أين ذاكرتكم القَبْلية أيها السادة؟
في القبّة الرمادية... البحر... البحر
قد أُقفل عليها. البحر هو التاريخ".
البحرُ هو التاريخ، هذا ما يؤكده الشاعر الكاريبي متعدّد الأعْراق ديريك والكوت (1930 ـ 2017) في القصيدة التي جعل المؤرّخ الألماني مايكل نورث هذا المقطع منها مدخلًا لِكتابِهِ المهم "اكتشاف بحار العالم: من العصر الفينيقي إلى الزمن الحاضر" الذي ترجمه إلى العربية عدنان عباس علي.
علاقة والكوت بالبحر لم تقتصر على هذه الأبيات من قصيدة له، فهو يكاد يكون شاعر البحر بامتياز، كيف لا وهو ابن البحر الكاريبي بموقعهِ ومرجانِهِ وتاريخِهِ وكل حكايات السكّان الأصليين حوله. ولأن البحر ثيمةُ قصائده الأكثر تكرارًا في شعره الذي حاز عليه نوبل الآداب عام 1992، فمن السهل أن تجد في قائمة قصائده عناوين من مثل: "قصبُ البحر"، "عنبُ البحر"، "الميناء"، "بعد العاصفة"، وَقصائد كثيرة ليس البحر في عنوانها، وَلكنه رابضٌ في متنِها. ولعلّ "عناصر والكوت الطبيعية الأثيرة"، وَبحسب صبحي حديدي في مقاله "ديريك والكوت: غناء الماضي وَملحمة الحاضر"، الذي نشره عشيّة رحيل الشاعر، هي: "الحَباحبُ والجَنادبُ والبزّاقات، "شجرة الخبز"، والقصبُ البرّي والسّرخس، البحر والرّمل والنجوم، اللون النّيليّ العميم، ومَزيد من تلاقحِ واختلاطِ هذه العناصر، على الأرض كما في السماء".
بحر والكوت شكّل مدخلًا ممكنًا في شعره للنبشِ في بؤس الاستعمار الإنكليزيّ والأميركيّ (الغربيّ على وجه العموم)، وإلقاء ما تسنّى له من أضواء على السكّان الأصليين، حتى إنه في قصيدته Bounty من ديوانه الذي يحمل الاسم نفسه، يبحر في قصة "السفينة البريطانية الشهيرة التي شهدت عصيانًا بحريًا في أواخر القرن الثامن عشر، وأسْفرت عن واحدة من أبكرِ تجارب الاحتكاك بين الأوروبيينَ والمواطنينَ الأصليينَ في جُزُر الباسيفيكيّ".
هذا عن بحر ديريك والكوت، أو ولكوت كما يفضّل حديدي على ما يبدو، فماذا عن بحر غزّة؟
باب أرزاقٍ مُحاصر...
بعيدًا عن الشعر وَالمَجاز، شكّل بحر غزة، ويشكّل، لأهل غزّة باب رزق يعاني ما يعانونَه من التكبيلِ والتضييقِ وَالحصار؛ تحديد عدد أميال الصيد، سرقة مواردَ وَآفاق، قَنْصُ صيادين من باب الهواية، أو قتل الوقت، تجْفيف كلِّ منابع وإمكانيات الحصول على سفن حديثة سريعة مجهّزة كما ينبغي، وكما حَرموهم من المطار، جعلوا، كذلك، فرصةَ أن يكون لهم ميناء يليق ببحرهِم مطلبًا دونه النضال والفِداء والدماء.
