منذ الفقرة الأولى في تقديم كتابه الجديد "تحت سماء رمادية: المنفى، الاستشراق، الهوية، إنسان العصر العاري، ما بعد الحداثة، ومقالات أخرى"، يُفصح الناقد فخري صالح عن أبرز القضايا التي يشتغل على طرحها ومعالجتها في كتابه هذا. يكتب "نحن نعيش في زمن الرماد، حيث تتساقط الأحلام، وتشحب الآمال، وتسيطر على البشرية الصراعات، وصعود النزعات الإمبراطورية، والسعي إلى الهيمنة، والتقاتل على الموارد، وتفشّي موجات كراهية الآخر، وتقوقع البشر على هوياتهم الضيقة، وصعود نوع من الخطاب يعزّز التنميطات، وميكانيزمات تصوير الآخرين، المغايرين لنا في اللون، أو العرق، أو الجنس، أو الثقافة".
يعرض الناقد ويناقش القضايا الراهنة الأبرز في هذا الزمن، وتحت هذه السماء. ورغم كثرة العناوين، وما يبدو وكأنه "تناثر" أو "شتات" في المقالات التي تُعدّ بالعشرات، إلّا أننا إزاء قراءات منهجية توحّد الموضوعات جميعًا، وتحليلات معمّقة لكلّ ما يجري عرضه، خصوصًا ما يتعلق بالعناوين العريضة التي تبرز في عنوان الكتاب. ومن أبرز سمات كتابة فخري صالح هنا الجمع بين ما هو نظري في تعريف المفاهيم، وما هو تطبيقي ــ عمليّ، وبقدر من التوسّع والتعمّق، يعود بنا قرونًا للوراء، فضلًا عن غزارة مصادره ومراجعه وتنوّعها، ما يجعلنا نختار بضع محاور للتمثيل على أسلوب المؤلف في التناول، وسنُجمل ونختزل حيث يصعب التوسّع والتفصيل.
ورغم عدم وجود محور أساسيّ تدور حوله مقالات الكتاب، التي كُتب بعضها - كما يقول المؤلف ــ قبل ما يزيد على ربع قرن، فيما كتب بعضها الآخر خلال السنتين، أو الثلاث الأخيرة، فهي تنشغل بقضايا يستطيع القارئ أن يجد روابط بينها، رغم اختلاف العناوين. فمن السهولة بمكان أن تجد روابط بين الاستشراق والمنفى والهوية والحداثة وما بعدها ودور المثقف وعلاقته بالسلطة وبالمجتمع أيضًا، وغير ذلك من القضايا الفكرية والثقافية والسياسية وحتى الاقتصادية التي تشغل إنسان العصر، خصوصًا في زمن "العولمة" وسرعة التحوّلات، الذي بات العالم فيه قرية يستطيع الإنسان أن يجوبها وهو أمام شاشة. فالرابط الأساس بين حلقات الكتاب ومقالاته هو الدعوة إلى القيم والأخلاق الإنسانية، والتسامح بين بني البشر.
المنفى المختلف
في فصل المنفى، يستعين فخري صالح بكثير من التعريفات لمفكرين ومبدعين عالميين لهذا المفهوم، وأكثر ما يميل إلى إدوارد سعيد، خصوصًا في سيرته "خارج المكان"، و"تأمّلات في المنفى" وأيضًا كتابه "بعد السماء الأخيرة"، حيث يستعيد سعيد وضعيَّته كمنفيٍّ، بالمعنيين السياسي والثقافي، ويشرح لقارئه كيف أصبح هو وعائلته منفيين من الوطن. وحتى في كتابه "تمثيلات المثقف"، يصف سعيد المنفى بأنه "من أكثر المصائر إثارةً للحزن".
