"، وسياقات تشكلها وتداولاتها الأولى، اعتمادًا على قراءة أرشيفية كاملة.
وفي تقديم طاهر حمدي كنعان للكتاب يتحدث عن والده، حين واجه شابًا استحقاقات المسؤولية العائلية مبكرًا حين توفي والده الحاج طاهر، وكان بالكاد اجتاز المرحلة الثانوية في دراسته بكلية النجاح الوطنية في نابلس، فقد أسفرت وفاة الحاج طاهر عن توريث ولده الشاب ديونًا مالية كبيرة مستحقة على العائلة، نتيجة الفشل الذي لحق بمصلحة الأعمال التي كان يشتغل بها الشقيقان الحاج طاهر والحاج صدقي من أبناء كنعان، وتمثلت في خدمة نقل البضائع وشحنها على ظهور الدواب بين نابلس والقدس ويافا وغيرها من المدن الفلسطينية، والتي كانت ذات مردود ماليّ مُجزٍ إبان العهد العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والاحتلال البريطاني لفلسطين، لكن واسطة النقل هذه اندثرت إلى غير رجعة مع دخول السيارات والشاحنات الحديثة، وقتذاك.
ونظرًا لانخراط شقيقه الأكبر في الدراسة الجامعية بإسطنبول والأصغر في دمشق، قرر حمدي كنعان صرف النظر عن الدراسة الاجتماعية، والانخراط في سوق العمل للوفاء بديون العائلة، وكان أشغل وظيفة مدير أعمال السيد أحمد حسن الشكعة، زوج شقيقته، وأحد الأعيان المرموقين في نابلس، وكان من بين أعمال أخرى يملك مصبنة تنتج صابونًا بالعلامة التجارية واسعة الرواج تحمل اسم "الجمل"، ولكن مع نشوب الحرب العالمية الثانية، انتقل مع أسرته الصغيرة إلى عمّان، حيث استقر في مسكن بشارع خرفان في جبل عمّان المطل على المركز التجاري للمدينة، حيث بات له متجر في سوق السكر، إلى جانب متاجر كبار العائلات التجارية هناك كالطبّاع ودروزة والمعشّر، كما أنشأ علاقات تجارية وثيقة مع تجار معروفين في دمشق وبيروت، لكنه مع نهاية الحرب في عام 1945، كان قد عاد إلى مسقط رأسه في نابلس، وأسس فيها أعماله من جديد.
وما بين الأعمال التجارية والزراعية والصناعية نجح في استخدام تقنيات لم تكن دارجة تتعلق باستخراج الزيت من "الجفت"، وهو النوى والقشر المتبقي بعد عصر الزيتون في المعاصر الحجرية، وفيه جميع الميّزات الصالحة لصناعة الصابون النابلسي بأعلى جودة وبثمن بخس نسبيًا، وهو ما شجع رجل الأعمال حمدي كنعان، على إقامة مصنع كبير لاستخراج الزيت من الجفت، علاوة عى إضافة صناعة الصابون الأخضر إلى نشاطه في الإنتاج الصناعي، مختارًا "الدب القطبي" علامة تجارية، بعد أن اشترى أكثر المصابن عراقة في نابلس، وهي واحدة من خمس مصابن أسسهها الحاج نمر النابلسي وأورثها أولاده، وحولها باسل حمدي كنعان، مؤخرًا، إلى متحف ومكاتب للتدريب المني بإدارة مؤسسة التعاون.
وقارئ الكتاب يدرك أن مكانة حمدي كنعان المرموقة في عالم الاقتصاد والمال والأعمال ترافقت مع مكانة اجتماعية وشعبية تتنامى بين مواطني المدينة، فأصبح يتكرر انتخابه لعضوية المجالس المتعاقبة لغرفة التجارة والصناعة في نابلس، وكذلك تكرر انتخابه لعضوية المجالس البلدية المتعاقبة، ابتداءً من دورة عام 1951 التي ترأس مجلسها نعيم عبد الهادي، ثم دورة عام 1955 التي ترأس مجلسها الحاج معزوز المصري، ثم دورة عام 1959 التي ترأس مجلسها أحمد سروري، وصولًا إلى انتخابات المجلس البلدي في سبتمبر/ أيلول 1963، حين حاز أكثرية الأصوات، وبات رئيسًا للبلدية في السنوات اللاحقة، وصولًا إلى كارثة عام 1967، وسنوات الاحتلال الأولى.