في غزّة، ينتظر الصيادون نوّةً مرجوّةً من بحرها... بحرهم... علّها تحمل معها سمكًا أكبر وأوْفر وأجْدى. يقول الصياد مصلح أبو ريالة إن نوّات البحر التي تجلب معها الأسماك هي هديةٌ ورزقٌ من السماء. وعلى مدار العام كلّه، لا يحظى بحر غزّة بأكثرِ من 10 إلى 11 نُوّة كما يذكر مدير عام الثروة السمكية في وزارة الزراعة بغزّة وليد ثابت لِوكالة الأناضول. وإلى أن تجيء تلك النُوّة المشتهاة، يكتفي صيادو بحر غزّة بِشباك الطّرح التي يلقونها لأمتارٍ قليلة باتجاه البحر من الشاطئ، وفي أحسن الأحوال قد يتاح لهم استخدام شِباك الجرّافة التي تحتاج إلى ريّسيْن وثمانية صيادين (أربعة من هنا وَأربعة من هناك). في حالة شِباك الجرّافة قد يصل عمق الصيد إلى 100 متر فقط لا غير. أما الستةُ أميال التي لم يعد يسمح لهم بالصيد أبعد منها، فهي منذ الطوفان أصبحت بعيدة المنال. هذا لا يعني أن رخصة الصيد في تلك الأميال الشحيحة كانت قبل الطوفان نزهةً لا تخلو من المخاطر والإِهانة وكلّ أشكال الكراهية العدوانية لكلِّ ما يتعلّق بِأهل غزّة وبحرِها وبرّها وسمائِها؛ ففي ليلةٍ من ليالي عام 2019، قمرها مكتملٌ يتلألأُ نورًا، وبحرٌ هادئٌ تتهادى به السفينة ببطءٍ على أنغام دندنةِ قُبطانِها، وآمالِ صيّاديها بخيرٍ عميمٍ يعودون بِهِ إلى أُسرهم وأفواهِ صغارِهم فرحينَ غانمينَ سالمين، إذا بأصواتٍ غريبةٍ كريهةٍ تطنّ كالكابوسِ حولَهم... تقترب أصوات الشؤم كأنها أشباح بحرٍ بعيد... مع كابوس الأصوات تُهاجمهم كهرباء كشّافاتٍ عدوّةٍ تحجب الرؤية والرؤيا... ثم إذا بصوتٍ غليظ بلغة عربية ركيكة يصرخ بهم: "كلو يرفع ايدو ويخلع كل ملابسه". يستولي أفراد عصابة الاحتلال على المركب... يعطِبونه... يحوّلون من عليه إلى التحقيق بعد إهانتهِم وتعذيبهِم منذ اللحظة التي اقتحم فيها أشرارُ العصابة السفينة. هذه ليست قصة تراجيدية قصيرة، هي واقع حال صيادي بحر غزّة... وهي يومياتُهم مع بحرٍ كان لهم... مع بحرٍ سوف يبقى لهم.
رُغم البوارج الحربية الإسرائيلية التي تتمركز على امتداد شواطئ القطاع، يرمي حسن شِباك الصيد... هو يجلس هناك فوق رمال بحرِه... يشرب الشاي وينتظرُ امتلاء الشِّباك ليس بالسمك فقط، ولكن أيضًا، وأيضًا، بالشجاعة التي تجعله يرى كل تلك البوارج أصغر من حباحِب ديريك والكوت، وأقبح من مسخ فرانز كافكا.
يا ربنا هلا هي...
كما هي حال البر، من سهل وقمح وزيتون ومواسم وحصاد، فإن للبحر في الذاكرة الفلسطينية مواويلُه الغزيرة والجميلة. والبحر في فلسطين يبدأ من رأس الناقورة، ولا ينتهي في غزّة، ففي غزّة لا شيء ينتهي، لا المقاومة، ولا الموال، ولا الصمود، ولا الورد، ولا الوعد، ولا الصبر ولا أيوب. المرشّح الوحيد هناك للانتهاء هو الاحتلال.
أما بحر غزّة فلهُ أجمل مواويل الصيادين وَترنيمهم وَأهازيج العُلاقة السرمدية بينهم وَبين الماء:
"يا ربنا هلا هي
ابعت لنا هلا هي
رزق الهنا هلا هي
سفينة التقي إذا جاها الصلاح حلّت
في بحر داوي لا غرقت ولا انبلّت".
ورُغم مخاطر البحر، فإن أغنيات الفرح المُشبعة بالحمدِ للرزّاق تسودُ المركبَ حالما تُسحب الشباك مليئةً بالسّمك الوفير، لتتحوّل رحلة العودة إلى مسيرة من الرضى والبهْجة:
"صبح الصباح هلا هيلي
واصطحبنا هلا هيلي
في نور محمد هلا هيلي
والله ربحنا هلا هيلي
والله صِدنا والله صِدنا
وربك والله حقق مقاصدنا
صِدنا والله سمك كتير
وربك والله رب كبير
ما أحلى السهرية على وجه المية
وقلوع بترفرف يا روحي وزنود قوية
ما احلى الملاطش والغزل لاطش
سردينة بتلمع في الشبك وتشوفها عينيّا".
واضحٌ في ترنيمة البحر هذه حجم الرضى والقبول، فهم صيادو بحر غزّة يكفيهم السردين، وليذهب الكافيار للفجّار أهل الكافيار.