ويعرض صورًا وأشكالًا من المنفى: "المنفى المجازيَّ" في مقابل المنفى الجسدي، أو الجغرافي، أو الابتعاد القسري عن الوطن. ويصف فخري منفى سعيد الشخصي بأنه "ذو طبيعة مجازية، فهو اختار منفاه بصورة جزئية؛ اختار مكانًا ليعيش فيه، كما اختار الثقافة التي انتمى إليها، واختار أن يكون مقتلعًا جغرافيًّا". وبخصوص علاقة المنفى بالأدب عمومًا، وبالأدب الفلسطيني خصوصًا، يرتكز صالح على رؤى اثنين من كبار المبدعين الفلسطينيين؛ إدوارد سعيد، ومحمود درويش، عادًا أنهما نمطان ــ ولو مختلفان ــ في تمثيل المنفيّ، وأن من الممكن أن يكون الأدب الفلسطيني "من بين أكثر الآداب العالمية التي تكوَّنت وتطورت داخل بوتقة المنفى، وعلى حوافه". ويضيف أنه "لا يمكن النظر إلى الأدب الفلسطيني إلا بوصفه أدبَ منفى واغتراب، ومحاولة للحفاظ على الهوية المهددة". ويستعير من درويش مقطعًا من قصيدته "عاشق من فلسطين" يقول محمود درويش الذي يمكن النظر إلى مجموع شعره بوصفه مجازًا للمنفى:
ولكني أنا المنفيُّ خلف السور والباب
خذيني تحت عينيك
خذيني، أينما كنت
خذيني، كيفما كنت
أردُّ إليَّ لون الوجه والبدن
وضوء القلب والعين
وملح الخبز واللحن
وطعم الأرض والوطن...
الاستشراق والاستغراب
يخصص فخري صالح للاستشراق ثلاث مقالات من الكتاب، تتناوله من جوانب مختلفة، فيبدأ بسؤال "عودة الاستشراق أم استمرار حضوره؟"، ثم يتناول موضوع "الاستغراب في مواجهة الاستشراق"، وما دمنا في مجال الاستشراق، فإنه يختم بمقالة عن إدوارد سعيد؛ حياته ومصادره الفكرية والفلسفية والنقدية، سعيد الذي خصص له فخري كثيرًا من الكتابات، خصوصًا كتابه "دفاعًا عن إدوارد سعيد". وهو يرى أنه رغم أن "الاستشراق، كحقلٍ معرفيٍّ وتصوُّريٍّ للشرق، وشكلٍ من أشكال تمثيله، قد تلقى ضربة شبه قاضية عندما نشر إدوارد سعيد كتابه الشهير "الاستشراق" (1978)، إلا أنه ما يزال يعيش بين ظهرانينا، ويمارس تأثيره في حقول متعددة من الدراسات التي تُكتب حول الشرق، بعامة، والعالمين العربي والإسلامي، بخاصة...".
ويلفت صالح إلى أن من أخطر ما تغير في الاستشراق هو غياب المستشرق ــ العلامة، أمثال كارل بروكلمان (1868 ــ 1956)، ولويس ماسينيون (1883 ــ 1962)، وإغناتس غولدتسيهر (1850 ــ 1921)، وظهور مدّعين (مثل صمويل هنتنغتون)، وعلماء اجتماع، وصحافيين، لا يعرفون شيئًا من لغات الشرق وثقافاته. بل إنهم يستمدون معرفتهم من مصادر ثانوية؛ من الصحف والتقارير الإخبارية، والاحتكاك بأبناء العالمين العربي والإسلامي عبر الرحلة (كما فعل الكاتب البريطاني ــ الترينيدادي ف. س. نايبول (1932 ــ 2018). وهكذا يقوم بتشريح ماضي الاستشراق وحاضره.
وربما يكون الأهم هنا أن يتوصل صالح إلى ربط الاستشراق بالصهيونية وإسرائيل، ففلسطين حاضرة في نقاشات صالح كلّها، وخصوصًا هنا، حيث يسود خطاب الاستشراق الجديد في أوساط المحافظين الجدد ومؤيدي إسرائيل في الغرب. وكما يقول سليم كربوعة، الذي يستعيره صالح، فإن هذا الخطاب قد اشتد عوده وأصبح أكثر قوة، بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. حيث يعرِّف كربوعة الاستشراق الجديد في القرن الحادي والعشرين بأنه: "مجموعة من المعارف والأخبار والتحليلات، والتعليقات على الشؤون المعاصرة، التي تنتجها مجموعة واسعة من المثقفين، والخبراء، وصُنَّاع الرأي، وبدرجة أقل السياسيين، وتقوم بنشرها في الأوساط الغربية العامة التي تقيم علاقات خاصة ومؤثرة مع إسرائيل والصهيونية. وهو، بهذا المعنى، ذو دوافع أيديولوجية". هذا فضلًا عن خلاصة يرى فيها أن الاستشراق في عهد ترامب "يتحدث بلغة الصفقات، بل وأكثر من ذلك، بلغة القوة والقمع"... بل إنه "استشراق في أزمة، لا يسعى إلى المعرفة، بل إلى الانتقام؛ إنه قاسٍ وشرير تحركه الكراهية".
