تحدث الغافري عن طفولته التي يحاول اكتشافها من خلال القصيدة، هو يرى أن الشفافية ليست إمكانية مطروحة على الصعيد الشخصي، بل مطروحة في النص، علاقة الشعر بالنص تحديداً، هذا جزء من العالم الذي يحاول استكشافه والاقتراب منه.
الألم في القصيدة، أم خارجها؟
عكس شعراء آخرين، لا يجد الغافري ضرورة وجود ألم شخصي كي ينعكس في القصيدة، رغم وضوحه في معظم أعماله، "نحن محكومون بموضوع الألم، ولكن نيتشه مثلاً محكوم بالفرح والمرح. فكرة الشاعر خارج الإطار بالمطلق هي شخصية سعيدة، وليس العكس. وما نعيشه نحن، هي فكرة الشاعر، وهذا ما نعيشه في العالم العربي، وحتى في العالم العربي القديم، كان هناك فرح هناك هجرات. الإنسان حتى عندما يغادر من مكان ما، يشعر بالعشق وبالمحبة. هذا جزء من الفرح وليس الألم. الألم هو الأثر المتبقي فقط. لم نعرف المأساة إلا في العصر الحديث، لذلك لم نعرف المسرح لأنه يرتبط بتجارب مختلفة. نحن الآن بالعالم العربي المعاصر نعيش المأساة".
كما يؤكد الغافري "أن شعراء أوروبا وآخرين في العالم غير العربي، هم أقل ألماً في قصائدهم. حيث يرى أن موضوع الألم، موضوع شخصي. الجرح موضوع شخصي. الموت موضوع عام، ولكنه شخصي أيضاً".
اقرأ أيضًا: وديع سعادة، قراء الشعر ينقرضون يومًا بعد يوم
حالتنا المتردية
في معرض رده عن سؤالي حول التغيرات في العالم العربي، مثل الحروب وهل تتحول إلى موضوع شخصي؟ أجاب بالنفي وقال: "هنا يتحول هذا الموضوع المأساوي الذي تحدثت عنه قبل قليل، لأن هذا يحدث في العالم العربي المعاصر الآن، يومياً، لكن لا وجود لفهم موضوع واحد هو الفرد "الفردية"، لأن الجرح في العالم العربي أشبه بالميتافيزيقيا. الجرح في الحقيقة هو جرح الداخل عند الإنسان العربي ككل. فعندما يُضرب الإنسان العربي من الداخل يصبح هشاً، والعالم العربي غير قادر على إدراك ذلك، فنحن نقتل جماعة وليس فرادى".
حديث الغافري دفعه للتأكيد مرة أخرى على أن الحالة العربية المتردية أخّرت في ظهور الفنون الإنسانية، كالمسرح والشعر: "هناك تخلف، وعودة للوراء وللخلف، بسبب مهم؛ لأن المسرح والسينما والفنون التشكيلية، لا يمكن أن تزدهر إلا في أجواء رحبة وفضاء منفتح ديمقراطي".
وفي الحديث عن المأساة التي تولد إبداعاً مثل تجربة آرثور رامبو وشارل بودلير ومحمود درويش وآخرين مروا بتجارب إمّا على الصعيد الشخصي أو الوطني، لكنهم تركوا إرثاً فنياً عظيماً، يشير الغافري إلى أن هذه الأسماء كانت في فترة قريبة جداً في حياته وما زالت في وعيه، ويضيف : "صعّدت التجربة الفردية بما يسمى بالمأساة الإنسانية، فمثلاً محمود درويش، تجربته كانت ملحمة إنسانية حول فلسطين، موضوعه بالقضية الأولى، وينطبق الأمر نفسه على بابلو نيرودا، فقد عمل في إطار أن تصبح القضية تتعلق بالبعد الإنساني. فكلّما ذهبت بالبعد الإنساني، كلّما اكتشفت الحقيقة التي تصبح مثل الجوهرة التي يبحث عنها الإنسان".