السلامة والرجعة الغانمة إلى البيت والسوق بالسمك المصْيود تحمل معاني كثيرةً مُضيئةً نابضةً بالاعتزازِ بكلّ من ساهم في الوصول إلى هذه النتيجة؛ الريّس والصيادون، المركب، أدوات الصيد:
"هيلا لم هيلا لم
كان قاضي وانظلم
رافع المركب ذواته
عامل الصاري قلم
هيلالم هيلالم
يا مركب العز هلا هيلي
بالعز دومي هلا هيلي
يا للي طبيخك هلا هيلي
والله بيصارة هلا هيلي
وحبالكي هلا هيلي
بصل الامارة هلا هيلي
شباب وردت ع المينا
والعدة فيها سردينة
العدة أخذها التيار
ملينا سمك مزقار
ليوا العدة هلا هي
البحر عدّا هلا هي".
ترتبط أغاني بحر غزّة بمواسمِ الصيد وَأوقاتِه، حيث نشتمُّ من خلالها تتبّع أيام الصيد والرغبة الملحّة في اختفاء القمر لارتباطِ خروج السمك من الأعماق بالليالي غير المُقمرة. ولعل تلك اللهفةَ ناجمةٌ عن قلّة أيام الصيد، وكثرةِ أيام المَحْل، ممّا يترُكُ صيادي غزّة نهبًا للفقر والعوْز:
"يا ليلتي ليلة هلا هي
الرز بالكيلة هلا هي
يا ليلة امبارح هلا هي
والقمر سارح هلا هي
أمّه قالتله* هلا هي
هي ها الليلة هلا هي
وينهم ما بينوا هلا هي
على العدة بينوا هلا هي"...
(*المقصود بـ(أمّه قالتله) أن أمّ القمر أخبرته في الليلة الفائتة أن تلك هي آخر ليلة يظهر فيها ابنها القمر، بما يعنيه هذا الغياب من ارتباطٍ بإنتاج البحر وَازدياد عدد السمك في الشِباك. أمّا (الرز بالكيلة) فإشارةٌ للرزقِ العَميم والخيرِ الوَفير. يُشار بأمانةٍ حول أهازيج بحر غزّة إلى الباحث الغزّي زكي العيلة وبحثِهِ الذي شارك به في مؤتمر أقيم في القاهرة عام 2001، حول المأثورات الشعبية).
تلك بعض أهازيج صيّادي بحر غزّة... ردّدها الصياد عبد الفتاح مقداد ابن قرية حمامة التي لم تكن تبعد قبل تهجير أهلها منها سوى كيلومتريْن عن بحر فلسطين، وردّدها معه ابنُ قريتهِ طالب العيماوي، ومصطفى عاشور محيسن ابن قرية جورة عسقلان الساحليّة أيضًا، ومحمود الجعبري من القرية نفسها، ومحمد محمود الهسّي ابنُ يافا وما أدراك ما يافا عندما نتحدث عن البحر وَالصيد وَالمواويل وَالمراكب وَالأفق الذي على الضفّة الأخرى، حيث إيطاليا وَإسبانيا وَبلدان أوروبية عديدة كانت تتسابقُ على برتقال يافا.
تلاطمُ حضارات...
بحر غزّة هو جزء من البحر الأبيض المتوسط، أكثر بحار العالم تلاطمًا للحضارات وتشبيكًا بينها. وفي الكتاب الذي أشرنا إليه أعلاه "اكتشاف بحار العالم: من العصر الفينيقي إلى الزمن الحاضر" الصادر عام 2019، عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون في الكويت ضمن سلسلة "عالم المعرفة"، يوثّق مؤلّفه مايكل نورث قصص بحار العالم ومحيطاتِه، رابطًا بين تلك الحكايات وتوسّع الحضارات التي حطّت رحالها قرب تلك البحار وَهاتيك المحيطات. وَحين يخص البحر الأبيض المتوسط بفصولٍ عديدة داخل متن الكتاب البالغ عدد صفحاته 424 صفحة من القطع المتوسط، فهو يُسهب برصدِ تاريخ الحضارات التي تطوّرت حوله مستفيدةً من الآفاق التي يطلّ عليها، وَيصل إلى نتيجةٍ مَفادها أن تلك الحضارات ازدهرت أكثر كلما طوّرت تقنيات ركوب أمواجه أكثر، رائيًا أن السفينة الشراعية حقّقت في تلك الأزمان البعيدة نقلةً نوعيةً لِصالح أوّل مكتشفيها، من دون أن يقفز على دور الكنعانيينَ الحاسم في جعل بحر بلادهم (البحر الأبيض المتوسط، أو البحر الشامي في تسمية أخرى، وبحر الروم في تسمية لاحقة)، حلقة وصل بينهم وبين الحضارات حولهم، وفي امتداد أذرعهم حتى مدريد غربًا والإسكندرية جنوبًا، مرورًا باليونانِ وما حولها. الكتاب يغوص ويفصّل فإذا بأصل معظم لغات شعوب بحر غزّة (البحر الأبيض المتوسط) واحدة، وكذلك مرجعياتهم الثقافية والمعتقديّة، وجذور أساطيرِهم، وأدوات صناعة أساطيلِهم.