وتحت عنوان "الاستغراب في مواجهة الاستشراق"، يرى أن اقتراح علم للاستغراب، كمقابل للاستشراق، كما يظهر في مشروع حسن حنفي في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب" يبدو اقتراحًا مسكونًا بهاجس تقديم مشروع نظري للرد على التصورات الاستشراقية عن العرب والمسلمين. وفي إزاء تعريف حنفي لـ"الاستغراب" بأنه "الوجه الآخر، والمقابل، بل والنقيض من "الاستشراق"... فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب)، فإن "علم الاستغراب" يهدف إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص ومركب العظمة عند الآخر"... يردّ صالح بأنّ هذا التعريف يضمر "ردَّ فعل عصبيًّا تجاه النظرة الاستشراقية، ومن ثمَّ، محاولة تأسيس ’علم’ يفتقر إلى المصداقية والموضوعية، بدعوته إلى مواجهة الآخر بأدواته نفسها؟ إنه يسعى إلى تشكيل معرفة نمطية بالآخر، كالاستشراق".
أما في ما يتعلق بحياة إدوارد سعيد ومصادره الفكرية والفلسفية والنقدية، فيؤكد فخري أن منجز سعيد لم ينَل من الدراسة الموضوعية، التي لا تنحاز معه أو ضده، ما يستحقه، ويضيء جوانب عمله التي تغطي حقولًا معرفية متصلة ومتشابكة. وأن كثيرًا من الأفكار المحورية، اللامعة والعميقة، التي شغلته طويلًا، وعاد إليها كثيرًا في كتبه ومقالاته، بقيت محجوبةً في غمار العواصف الكلامية التي دارت حول كتاب "الاستشراق"، أو حول مواقفه السياسية، كفلسطيني ينافح عن القضية الفلسطينية في الإعلام الغربي عمومًا، والأميركي خصوصًا.
الأسس النظرية لما بعد الحداثة
يناقش فخري جذور ما بعد الحداثة، وصولًا إلى النسخة الأخيرة من نسخ ما بعد الحداثة، التي يجري فيها إهمال مفهوم الحقيقة، والنتائج المترتبة على هذا المفهوم. وفي هذا السياق من التفكير ما بعد الحداثي، يحل مفهوم خرق الإجماع محل مفهوم الإجماع، وتقوم المقاربة الجمالية للعالم بتحريرنا من عنف المفهومات الكلية ("منطق الشبيه" الحداثي في مقابل "منطق المختلف" ما بعد الحداثي). كما أن معرفة الجذور المعرفية لمشروع ما بعد الحداثة؛ تعود إلى فكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي ينتقد الديكارتية بوصفها المنهجية المؤسسة للحداثة، ويرى أنها أنتجت عنفَ الغرب كلَّه.
ولأن ما بعد الحداثة تدعو إلى نسبيَّة النظر إلى الأشياء والعالم، ومع أن فخري يؤمن بمفهوم "نسبية الحقيقة"، فإن المقلق في إشاعة هذا المفهوم هو النتائج المترتبة على إسقاط مفهوم "الحقيقة"، وهي نتائج قد تكون كارثيَّة على علاقة المثقف بالمجتمع، واندراجه في صراعاته، بحيث ينسحب المثقف من الصراع، وينظر إلى كل ما يحدث من حروب وصراعات ومظالم بوصفها مجرد "ألعاب لغة". فغياب مفاهيم كبرى، مثل الحقيقة، والعدالة، والمساواة، وغيرها من مفاهيم التنوير التي تنتقدها بعض تيارات ما بعد الحداثة، يؤدي إلى عدميَّة شاملة؛ إلى انسحاب المثقف، والفيلسوف، من المشهد، وتحوله إلى مجرّد شاهد، ومراقب خامل لما تقع عليه عيناه من المظالم التي ترتكب في عالمنا المعاصر... هنا بالضبط يكمن مقتل فلسفة ما بعد الحداثة.