اقرأ أيضًا: عبد الكريم الطبال، قتل الأب هو قتل للتاريخ وللإبداع
الغياب والاغتراب
لا تخلو قصائد الغافري من ثيمات الغياب والتنقل والاغتراب التي تكاد تكون شبه ثابتة في نصوصه، وكأنها تبدو نتيجة حتمية مؤثرة فيه بسبب حياة المهجر التي عاشها، لكن لو افترضنا بأنه لم يمر بتلك التجربة أي بالاغتراب، فما هي الثيمات التي كانت ستظهر في قصائده، يجيب: "سؤال مهم، أنا ابن ألم مبكر في عُمان. فمفهوم الغياب اكتشفته لاحقاً. اكتشفت مفهوم الموت أولاً، وهذا بعد شخصي. لكن مفهوم الغياب، مفهوم مختلف تماماً عن الموت، لأنني اكتشفت أن الموت أسهل بكثير من الغياب، وأقل ألماً منه. الغياب فكرة قد تكون في الشعر العربي، بما في ذلك الشعراء القدامى، فكرة الأثر الذي يُمحى. فالغياب هو المحو الكامل لمفهوم الكتابة، فهي الحاضرة والغائبة في الوقت نفسه. هذه مسألة بمنتهى الخطورة. وأنا عشت هذه التجربة بشكل قوي جداً. كنا نكتب في مرحلة الطفولة على أكتاف الجمال بـ"المحبر" ثم يمسح ما كتبت، لتكتشف أن الكتابة غائبة".
يقول الغافري الذي تحتمل قصائده دلالات تقود إلى تعلقه بجذوره، وببيئته المتنوعة، رغم الرحلة الطويلة جداً خارج وطنه: "معنى الحنين في قصائدي مختلف، فأنا لدي ارتباط كبير جداً بالأرض والشجرة والنبع والساقية. هي جزء من حياتي ومن طفولتي. لكن في الوقت نفسه، الحنين ليس بالضرورة عودة إلى الطفولة أو إلى أمكنة عشتها سابقاً وفي ما مضى. عندي حنين للبحث عن أمكنة أخرى، أريد أن أعيش فيها طفولتي، أي أمكنة حالمة. ولا يزال هذا الحنين للأمكنة التي لم أعشها قائماً. هذا جدل، لأن مفهوم الحنين يسترجع ليس فقط العودة للماضي، لأنني عادة أسترجع انزياحات لمناطق مستقبلية وأمكنة لم أعشها أو لم أعش فيها، أو مدن أو قرى أو شجرة لم أرها في حياتي وأريد أن أستظلّ تحتها، ذلك هو الحنين بالنسبة لي. لن أذهب إلى الماضي صوب شيء عشته سابقاً. فأنا أعيش تجربة الحياة التي لا تأخذك دائماً للماضي. فكرة الماضي ينبغي أن نتخلص منها إلا في إطار قيم حقيقية. فأنا نادراً ما أذهب الى قريتي حتى لا أتذكر الماضي".
مقاومة الخراب
قصائدك تبحث عن الجمال والوضوح رغم بشاعة الحاضر ودموية المشهد المخيم على المنطقة، كأنها نوع من مقاومة الخراب، يقول: "نعم، سأظل أقاوم هذا الخراب في روح الجمال والشفافية والقدرة على محبة الآخر والاختلاف أيضاً، بمعنى أن مفهوم الاختلاف على الصعيد الإيديولوجي هو روح الانسان. أي الاشتباك مع الجمال ومع الأفق الحالم ومع المحبة خارج إطار أي تعصب أو خارج أي إطار مغلق".
يؤكد الغافري أن لا مهمة للشعر، بل الشاعر هو من لديه المهمة. فالشعر لم يقدم سوى تجربة واحدة، الشعر هو الكلام الخفي القادر على أن يعيد صياغة الإنسان بشكل كامل، ويضيف: "ما حدث في الشعر العربي، أي عند عصر ما قبل الإسلام، عندما كان ينتقل الشاعر من مكان لآخر، هي تلك الصياغة التي تصوغ الإنسان. فالعالم المفترض قد يكون هو الشعر وهذا صحيح، ضد مفهوم الشاعر. هناك مقولة شهيرة لأفلاطون "الشعر هو إعادة صياغة الإنسان في إطار الشفافية". عندما أتكلم عن الشعر فأنا أتكلم عن معرفة، فالشعر العربي لديه محطات، أما الشعر الأوروبي فتجد فيه نوعاً من التشابك بين المعرفة والشعر. هذا كان موجوداً في الشعر الجاهلي، إلا أن تدخّل الإيديولوجيا سواء أكانت دينية أم سياسية، دفع بالشعر خارج الإطار".