كان أكثر ما استفز إحساس حمدي كنعان بالواجب الصدمة التي مثلها الاحتلال، والتي تسجل تفاعله معها المذكرات واليوميات التي خطها |
وانشغال حمدي كنعان بريادة أعمال تجارية وزراعية وصناعية ناجحة، وبنشاطه في الخدمة العامة بالمجلس البلدي، لم يشغله عن تطوير ثقافته الشخصية، بما يعوّض ما فاته من التعليم الجامعي، فعمل من خلال المران على إتقان التحدث باللغة الإنكليزية، ربّما مستفيدًا أحيانًا من التفاعل مع القنصل الإنكليزي في نابلس الميجور هاكت- بين، الذي أحب نابلس، واتخذها مقرًا له إبان الحرب العالمية الثانية، وبعدها، حين عيّن قنصلًا مقيمًا لبريطانيا في المدينة، كما تعززت لديه عادة المطالعة المسائية التي تخطت الصحف والمجلات إلى الكتب الأدبية الجدية، لا سيما سلسلة "اقرأ" التي كانت تصدرها دار المعارف في مصر، وسلسلة "كتابي" التي كان يصدرها الأديب حلمي مراد في مصر أيضًا، والتي اشتملت على ترجمات ومراجعات لعيون الأدب العالمي من قبيل "اعترافات جان جاك روسو"، على سبيل المثال.
وبعد الحديث عن شغفه بالهندسة التي كان يمنى النفس بدراستها جامعيًا، وعن شغفه بالسفر لا بقصد السياحة بقدر اكتساب الخبرة فيما يفيد بلدية نابلس، تمت الإشارة إلى كونه محافظًا في السياسة، ويميل إلى الاستقرار الذي تمثله الملكية الدستورية، وإلى السياسة العقلانية والاستقامة التي يمثلها رجال مثل وصفي التل، الذي ربطته به صداقة عميقة وثقة متبادلة، في حين كان حمدي كنعان حسّاسًا ضد الأخطار التي تمثلها الزعامات الشعبوية كالحاج أمين الحسيني وأتباعه، وجمال عبد الناصر وأدواته الإعلامية كأحمد سعيد، كما كان حريصًا على إيصال هموم المواطنين والمعلومات في ظل ظروف الاحتلال الصعبة، ليس فقط إلى المسؤولين في عمّان، كما فصّلت أوراق الكتاب، بل إلى القيادات الفلسطينية في بيروت، حيث حرص خلال زيارته إلى بيروت أن يجتمع بأفراد من هذه القيادات، فالتقى يوسف صايغ، ووليد الخالدي، والشهيد محمد يوسف النجار (أبو يوسف)، لكن ميوله السياسية تلك لم تكن ذات طبيعة متشجنة، فلم يكن سلبيًا إزاء انتساب ولديه طاهر وباسل في سن مبكرة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، إذ كان ليبراليًا في هذا المجال، يؤثر الحوار العقلاني.
وكان أكثر ما استفز إحساس حمدي كنعان بالواجب، الصدمة التي مثلها الاحتلال، والتي تسجل تفاعله معها المذكرات واليوميات التي خطها، وشملها هذا الخطاب، فقبل حقبة الاحتلال لم يخطر بباله أن يكتب يوميات ومذكرات، على الرغم من تسلمه مناصب الخدمة العامة، لكن تجربة الاحتلال الإسرائيلي والتفاعل مع السلطة المحتلة أشعرته أن مجرياتها أخطر من أن يهمل تدوين أحداثها بما يفيد الأجيال القادمة، ووجه موظفي البلدية إلى حفظ سجل باليوميات والمقابلات الصحافية، وهو ما شكّل المادة التي عمل عليها محقق هذا الكتاب، بلال شلش، بدقة وحرفية، مستفيدًا مما دونه بعض أصداقئه المقربين ممن واكبوا تجربة أيامه رئيسًا لبلدية نابلس بعد سقوطها تحت الاحتلال، وخاصة يحيى عودة أمين سر البلدية، والطبيب الدكتور عدلي الدلال.
