تعرّضت كتابة التاريخ إلى مؤثرات وعوامل كثيرة أسهمت في توجيهها وتشكيلها، وفي استغلالها سياسيًا من طرف تيارات متعددة. وتحولت كتابة التاريخ إلى ساحة صراع بين نزعات أيديولوجية، لجأت إلى الخوض فيها واستثمارها من أجل تحقيق غايات سياسية، ولم تلتفت إلى تاريخ الناس في مجتمعاتهم، كما لم تأخذ في اعتبارها جميع مظاهر وظروف الحياة بمختلف تفاصيلها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
حاول عدد من المؤرخين الانسلاخ من الكتابة التاريخية التقليدية، ودراسة الإنسان والمجتمع بكل أبعادهما، وفي كل محطاتهما التاريخية، دراسة علمية تجريبية وموضوعية، مثلما هي الحال في دراسات علوم أخرى. واختلف الأمر مع بداية القرن العشرين حين نشأت مدرسة مجلة "الحوليات" الفرنسية، التي عمل روادها، وكان أبرزهم لوسيان فيفر، وجاك لوغوف، ومارك بلوك، وفيرناند بروديل، على تغيير تصور المؤرخين، عبر الانتقال من الانشغال بالأحداث إلى البحث في البنيات، ومن كتابة التاريخ السياسي والعسكري، إلى كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى اجتراح مفاهيم تاريخية. والأهم هو دراسة الذهنيات التي تقود نحو دراسة السلوك والتصورات والمشاعر، إلى جانب تناول العادات اليومية والتصرفات والتعبيرات اللاإرادية، وما يتصل بمسائل الموت والعائلة والزواج والجسد والجنس والجسد والصحة وعلاقات القرابة والمصاهرة، وسواها. وتمكنت هذه المدرسة من أن تتكيف معرفيًا مع المتغيرات المعرفية التي شهدتها العلوم الاجتماعية خلال القرن العشرين المنصرم، عبر تمكنها من اجتراح المفاهيم وإعادة صياغتها وتحديدها، والولوج إلى مخارج للأزمات التي عرفتها الكتابة التاريخية، فأنتجت أبحاثًا ودراسات تاريخية مميزة، ووظفت مفاهيم وأدوات من علم الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، وسواها. ويعد كتاب "الاشتغال بالتاريخ: مشكلات جديدة، مقاربات جديدة، موضوعات جديدة" (ترجمة جمال شحيّد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2024)، أحد أهم الأعمال الموسوعية التي تبيّن أهمية أعمال هذه المدرسة، كونه كتابا جماعيا، أشرف عليه مؤرخان مخضرمان في علم التاريخ هما جاك لاغوف، وبيير نورا، ويضم واحدًا وثلاثين بحثًا، قدمها مؤرخون فرنسيون (باستثناء واحد) في علم التأريخ، واستندوا فيها إلى طرق جديدة تركز على التاريخ الجمعي، وتنبذ الخطاب الإقصائي الذي كان سائدًا في كتابات تاريخية سابقة، واعتمدوا على مفردات خطاب كليّاني، إضافة إلى أنهم تناولوا علاقة التأريخ بالعلوم الأخرى، كونه يشكل أحدها، مع تبيان مدى تأثره بها.
الكتاب أشبه بموسوعة علمية تاريخية جديدة في فلسفة التاريخ، يتضمن مقاربات جديدة للتاريخ، وصدر في اللغة الفرنسية في ثلاثة أجزاء متفرقة، أولها "الاشتغال بالتاريخ: مشكلات جديدة"، وثانيها "الاشتغال بالتاريخ: مقاربات جديدة"، وثالثها "الاشتغال بالتاريخ: موضوعات جديدة"، بينما أصدره المركز العربي في مؤلف واحد (896 صفحة). ويضم بين دفتيه أبحاثًا وأطروحات متنوعة، استعرضت أهم التيارات التاريخية، إضافة إلى أهم الشخصيات التي ساهمت أفكارها في إغناء علم التاريخ الحديث، وتبيان مدى تأثير علم التاريخ في المجتمع الفرنسي والمجتمعات الأوروبية.
