الجائزة واكتشاف الشعر
يفضّل أحمد الملا لقب شاعر من بين الألقاب الأخرى، فهو كاتب مسرح أيضًا وممثل ومنشّط ثقافي أدار مهرجاني الأفلام والشعر وغيرها من الفعاليات منذ بدأ العمل في جمعية الثقافة والفنون في الدمّام وقبلها في جمعية الثقافة والأدب. ويبدو أن تفضيله للقب مماثل يمثّل لحظة اكتشافه شعريته: "كنت، فترة من حياتي، لا أدّعي أني شاعر، ليس من التواضع وإن كان يتلبس مظهره، بل كان على سبيل إبقاء منفذ موارب للتملّص من حمله، حتى وقفت يومًا مفردًا بين النخيل، ولم أجد مواسيًا سوى الكلمات، وصرخت بلا صوت أني شاعر حتى لو لم يعرف أحد".
اقرأ أيضاً: الشعر السعودي محل للشجاعة والفتنة
إلا أن حصوله مؤخرًا على جائزة محمّد الثبيتي، فتح الباب أمام ما تعنيه جائزة بالنسبة إلى شاعر: "شخصيًا لست معنيًا بالجوائز، بل كنت وما زلت أعتبرها طرفة عابرة، فلم أستطع يومًا تخيّل الصرامة العلمية والإجراءات الميكانيكية التي تستلزمها معايير الجوائز مع سيولة الشعر، أي ميزان وأي مسطرة يمكنها قياس الشعر في مضمار المنافسة، مما يجعلني أشفق كثيرًا على أعضاء لجان تحكيم الشعر والفنون عمومًا. هكذا كنت ولا أزال. لكني تسلمت جائزة الثبيتي مبتكرًا رؤية زوايا مختلفة، أولها محمّد الثبيتي الشاعر الملهم والصديق، ثانيًا: أن الجائزة وصلتني بعد منح نسختها الأولى لقيمة ثقافية مهمة؛ الشاعر علي الدميني، ثالثًا أنها التفاتة المؤسسة الثقافية الأولى إلى تجربة قصيدة النثر، وهذا أمر سيفهم معانيه المطّلع على المشهد الثقافي في السعودية".
ولا شك في أن تجربة الملا حملت تغييرًا منذ أوّل نصّ "انعتاق داخلي" حتى مجموعته الأخيرة "علامة فارقة"، ومرّت بمنعرجات واختيارات متنوعة، دفعت النقّاد إلى عدّها تجربة مجددة في الشعر السعودي. يصف الملا تجربته: "قبل 1987 كنت أكتب نصًا موزونًا، وقبل كتابتي لقصيدة النثر توقفت عن الكتابة بضع سنوات، كنت فيها مشحونًا بقناعة حماسية للشكل الجديد، لكن آليات الكتابة لم تتزحزح بعد من خندقها الأول. منذ مجموعتي الأولى "ظل يتقصف" (1995)، كان حرصي الشديد على تجاوز ما أكتب، ألا أصدر كتابًا لا يتمايز عما قبله. كنت أنطلق من قراءة كل شيء من حولي بقبول وشغف، مقابل التدقيق الأشد في ما أكتبه، وعدم تربية الرضا عنه، حتى "علامة فارقة". كنت في خضم ساحة شعرية يتصارع فيها المحافظ المهيمن مع الجديد المشكوك في أمره، فترة الثمانينيات الفارطة، وكان لتصدّي أصحاب تجربة "الشعر الحر" أو قصيدة التفعيلة في السعودية للهجمة الشرسة على "الحداثة"، الأثر الكبير لكي تتحرك تجربة وليدة لقصيدة النثر بعيدًا من اليقينيات والبطولات، مما أتاح لغالبية شعراء قصيدة النثر حرية الحركة بمعزل عن المعارك الصائتة بامتياز، بالطبع هناك تجارب رائدة في السبق تمثلها فوزية أبوخالد، ومحمد عبيد الحربي وغيرهما، لكن جيلي زاخر بالأسماء والتفرد في التجارب".
اقرأ أيضاً: سحرٌ من شبه الجزيرة
أثر الأحساء في قصيدته
مكان الولادة بمثابة البئر الأولى لكل شاعر، كذا بدت الأحساء حاضرة في قصائد الملا، يقول: "في حال يتفق القياس على الزمان والمكان، فإني أقدّم المكان على كل شيء، ومن خلاله تتم الحياة. والأحساء بالنسبة لي مركز الكون، منها أنطلق وإليها أعود، طفولتي شكلت هناك طينتي الأولى. تمر الأماكن بعدها مثل أطياف ولولا تمثالها الصلب لتزعزع وجودي وتقاذفتني جاذبيات الأماكن الأخرى. الأحساء في نصوصي جميعها، حتى في تلك التي لا تشير علاماتها لأي صلة بها، فعادة أقيس بالأحساء مدى بعدي عنها في اللغة والمجاز". ويبدو أن تفضيل الملا للقب الشاعر يتقاطع إلى حدّ كبير مع البيئة السائدة في المكان :"جئت من ذاكرة ترى الشعر سيدًا، ومثل غيري بدأت به، كثيرون لم يلبوا النداء كما يبتغي الشعر، أو رضخوا له ربما فانقطعت بهم السبل. في رأيي الشعر للجميع، لم يعد الشعر مفخرة أو ذاك "الفحل" التقليدي، في كل منا شاعر، من يغفل عنه لحظة فلن يراه ثانية، وأنا منتبه له بحذر. لست ممن ينظر إلى الشعر برومانسية الظاهر، ولا بنزق عدمي منفلت، ربيت ذائقتي على حبّ الحياة فهذبني حتى رأيت أخطائي بلا ندم".