وحين اجتاحت البلاد كارثة حرب حزيران 1967، كان قد بقي من مدة ولاية المجلس البلدي الذي يترأسه حمدي كنعان، ثلاثة أشهر، لكن واقع الاحتلال وظروفه فرضت عليه وعلى زملائه في المجلس البلدي، الاستمرار في أداء المهمات والمسؤوليات الجسيمة التي تمخضت عنها تلك الظروف، فقد كان يوم الأربعاء 7 حزيران 1967، يوم مواجهة رئيس بلدية نابلس وزملائه في المجلس البلدي ضباط الاحتلال، وكانت البلدية هي كل ما تبقى من المؤسسات الرسمية بعد تصفية دائرة المحافظ وما يتصل بها من دوائر الحكومة... وأصبح رئيس البلدية وكوادرها يمثلون المرجعية الوطنية الوحيدة، وسرعان ما تولى كنعان المعروف بحزمه، إزالة الأضرار التي سببها الاحتلال، وإعادة حياة المدينة إلى طبيعتها، بما في ذلك إصلاح خطوط المياه والكهرباء التي أعطبتها الدبابات، كما حرص في الأيام الأولى من الاحتلال، ومعه أعضاء البلدية وموظفوها، على تنفيذ جولات في أحياء المدينة، ليطمئن سكانها ويشجعهم.
وتحدث الكتاب عن براغماتية حمدي كنعان، خاصة في إقامته علاقات مباشرة، وبعضها شخصية، مع موشيه دايان، حيث بادر للاتصال بقنصل الولايات المتحدة في القدس، ويوم 14 يونيو/ حزيران 1967، ووفق ما دوّن يحيى عودة، أن كنعان طلب منه مساء مرافقته في سيارته، وكان أمامها سيارة عسكرية، وسرعان ما اتجهت بهما باتجاه رام الله، وإذا هما بعد ساعة في "بيت إيل"، حيث القيادة العسكرية لجيش الاحتلال، وطلب إلى رئيس البلدية "الدخول لمقابلة وزير الدفاع موشيه دايان، بينما طلب إلى مرافقه الانتظار في غرفة مجاورة"، بحيث استمر اللقاء نحو ساعة، خرج بعدها كنعان ليبلغ سكرتير البلدية أن الوزير وافق على عودة أهالي قلقيلية والقرى المجاورة، وأنه تعهد للوزير بإزالة الأبنية المهدمة في قلقيلية والقرى المجاورة، وإصلاح شبكتي الكهرباء والماء الرئيسيتين، وغير ذلك من آثار الاحتلال حتى تصبح صالحة لاستقبال العائدين... وفي طريق العودة إلى نابلس، وضعا خطة لإرسال فرق البلدية المتخصصة بالكهرباء والمياه وتمهيد الطرق مع آلياتها وجرافاتها، وتخصيص الباصات والسيارات والشاحنات اللازمة لنقل المهجرين، وفي اليومين اللاحقين كانت العودة تأخذ طريقها بسرعة فائقة.