وحول الحداثة وما بعدها، ومن خلال التعريفات التي يقدمها بعض المنظرين، وكونها تعني تجاور المتناقضات؛ فالشعبي يوجد جنبًا إلى جنب مع النخبوي، وما هو "رفيعٌ" في الثقافة يجاور السلع الثقافية والفنية الموجهة للمتعة والاستهلاك السريع، ومن وجهة النظر السابقة، يبدو العالم العربي، كما يرى فخري، بتشكيلاته المجتمعية المختلفة، مجتمعًا ما بعد حداثي... المجتمعات العربية هي ما بعد حداثية، بمعنى من المعاني. لكن تجليات ما بعد الحداثة تظهر في الآداب والفنون، أكثر من ظهورها في السياسة والاجتماع والاقتصاد. فسمات النص ما بعد الحداثي، الأدبي، أو الفني التشكيلي، أو المسرحي، أو الغنائي، أو الموسيقي، أو السينمائي، تظهر في كثير من الأعمال التي ينتجها كتاب وفنانون عرب، تأثُّرًا بالظاهرة ما بعد الحداثية، وتصوراتها الفلسفية، والثقافية، والفنية.
قضيّة ونبوءة
ونتجاوز عن قضايا كثيرة، وشخصيّات فكرية وسياسية وثقافية يتناولها بأسلوبه الخاص، أمثال (ف. س. نايبول: المسحور بالإمبراطورية وكاره العالم الثالث، كريستوفر هيتشينز: من اليسار البريطاني إلى المحافظين الجدد، سوزان سونتاغ تتأمل الحرب عبر الصور، وسواهم)، نتجاوز قضايا العصر وهمومه التكنولوجية، والمثقفين وأدوارهم ومواقفهم، لنتوقف أخيرًا مع قضية تخصّ فلسطين وصراعها مع الكيان الصهيونيّ، وتاريخ هذا الصراع، من جوانب عدّة، من أبرزها ظاهرة المؤرخين الإسرائيليين الجدد، فهي ظاهرة تنتمي، داخل إسرائيل وخارجها، إلى تيار في "نقد الصهيونية" يستمد مشروعيته من إعادة قراءة الوثائق المفرج عنها من قبل سلطات الاحتلال، ويعود تاريخ بعضها إلى زمن الانتداب البريطاني لفلسطين، أو إلى السنوات الأولى من قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين.
ينظر فخري صالح إلى دراسة الباحث الإسرائيلي بيني موريس "نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947 ــ 1948"، التي أصدرها عام 1988، بوصفها البداية الفعلية لتيار "المؤرخين الجدد"، إذ أثارت دراسته كثيرًا من الضجيج والاحتجاج في أوساط المؤسستين السياسية والأكاديمية الإسرائيليتين، بسبب تفكيكها أسطورةَ الرواية الرسمية الإسرائيلية حول موضوع اللاجئين الفلسطينيين، ومساهمة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في طرد أعداد ضخمة منهم، وأن عمليات الطرد بالقوة لم تتوقف حتى عام 1950. ورغم ما تتسم به دراسات هؤلاء المؤرخين من "موضوعية"، إلا أنّ علينا أن لا نفهم من حركة "نقد الصهيونية" أن الباحثين الذين يقومون بها يتطابقون في رؤيتهم للصراع العربي ــ الصهيوني مع الرؤية الفلسطينية والعربية.
ونختم بالوقوف على نبوءة الروائي الإسرائيلي عاموس كينان حول مستقبل دولة الكيان الصهيوني، كما تظهر في روايته "الطريق إلى عين حارود" (1984)، إذ يرى فيها فخري صالح نبوءة أطلقها كينان بخصوص إسرائيل استبدادية، معادية للديمقراطية، لكل من يعترض على تطرفها القومي الديني من اليهود... ففي "الطريق إلى عين حارود"، التي "تدشن بقوة تيار ’الرواية الديستوبية’ الإسرائيلية"، كما يرى مترجم الرواية الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت، يتنبأ عاموس كينان بمستقبل الدولة العبرية، التي ادّعت أنها بُنيت على حلم طوباوي استمدته من فكر الآباء الصهيونيين الأوائل، مفترضة خلوّ فلسطين من السكان، وانتظار الأرض لأبنائها العائدين بعد ألفين وخمسمئة عام من النفي القسريّ!.