الشعر في ظلّ ثورة الاتصالات
يدافع الملا عن الشعر رغم ثورة الاتصالات المعولمة التي أتاحت لكل شخص قول شذرة باللغة أو بالصورة، ولا يجد في الأمر تهديدًا :"اللغة هي ذروة أداة التفكير، حتى لو تمت صياغتها بصريًا، أن تقول وتعبر، والشعر سلاح من لا سلاح له، لولا الشعر لانهار العالم وانقرض البشر منذ قرون، به تتخفف وطأة البشاعة، ولسببه يبطئ الكائن من سعيه السريع نحو الانتحار، نعم الشعر ليس مجازًا. ووسائل الاتصال تتيح للجميع التعبير عن ذاته بما يشاء كما يشاء. أشهد الحال الذي يتيح لكل شخص أن يكتب وينشر كل ما يشعر به مباشرة دونما وجل أو خوف، أشهد القفز على السياج الذي فرضته فكرة الحظوة الشعرية لقلة منتشية بذاتها، أشهد تهدم السياج الوهم، وأضحك على صياح من يظن أن مكانة الشعر انتهكت، وكم أتشفى بأن الصورة المتخيلة للشاعر تتحطم بقوة، وفي طريقها الى زوال، وسعادتي إنما تكمن هنا أن الشعر لن تحتكره فئة تمايز به نفسها عن الناس". يرفض الملا مقولتين؛ موت الشعر، وموت جمهور الشعر، إذ يجدهما تنطلقان "من نسق تفكير واحد وإن ظهر التضاد بينهما، فكرة "الشاعر الفحل" ذي المكانة والسلطة والتميز عن غيره. ومن هنا تأتي قصيدة النثر لتدمر هذه الفكرة ونسقها، الشعر متاح وليس فيه خصوصية تؤتيها قوى خارقة لذي حظوة. المسألة أبسط من ذلك، الشعر في كل شيء وكل حي هو بالضرورة شاعر، من أتقن عمله وأجاد ما يفعل سينتبه له". والشعر في ظن الملا "هو ما يخفف جهامة العالم. وفي هذه الآونة، الشاعر من يسخر من الشاعر فيه".
توحي إجابات الملا لـ ملحق الثقافة بإن قصيدته منبتّة ولا آباء لها، إلا أن الملا يعترض: "لا يوجد في الكتابة من هو بلا منبت عن سابقيه، حتى لو لم يقرأهم مباشرة، كل شعراء العالم تسلّلت ظلالهم خفية إلى ليلي. ربما لم أرهم صراحة، لكنهم تحدثوا معي عبر اللغة".
الشعر السعودي راهنًا
تجربة الملا وجائزة محمّد الثبيتي تصوّران جزءًا من مشهد الشعر السعودي اليوم. مشهد تتجاور فيه الأشكال والتجارب المختلفة، ويفصح الملا عمّا وراء تلك الصورة المتنوعة من واقع : "التجربة الشعرية الفاعلة اليوم في ساحتنا الثقافية، هي نتاج مرحلة الحراك الثقافي منذ الثمانينيات وما بعدها، حين تقاسمها الأضداد، طرف محافظ يقيني مرتهن لأجوبة تامة ومستقرة، وطرف مجدد يشك حتى في نفسه، كان الصراع في ساحة اللغة وسنامها الشعر، ومنها تحدرت تجارب شعرية مختلفة على عدد الشعراء أنفسهم. في السعودية لم يكن هناك حالة جامعة، كل تجربة هي جزيرة معزولة عن جارتها، ساهم في ذلك العزل، السعة الجغرافية للمكان، وانعدام التواصل، إضافة لسيطرة شبه تامة على الفعل الثقافي البسيط من الطرف التقليدي. لم يكن في مناهج التعليم ما يشير إلى انقطاع عن الماضي والسلف، لذا فإن تجارب الشعر في السعودية من بعد الثمانينيات أسست نفسها بمجهودات ذاتية، حتى بدأ عصر الاتصال في نهاية التسعينيات. أستطيع القول بأن التجارب الشعرية الفاعلة الآن سواء المعروفة إعلاميًا أو تلك التي تعمل على منجزها في عزلة تامة، أنها محل تقدير عربي وتمتاز بسمتها التي لا تدل على سواها. بالطبع أرى أن تجاور التجارب الشعرية - التقليدي، التفعيلي، قصيدة النثر- تتحرك كل منها بمعزل عن الأخرى وكأن كلا منها هي الفاعل الوحيد. من تجربة قصيدة النثر، أستطيع مطمئنًا الإشارة إلى تجارب منجزة؛ حمد الفقيه، وإبراهيم الحسين، ومحمد الحرز، وعلي العمري، وعبد الله السفر، ومحمد الدميني، زياد السالم وآخرين. كما أن جيل الشباب يتقدم بسرعة الراهن؛ صالح زمانان، وعبد الله المحسن، وعلي سباع، ونور البواردي، وهدى المبارك وغيرهم".
إلا أن التشابه الرائج في الشعر العربي اليوم عامّة، لا تدانيه أوهام لدى الملا، الذي علّق: "يصمد حكم القيمة على الساكن والمستقر، وأتصور أن الاختلاف يمكن النظر إليه بين تجربة شعرية وغيرها وليس الاختلاف الجغرافي. ربما يكون السياق الثقافي الذي تنشأ فيه أي تجربة في السعودية، يعكس ملامح عامة وليست دقيقة؛ مثل المرجعية اللغوية ذات الإرث البعيد، إضافة إلى التخفف الكبير من تأثيرات السابقين، لكن هل لهذه السمات أن تصمد طويلًا، في ظل حراك متصاعد الإيقاع؟".