ولكن في المقابل، ومن المواقف التي سجلها عدلي الدلال، واعتبرها نقطة تحوّل مهمة حين "حصلت أول عملية إطلاق نار على مركز قيادة الاحتلال في منطقة الجنيد، غربي نابلس، فجن جنون القيادة الإسرائيلية، واشتبهت في منزل بأنه الوكر الذي أطلق النيران، فنسفته زورًا وبهتانًا"، وكان رد فعل الأهالي أن ذهبوا بمعيّة كنعان يحملون الفؤوس والمجارف والقفف، وباشروا بعزل بقايا الهدم، وهم ينشدون الأناشيد والأهازيج الوطنية، ويحيّون وقفة رئيس البلدية الذي بدا متأثرًا حتى أنه بكى، ووقتها رفع الشعار: "هم يهدمون ونحن نبني"، ومن يومها تشكلّت لجنة للإعمال لتبني البيوت التي تُهدم، ولجنة أسر الشهداء، ولجنة أسر السجناء ورعايتهم، وتحت اسم الهلال الأحمر في نابلس دُفعت معاشات شهرية لأسر الشهداء من المدنيّين والعسكريّين من الجيش الأردني، ولأسر السجناء والسياسيّين والأسرى، رغم أن قضية نسف بيوت المقاومين بقيت مثارًا للخلاف الحاد بين رئيس البلدية وسلطة الاحتلال، وتسببت في أول استقالة لكنعان من منصبه، قبل أن يعود عنها بمطالبة شعبية، دفعته لمقارعة دايان في وقت لاحق، لدرجة دفاعه مواجهة عن حق الشعب الواقع تحت الاحتلال في مقاومة محتليه.
وتناول الكتاب الذي يمتد على قرابة السبعمائة صفحة، تفاصيل كثيرة حول كنعان ونابلس في عامين، كان من بينها الحديث المفصل والهام حول "إضراب المدارس" في سبتمبر/ أيلول 1967، واعتقال زليخة الشهابي، والطريق إلى الاستقالة مع تواصل نسف المنازل، ولقاء دايان مع فدوى طوقان بحضور كنعان وابن عمها قدري طوقان، وإضطرابات الطلبة من جديد، وسجن نابلس وأسراه، وانتهاك مدرسة العائشية، وفتح الجسور وقطع أخرى، فيما نشر من أوراق ورقة "بين الحرب والاستقالة: مراسلات، مذكرات، محاضرات"، و"ما بعد أيلول 1970: تجديد القيادة الفلسطينية"، وأوراق من الأراشيف اشتملت على: وثائق من الأراشيف المحلية، ووثائق من الأراشيف الصهيونية بملاحقها، قبل الحديث عن كنعان رئيسًا للبلدية وأبرز إنجازاته حيث المساكن الشعبية، والطريق إلى الماء، قبل احتلال 1967، وصراعات التمثيل وغيرها.
وتحت عنوان "النهاية"، نشر على لسان حمدي كنعان: "يوم غادرت مكتبي بدار البلدية، قلت لأربعة عشر صحافيًا فرنسيًا إنني استقلت لعدّة أسباب يجمعها وعاء اسمه الاحتلال (...) وبعد إعلان استقالتي غادرت المدينة في رحلة للاستجمام مدتها شهرًا قضيتها في لبنان والكويت، عدت وأنا أكثر تصميمًا على عدم الرجوع عن الاستقالة، وفي الأيام التي تلت عودتي، زارتني وفود عديدة من الجمعيات النسائية وعائلات ونقابات العمال، ورجال المخيمات، ووجهاء بعض عائلات المدينة، طالبة رجوعي عن الاستقالة، فأصبح موقفي حرجًا"، لكن الأمر قضي وتم تعيين الحاج معزوز المصري رئيسًا لبلدية نابلس.
كتب كنعان مذكراته في يونيو/ حزيران 1969، أما اشتغاله في المجال العام فسبق ذلك بأعوام، واستمر بعدها لأعوام لاحقة، لكن الحرب وما تلاها من أحداث وصراعات ومواقف، وتراوح نفس كنعان بين الإرهاق والأمل، كانت مدخله للتدوين، فقد كتب في مذكراته ما أراد أن يحفظ به بعض ذكره، مدركًا أن الصمت مساوٍ للنسيان، وهو يدافع فيه عن مواقفه، مدركًا أن الصمت إذن بإسكات حكايته، لكن هذه المذكرات مثلما حفظت بالكتابة الكثير من الواقع والأحداث وسجلت وأبرزت صوت الأهالي وممثليهم في مواجهة المشروع الاستعماري الممتد في يونيو/ حزيران 1967، فقد حفظت أيضًا "الصمت" و"الغياب" لجزء آخر قد لا يقل أهمية عما كتب.