إن براعة الكنعانيين في صناعة السفن، وأسبقيتَهم في المِلاحة البحرية مما لا يختلف عليه باحثان مخلصان لِعلوم التاريخ والاجتماع والآثار، ولعلّ في بحثٍ محكّم نشرته الجامعة المستنصرية في بغداد ما يقطع كل شكٍّ ويحسم هذا التفوّق، وهذه الأسبقية:
"برع الكنعانيون في صناعة السفن التي كانت في بادئ الأمر تستعمل لصيدِ السمك في السواحل وبيعِها للمدنِ القريبة، ولكنهم سرعان ما توغّلوا في البحر، ونقلوا إلى بلدانٍ نائيةٍ تجارتَهم التي برزوا فيها. كما برز الكنعانيون في تقنية الملاحة التي تفوّقت على كلِّ تقنية أخرى، ففي القرن الثاني عشر ق. م قاموا بجولةٍ حول أفريقيا مرورًا بالبحر الأحمر وَجبل طارق استغرقت ثلاث سنوات وسلكوا طرقًا غير مطروقةٍ مندفعينَ بعيدًا نحو الغرب ومكتشفينَ مصبّات الأنهار وَالمواقع الصالحة للجوءِ المراكب ومستطلعينَ شواطئ البحار المجهولة. كما أسسوا في القرن الثامن ق. م المستوطنات التجارية في حوض البحر المتوسط.
لقد عرف الكنعانيون الملاحة الليلية واستعانوا بالنجوم، وخاصة النجم القطبيّ، وتجوّلوا بواسطةِ هذه المعرفة في كثيرٍ من السواحل. وكانت سفنهم تتألّف من طابقيْن يبرز منها في الأمام عمود حديديٌّ مدبّب لِمهاجمة السفن الأخرى في حالة اللجوء إلى القتال. وكنتيجةٍ لِهذا الاختصاص التجاريّ والصناعيّ والبحريّ، وسّعوا حجم سفنهِم لكي تستطيع الإبحارَ مسافات بعيدة في أعماق البحار، لأنّهم احتكروا تجارة البحر المتوسط، إضافة إلى أنّهم أوّل من اكتشف مجاهلَ المحيط الأطلسي، وقدّموا خدمة للعالمِ بفضلِ انتشارِهم، وبفضلِ أسواقهِم في شرق إسبانيا، وقادِش، بعد مضيق جبل طارق، وفي تموين الشرق بالمعادنِ، لا سيّما القصدير. كما أنّهم عرّفوا العالم بِحضارة الشرق.
لقد أسهم الكنعانيون في تطوّر الملاحة سابقينَ بذلك البرتغاليينَ بأكثرِ من ألف عام عندما ساعدهم فرعون مصر نيخو (609 ـ 593) ق. م، الذي حفر القنالَ القديم الذي يربط الفرع الشرقي للنيلِ بالبحرِ الأحمر، إلى جانب المحطّات البريّة في الرّها، ونْصيبين، ومواقع على رأس الخليج العربي، حيث كانت لهم مدن في مناطق الخليج تحمل أسماء مثل أرْواد، وَصور، وصيْدا.
وكنتيجةٍ لِهذ النشاط التجاري والبحريّ، فقد أسّسوا مستوطناتٍ تجارية ما بين القرن الحادي عشر وَالثامن ق. م، تسهيلًا للأعمال التجارية وَالصناعية. ومن أشهر تلك المستوطنات قبرص، وسردينيا، وعوتيقا في تونس، وقادش (الجدار في اللغة الكنعانية) في إسبانيا في بداية القرن العاشر، وَقرطاجة في القرن التاسع ق. م، وصقليّة، وعدد من المستوطنات الأُخرى على طول الساحل الأفريقيّ. وَكانت هذه المستوطنات في بداية الأمر على هيئة مراكز تجارية، أو صناعية، حتى أخذت شكلَ مدينة تجارية تؤدي خدماتها إلى العالم. والمرجّح أن أوّل مستوطنة تجارية كنعانية هي قبرص في شرقِ البحر المتوسط، بالنظرِ لِقربها من لبنان.