يرى المشرفان على الكتاب أن الهدف من جمع هذا الكم من البحوث هو إبراز المفاصل القائمة بين طرائق البحث التاريخي الجديد، الذي تشهد اختصاصاته تحولًا عميقًا يمنح البشرية تاريخًا جديدًا، لذلك يرفضان تسمية التاريخ الحديث، لأن تطبيق صفة الحديث على التاريخ تشير تقليديًا إلى حقبة زمنية بعينها، وليس إلى نمط كتابة تاريخية، والبديل لديهما هو تاريخ جديد يطمح الباحثون في هذا الكتاب إلى تقديمه. ويرى جمال شحيد في مقدمته للكتاب أن التاريخ الجديد لكي يتحول إلى علم ترتب عليه التخلص من ثلاثة أصنام، أولها صنم السياسة، لأن اهتمامها بالأزمات السياسية والحروب حجب الرؤية الشمولية للتاريخ، وثانيها صنم الفردية، لأنها بتركيزها على الأفراد تنسى الاهتمام بالمؤسسات والوقائع الاجتماعية، وثالثها صنم الكرونولوجيا، أو التعاقب الزمني، لأنها تنظر إلى التاريخ كأسطوانة لمتابعة الأخبار، وتنسى أن التاريخ يحفل بالصواعد والنوازل، وسواهما.
يحيل عنوان الكتاب إلى كيفية الاشتغال بالتاريخ الذي يحدده ميشيل دو سيرتو، خلال بحثه عن العملية التاريخية، بأنه ممارسة تمكن من الانتقال إلى منظور محكم، والتفكير في سبل تنفتح، والكف عن التشبث بموثق معرفي كشفته سوسيولوجيا التدوين التاريخي. فيما يرى كل من لوغوف، ونورا، أن كتاب الاشتغال بالتاريخ لا يطمح إلى إعطاء فكرة مكتملة عن الإنتاج التاريخي غير المحدود والمتوسع على الدوام، بل تقديم نمط جديد في التأريخ، خاصة وأن العالم يعيش عصر التفجّر التاريخي، حيث لم يعد النص هو الوثيقة الأولى، وباتت مادة المؤرخ تنفتح على النصوص غير المدوّنة، والأثريات، والصور، والتقاليد الشفوية، إضافة إلى الأعراض المتغيرة لدى الإنسان، جسده، وغذاؤه، ولسانه، وتصوراته، وأدواته التقنية والذهنية. ويتطلب كل ذلك إدراك المؤرخِين نسبية عملهم، والالتزام بإعادة تعريف التاريخ بما يخالف ما عرَّفه الوضعيون، أو أنصار التدخل الإلهي. لذلك يرفض التاريخ الجديد أوهام التاريخ الوضعي، ويهتم بصوغ مفاهيم تقوده إلى كتابة تاريخ جديد، حيث تتجلى جدته في التطرق إلى موضوعات جديدة كانت تفلت من سطوته في السابق، لذا ينبغي عليه عدم الرضوخ لاستفزاز علوم إنسانية ذات حدود غائمة، وجذبها إياه، ومحاولة تذويبه فيها، وذلك عندما كان التاريخ يحتل حقولًا، ويفسر المجتمعات عن طريق الزمن. كما يتوجب عليه التخلص من استبداد الحدث وكتابة التاريخ البطيء وشبه الجامد، عبر الغوص في المعيش اليومي والأمور العادية و"الصغيرة".
تتجلى الجِدة التي يسعى إليها باحثو الكتاب في تقديم مشكلات جديدة تضع علامات استفهام على التاريخ، حيث تناول الباحثون العملية التاريخية، ودور العنصر الكمي في التاريخ، وكتابة تاريخ مولد للمفاهيم، والخوض في مسالك التاريخ قبل الكتابة، إلى جانب تناول تاريخ الشعوب التي تفتقر إلى تاريخ، والبحث في مفهوم التثاقف، ثم الانتقال إلى التاريخ الاجتماعي وأيديولوجيات المجتمعات، وإلى التاريخ الماركسي بوصفه تاريخًا قيد البناء، والتوقف عند عودة الحدث. وتطمح المقاربات الجديدة إلى تعديل قطاعات التاريخ التقليديّة وإثرائها، من خلال تقديم بحوث حول علم الآثار، والاقتصاد، والأزمات الاقتصادية، وكيفية تجاوز الأحداث واستشرافها، والبحث في الديموغرافيا، والدين، والأنثروبولوجيا الدينية، والتاريخ الديني، وصولًا إلى تناول الأدب، والفن، والعلوم والسياسية. أما الموضوعات الجديدة، فتظهر في الحقل المعرفي للتاريخ، حيث يكتب باحثو الكتاب عن المناخ، واللاوعي، والأسطورة، والعقليات، واللغة، والشباب، والجسد، والمطبخ، والرأي العام، والأفلام، والأعياد.
