في حوارنا هذا معه يتحدّث الحوراني عن رسوماته في زمن الطوفان، وعن دور الكاريكاتير في مواجهة العدوان الصهيونيّ في حربه الإباديّة المعلنة على قطاع غزّة، منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.
هنا نص الحوار:
(*) بداية نريد أن يتعرّف قرّاء "ضفة ثالثة" عليك، فمن هو الفنّان عبد الناصر الحوراني؟
عبد الناصر الحوراني فلسطينيّ المولد والانتماء من مواليد مخيّم الوحدات في العاصمة عمّان، تصادفت ولادتي مع انطلاق الثورة الفلسطينيّة المعاصرة في عام 1965. تشربت اللجوء واهترأت سراويلي على مقاعد مدارس وكالة الغوث في المخيّم وشربت حليب اللجوء التي كانت تتصدق علينا به الأمم المتآمرة على شعبنا ولا زالت.
عبد الناصر الحوراني صورة للفلسطينيّ الذي عاش اللجوء. منذ رعشة الميلاد عشت حياتي محاولًا بكلّ ما استطعت من إيمان أن أحيا رعشة الموت وأنا عائد إلى يافا.
المقاومة قسمت التاريخ إلى ما قبل 7 أكتوبر وما بعده
(*) لنترك الحديث عن منجزك الفنّيّ السابق، موجّهين حديثنا إلى الحاضر، حدّثنا عن رسوماتك التي تواكب هذه الحرب الوحشيّة الهمجيّة التي تتعرّض لها غزّة؟ وما علاقة ما ترسمه، اليوم، بحرب الإبادة المستمرّة منذ أكثر من 320 يومًا؟
عند الحديث عن فلسطين كفنّان أو شاعر أو موسيقيّ فلا يمكن فصل الإنسان عن بيئته التي عاش فيها. نحن أبناء قضيّة الإنسانيّة، وعليه أنت مطالب من العالم كلّه أن تثبت أنك لم تبع أرضك ولم تختر أن تعيش في بلاد الآخرين. من هنا لا يمكن للفلسطينيّ أيًّا يكن إلّا أن يشهر سلاحه دفاعًا عمّا تبقى من الورد في ساحة هذا العالم من جمال وإنسانيّة داستها عجلات مجنزرة داست على أحلامنا، ولا زالت تلك المجنزرة تدوس على أحلام العصافير في فلسطين كلّ فلسطين، في هذه المذبحة وهذا التطهير العرقي الذي يشاهده العالم على الهواء مباشرة لا بدّ لكلّ كائن طبيعيّ من أن تجري دماء الأبرياء في غزّة في شرايينه ليكون جزءًا من المذبحة المستمرّة، فكيف لفلسطينيّ يحمل موهبة ما ولا يجعلها جسرًا لإيصال كلّ هذا الدم لعالم لا يرى إلّا بعيني "إسرائيل".
(*) كيف انعكس ما خلّفته حرب الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة من أوجاع وآلام على مشروعك البصريّ الإبداعيّ، وأنت تعيش في المنفى الاضطّرّاري منذ سنوات؟
نحن جزء من هذه المذبحة، نحن عويل النساء وصرخات الأطفال، نحن صوت للمعذبين، وأنا أرى بأنّ علينا أن نحشر هذا العالم في فلسطين من خلال ما نبدع، لكي يرى هذا العالم مع أيّ وحوش يتعامل الفلسطينيّ منذ قرن من الاحتلال.
لا يمكن فصل الفلسطينيّ أيًّا كان موقعه عن معاناة شعبه، فما يجري في غزّة من محرقة لا يحتاج لفنّان لكي يقدّمه ويصدم العالم بمشاهد سورياليّة وواقعيّة ثوريّة تراها في كلّ نشرة أخبار.
نحن كفلسطينيّين ننز وجعًا وقهرًا وعلينا أن نكون ثورة للعدل والحقّ والجمال لأنّنا أبناء هذه الأرض التي أنجبت كلّ الشهداء والأنبياء والشعراء.