إن الاكتشافات الجغرافية المهمة التي توصّل إليها الكنعانيون في منطقة المحيط الأطلسي، وإنشاءهم المركز التجاري في قادش وراء أعمدة هرقل (مقابل جبل طارق)، جعلهم يكتشفونَ المحيط الأطلسي (الأوقيانوس) الذي سمّاه العرب "بحر الظلمات"، ومنهم عرف الإغريق ذلك البحر".
معظم المعلومات الواردة في بحث الجامعة المستنصرية تؤكّدها كتب ودراسات عديدة، من بينها كتاب "تاريخ الحضارة" لمؤلفيْه الباحثيْن السوريين د. إبراهيم زعرور (غير الروائي الفلسطيني/ الأردني إبراهيم زعرور)، ود. عمار النهار، والصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق في عام 2010.
فهل أبلغ من هذا العرض التاريخيّ لنكتشف كم هو بحر غزّة عريق؟ ولنعرف عمق العلاقة بينه وَبين أهلِهِ وناسِهِ وَصانعي مجدِه؟ تلك العلاقة الضاربة جذورها في التاريخ، عندما تصدّرت الحضارة الكنعانية في أزمانٍ بعيدة، عبرَ بحر غزّة، وباستخدامِ سفنهِم المزيّنة مقدّماتها برأسِ حصانٍ جامِح، قائمة حضارات الشرق والغرب.
هذا هو...
هذا هو بحر غزّة، أبلغ عطفًا من أيّ كلمة حُب... يحمل صياديه في رحلة نحو النجوم... وهم بدورِهم يجدّفون باتجاه الغسق الذي ترتاح خلفه منازل الروح... وبيوت القمر...
إنه البحر الذي "صالتْ على الدنيا بِهِ فِينيقيا" كما يرى جبران خليل جبران... بحرٌ لا تكفيهِ جيادُ المتنبي وَلا حصونُه... ولا فيه وَحْشةُ علي محمود طه ولا اكتئابُه... بحرٌ ينفضُ عنه أسيجةَ الحصارِ لِيُعيد نسجَ البدايات من صور حتى إسبانيا...
بحر غزّة هو إصرار بحّاريه على ربط مصيرهم بِمصيره... عزمهم على ركوبِهِ مرارًا وتكرارًا طالما أن في العالم مدٌّ وجزر، وفي البِحار كذلك، وليس يهمّهم لو آلت رحلتُهم في كلِّ مرّة إلى لا شيء، فهذا الفعل وحدُهُ (مواصلةُ عناقِهم لِبحرهم) هو الذي "يرجَّح كفّة الوجود على كفّة العدم" كما باحت رضوى عاشور ذات بحر...
بحر غزّة هو "البشارةُ المخنوقةُ في الرمل"... هو "حُطام سفينةٍ" متروكةٌ على امتداد شاطئٍ بانتظارِ أمواجٍ منصورةٍ يصعبُ لجْمها... هو شبكةٌ لا شيء فيها... لا شيء سوى سخطٍ يُزحزح الكُثبان... يبني للصيادين داليةً خضراء مالِحة...
سخطٌ يشطرُ الرّعد... يفقأ عينَ الطّمع... سخطٌ لا يقبل ببحرٍ قليل... يريد كلَّ بحرِهِ له... كلَّ بحر غزة... كلَّ البُوري والجمبري والّلوكس والحدّاد والمَحار والأمواج والموّال والبحريّة والحريّة والزنود القويّة صافِية النيّة...
سخطٌ/ غضبٌ يُعيد قراءة قصيدة إبراهيم نصر الله "هادئ بحر غزّة" بنسقٍ جديد يرى في هدوئه تمرّدًا طالعًا من العرسِ والشمسِ والزّغاريد. فهناك حيث بحر غزّة:
"ماءٌ وأشْرِعَةٌ
زرقةٌ وصباحٌ عريض
ونافذةٌ للنّوارس
أو جدولٌ في الوريد".
يتراكضُ حول بحر غزّة خلقٌ كثيرٌ لا يحبّون الموت، ولكنّهم يرونه، كما يؤكّد نصر الله في قصيدته، دربَهم الوحيد نحو الحياة بِأوْفى وعودِها بالحريةِ والكرامةِ والإباءِ والتّحرير:
"لا أقول لك الآن إني سأمضي إلى الموت
لا أعشق الموت
لكنّه سلِّمي لِلحياة".