لعل من المهم التوقف عند بحث بول فين الذي يتناول فيه التاريخ بوصفه مولدًا للمفاهيم، بالاستناد إلى أعمال ماكس فيبر، حيث يتساءل عن الآفاق المستقبلية المفتوحة أمام التاريخ، ثم يحدّد الإجابة في أن الأفق المفتوح هو توليد للمفاهيم، وأن تعابير التاريخ اللاحدثي، والتاريخ العميق، والتاريخ المقارن، والتاريخ المعمم، والتاريخ المنمط، والسوسيولوجيا التاريخية، وحتى التموضع التاريخي، هي طرائق تدل على عملية توليد المفاهيم، ما يعني أن الجهد التاريخي هو أشبه بالجهد الفلسفي، وبالتالي، فإن التاريخ يشرح أقل مما يوضح، لأنه تحليل وليس مجرد سرد لأحداث، والمفاهيم هي ما يميز الرواية التاريخية، ومن وثائقها الخاصة، فلو كان التاريخ مجرد إحياء للماضي، وليس تحليلًا، لامتنع البشر عن كتابته، ذلك أن الواقع موجود من دون أن يُدرك بوضوح، والمؤرخ يمنحه معادلًا تصوريًا.
يمنح منظور تخليق، أو بالأحرى إبداع المفاهيم، ما يرى فيه فين التاريخ اللاحدثي "معنى صائبًا"، ووفق تصوره للتاريخ اللاحدثي يعارض التاريخ القديم، ذلك الذي كان يهتم بالمعاهدات والمعارك والأزمات، وكان تاريخًا سرديًا يُكتب على مستوى مساوٍ لمستوى المصادر، أي على مستوى نظرة المعاصرين الذين خلقوا هذه المصادر وكونوها عن تاريخهم الخاص، فيما التاريخ اللاحدثي هو تاريخ يدفع إبداع المفاهيم إلى أبعد مما تفعله المصادر، وما كان يفعله المؤرخون السابقون، وينهض بمهمة كتابة التاريخ السياسي والعسكري والاجتماعي بشكل أفضل، لأنه يُكتب بفلسفة سياسية. أما تشكيل المفاهيم التاريخية فيتجسد في صوغ المعادلة التي تشي بأن إبداع المفاهيم والاستنباط هما موقفان فكريان أساسيان، حيث تتجلى قيمة المفهوم بشكل أفضل من قيمة التعريف، ويستدعي تناول جوانب تتعلق بعلم السلوك واللاوعي والجماعات، حيث لا تكشف المسارات السببية للسلوك عن نفسها، لذلك يتوجب إبداع المفاهيم، واستنباط الاستراتيجية الأنسب للكتابة التاريخية. في حين أن الوعي يمثل جزءًا من الظواهر النفسية. أما الأبعاد الجماعية للفرد فتظهر من خلال دراسة العقليات. ومن خلال صوغ المفاهيم ونقدها، يتقدم تحليل العالم التاريخي، ويكتسي التاريخ أهمية، من خلال الحركة الدافعة نحو الاهتمام بالتاريخ الإنساني.
تكمن أهمية الكتاب في سعي الباحثين إلى تقديم معرفة في كيفية صناعة التاريخ الجديد، وتحديده كعلم يهتم بالتحولات والتغيرات في المجتمعات الإنسانية، إضافة إلى معرفة التعامل مع الماضي ووعي الزمن، ووضع تشخيص للتاريخ من صميم الحاضر، وتبيان الدروب التي ينبغي أن يسير فيها التاريخ في المستقبل، وعرض طرق صنع التاريخ وإبداع المفاهيم. كل ذلك يجعل كتاب "الاشتغال بالتاريخ" أشبه بموسوعة علوم تاريخية جديدة في الكتابة التاريخية وفلسفة التاريخ، لذا يصعب في هذه السطور تقديم قراءة كافية، أو عرض لمختلف أبحاثه، بالنظر إلى كثرة مشكلاته وموضوعاته ومقارباته الجديدة للتاريخ، وما يتصل بتقاطعاتها وتشابكاتها من العلوم الإنسانية الأخرى.