نحن أبناء فلسطين، وما فعلته المقاومة في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، جعل التاريخ يُقسّم إلى ما قبل 7 أكتوبر وما بعده، فهذه الدولة اللقيطة التي تسمّى "إسرائيل" أقنعت العالم بأنّها الدولة الديمقراطيّة الوحيدة في صحراء القمع العربيّ! إلى أن جاءت أحداث أكتوبر لتكشف للعالم عن الوجه القبيح لهذا الوحش، ولتسقط ورقة التوت عن الأنظمة العميلة، وعن الثوار الكتبة وأذلاء ما يعرف بأوسلو.
ناجي العلي المعلّم والملهم والمراقب
(*) مَن مِن رسّامي الكاريكاتير في فلسطين، وفي العالم، أثّروا بكِ وتراهم بمثابة آباء روحيّين ومعلّمين؟
بالتأكيد فنّان الكاريكاتير الفلسطينيّ الشهيد ناجي العلي، فهو أيقونة فلسطين التي دفعت حياتها مقابل فكرة. أظن أنّ أيّ فنّان فلسطينيّ يضع ناجي كأيقونة وبوصلة حين تضيق به الأرض ويكاد يضعف.
ناجي المعلّم والملهم والمراقب على كلّ ما أخربش على الصفحات البيضاء وكلّما لانَ خطي أشعر بوخز ناجي يعيدني للطريق الصواب.
(*) كيف تولد رسوماتك، هل ثمّة طقوس محفّزة؟
في السابق كانت الفكرة تعاندني نوعًا ما، ولكن مع تفجر الأوضاع في هذا العالم بات المشهد العامّ لسياسة هذا العالم رسمًا كاريكاتوريًّا، فبات الضحية مطالبًا بالإثبات أنّه قد سقط برصاص الغدر من طائرات المجرم، وبات اللصوص قادة السلطة والثوار مطاردين لأنّهم يقاومون المحتلّ! هل هناك من كاريكاتور ساخر أكثر ممّا يجري في رام الله؟
(*) امتهنت الصحافة لسنوات طويلة إلى جانب الرسم، في أيّة منطقة يوجد الإبداع؟ وإلى أيّ مدى وظّفت قدراتك الإبداعيّة لتحقيق تميّز في العمل الصحافيّ أو العكس؟
العمل الصحافيّ للفلسطينيّ كمن يسير في حقل ألغام فأنت الحدث وأنت ناقله، العمل الصحافيّ والرسم وجهان لعملة واحدة، فأنت ترسم الحدث بعين الصحافيّ وتكتب الخبر بقلب الفنّان.
رسم الكاريكاتور حين تكون فلسطينيًّا يشبه تمامًا كالمؤذّن، فهو يخط فكرته الواضحة كنصل السيف لا تهادن ولا تداهن. أضع فكرتي على الورق لكي تكون طلقة على كلّ الظلم في هذا العالم، إن لم تحرّض الأعمال الفنّيّة المتلقّي فالأولى بصاحب العمل أن يبحث عن هواية أخرى أو يعلن بأنّه يعمل لأجندات غير إنسانيّة.
(*) من خلال تجاربك الشخصيّة، ما هو الدور الذي يلعبه الفنّان وهو يعيش في المنفى بعيدًا عن أرض الوطن/ الصراع؟ وما هي الرسالة التي يوجّهها للآخر حيث يقيم، وللعدو المحتلّ؟
المنفى نوافذ تطلُّ منها على وجع نازف من الخاصرة، حين نبتعد عن مركز الصراع فلسطين فإنّها تسكننا وترفع حساسيتنا تّجاه ما يجري في الأرض المحتلّة.
الغربة تجعل من الفنّان أكثر التصاقًا بالوطن حيث تعاني وجع الاغتراب ووجع التمييز الممارس ضدّك كإنسان، من هنا كان إبداع المغتربين أشدّ إيلامًا من وخز القمع في الوطن.
الالتزام لا يعني أن نتخلّى عن جماليّات الفنّ
(*) أسألك عن الدور الذي يلعبه هذا الفنّ الساخر واللاذع والمحرّض على الكفاح في مقاومة الاحتلال؟
قد يكون الواقع الذي نحياه أكثر سخرية من أيّ رسم يحاول السخرية من هذا الواقع فكيف يرى العالم انتهاك الإنسانيّة بفجاجة المحتلّ في قتل أدنى حقوق الإنسان، ويصرخ في وجه الضحية أن يموت بصمت ولا يزعج النائمين، حين ترى الطفولة تذبح باسم حقوق الطفل والحرّيّة تنتهك باسم حرّيّة التعبير، فكيف للقلم أن لا يصبح رصاصة، والريشة صاروخًا يصرخ في المتلقّي بأن حيّ على الثورة.