النقد
وفي الرؤية النقدية لقصائده، يرى النقاد بأنها تتميز بالتكثيف حد التقشف، فهل يتعمد الغافري ذلك؟ هل تتعبه الكتابة ويقلقه الشعر؟ يقول: "الشعر متعب وموضوع التقشف، يعني الاشتغال على اللغة بالتكثيف، حتى حذف الزيادات الكثيرة، ينبغي أن تقول ما تريد أن تقوله. هذه المسألة على الصعيد الشعري، استفدت منها بالسرد. أنا غير قادر على الإنشاء، البيت قد يسقط بأي لحظة ولكن المسكن قد يكون فراغك الذي لا يسقط".
حديث الغافري قادنا إلى قصيدة النثر المتعلقة بالتكثيف وبناء الفكرة، فكيف يراها؟ يقول: "قصيدة النثر العربية قادمة ولكن هناك إشكالات، من ضمنها وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة ومن ضمن الإشكالات أيضاً عدم معرفة الشاعر الشاب الحديث لتجربة السابقين. ولكن أظن أن قصيدة النثر ستتألق. وإذا وضعنا قصيدة النثر في إطار محدود تصبح ضيقة. لذا يجب أن تفتح لها الأجنحة لتحلق. عندما تصبح الكتابة أكثر انفتاحاً وخفة ورشاقة، فتحلق".
مرة أخرى يأخذنا كلام الغافري إلى طرح سؤال عن طقس الكتابة لديه ليجيب: "عندما كنت في نيويورك كتبت نصاً من خمسين أو ستين صفحة في جلسة واحدة. لا يوجد طقس للكتابة. فالطقوس فكرة لا علاقة لها بموضوع الكتابة. الحياة هي التي تحرض على الكتابة. والإنسان لا يبحث عن الخلود. أنا شخصياً لا أبحث عن الخلود. الحياة محرض كبير للكتابة لأنك ترى تجربة ليتون على سبيل المثال أو تجربة الطائر المحلق فوق البحر أو الطفل الذي يستشهد في فلسطين، هذه كلها محرضات. الحياة تحرض، والشعر ليس بعيداً عن الحياة. إنهما شيئان متشابكان. لا يمكن أن تتحدث عن تجربة شاعر أو شعر خارج الحياة، لا يوجد شعر خارج الحياة".
البيئة والأثر، الشاعر والحق
زاهر الغافري ابن بيئة متنوعة بين الوادي والجبل، وقد انعكست على ما يبدو في قصيدته حيث يقول: "هناك إشارات في المجموعات الشعرية التي صدرت. انتقاءات لتجربة الطفولة مع الأمكنة، مع فكرة أنه كنت أنا ذات يوم. عادة لا أعطي تاريخاً لكتاباتي. دائماً أترك الكتابة للمطلق، من دون أن أعطيها تاريخاً".
وفي موضوع مغاير، يؤكد الغافري أن "التجربة الكبرى في العالم، هي تجربة الشعر العربي قبل الإسلام "الغياب والموت والحنين والأثر كله، موجود داخل التجربة العربية قبل الإسلام. وهذه مفاهيم، بالنسبة لي، أساسية. اشتغلت عليها وفق حاضر، ووفق مستقبل قادم، ليس ماضياً. فإزاحة الحنين من الماضي إلى المستقبل، تجعلك تكتشف أن هذه المفاهيم كلها تعود إلى الإنسان".
كما يؤكد الغافري أن الشاعر بحق يجب أن يقف إلى جانب الجمال والعدالة، "الشاعر لا يمكن أن يكون خارج إطار العدالة، فكرة الشاعر هي العدالة والإنصاف والجمال. قد لا يستطيع الشاعر أو الكاتب أن يغيرا كثيراً. ومفهوم العدالة أن ليس لها بعد إيديولوجي. الشعر دائماً مقاومة داخلية، هناك نبع داخل الإنسان يصبح جزءاً من المقاومة على المدى البعيد. لأنه في النهاية ستفتح قنوات الجمال لعالم أرحب وأجمل، ولكن مائة بالمائة ضدّ الظلم والطغيان. الشاعر دائماً علاقته الأساس مع الحياة. هو اصطدام بجدار حتى يفتح كوة. الشعر هو الحرية".
الغافري الذي حصل على جائزة كيكا مؤخراً، وأثرى المكتبة العربية بالعديد من مؤلفاته، يرى أن الجوائز لا تضيف للشعر شيئاً : "الجائزة هي التفاتة جميلة للشعر الذي أكتبه، وأحببت ذلك. أما الجوائز بشكل عام، فإنها لا تضيف للشعر شيئاً. الشعر يضيف للعالم جمالاً، وربما حتى يخطو الإنسان مرة أخرى على رجليه، وهو يرفرف بجناحيه".