(*) إلى أيّ مدى تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دورًا في إيصال السرديّة الفلسطينيّة إلى الجماهير الغربيّة والأميركيّة، رغم الحرب الرقميّة المعلنة ضدّ المحتوى الفلسطينيّ على منصّات التواصل والإعلام، خاصّة في الولايات المتّحدة؟
أجمل ما في وسائل التواصل الاجتماعيّ أنّها حرّرتنا من ديكتاتوريّة رؤساء التحرير وتسلّط أصحاب دور نشر الصحف، ورفعت مشانق الرقابة عن أعناق الأفكار، ومنحت المبدعين العرب مساحة للتنفس بحرّيّة نسبية بعيدًا عن الممنوعات الثلاثة في عالمنا العربيّ (الجنس والسياسة والدين)، لكن بالمقابل ارتفعت سياط قمع من نوع آخر ألا وهي قمع أصحاب مواقع التواصل الاجتماعيّ الذين سلّطت عليهم الحكومات الغربيّة سلاح اللاساميّة وظهرت خوارزميّات تمنع من وصول السرديّة الفلسطينيّة.
(*) حدّثنا عن تصوّرك لمفهوم "الفنّ الملتزم" في ظلّ ما نشهده منذ أكثر من عشرة أشهر من إبادة جماعيّة شاملة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر؟
الفنّ الملتزم لا يعني أن نتخلّى عن جماليّات الفنّ بل أن نوظّف هذه القدرات على الإبهار بما يخدم الإنسان أولًا، فلا يعني الالتزام بفكر أو أيديولوجيا أن نبرر للقبح. هناك جماليّات حتّى في القبح، وأنا ضدّ أن تنزف إبداعاتنا دمًا لكي تكون فنًّا ملتزمًا، فقد يكون وجه طفل باك يحمل من جماليّات ما تحرّض المتلقّي على قراءة ما خلّف هذا الوجع بالخطّ والكتلة والضوء.
(*) برأيك، هل الفنون البصريّة على تنوّعها هي الأقدر، فنّيًّا، على رصد المعاناة الفلسطينيّة والتقاط إرهاصات الأمل؟
بداية نحن شعوب لا تقرأ كثيرًا، لذا فإنّ فعل الصورة أقوى من سطور الكتابة والتحليل. كما أنّ العين لها فعل السحر بتشكيل الفكرة، فالمشهديّة الأولى للإنسانيّة كانت الرسم، وهذا واضح من آثار الحضارات السابقة، لذا نجد أنّ مربع الكاريكاتير في الصحف الورقيّة تجد صداه أقوى من افتتاحيّة الجريدة، ولهذا كان رسام الكاريكاتير يحظى بفرصة إيصال فكرته بمكان كان فيه محطّ حسد لزملائه من الكتّاب والصحافيّين، وكان ناجي العلي من أوائل الرسّامين الذين جعلونا نتصفح الجريدة من مربعه الذي كان متنفس للمقهورين ونافذة قلق للقيادات.
****
عبد الناصر الحوراني: رسّام كاريكاتير وصحافيّ فلسطينيّ مغترب في الولايات المتّحدة. ولد عام 1965 بمخيّم الوحدات في العاصمة عمّان، وتلقى تعليمه الابتدائيّ والإعداديّ في مدارس وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وأكمل تعليمه في القدس. حاصل على درجة بكالوريوس فنون جميلة من جامعة دالاس في ولاية تكساس.
عمل في الصحافة الأسبوعيّة الأردنيّة كرسّام للكاريكاتير وصحافيّ ميدانيّ إلى أن تسلّم إدارة تحرير جريدة "حوادث الساعة"، وسكرتير تحرير جريدة "البلاد"، وعمل رئيس القسم الاجتماعيّ بجريدة "شيحان"، كما عمل في جريدة "العرب اليوم".
رُفعت عليه عدّة قضايا ممّا اضطّرّه للهجرة إلى الولايات المتّحدة.
أسّس موقع "السكة" الإخباري بولاية تكساس، وتولّى إدارة تحريره، كما أسّس مع الصحافيّ نايف الطورة جريدة "عرب تكساس".