ربما لتفادي الاعتراف بحقيقة العلاقة المرتبكة بين الثقافة كمنتج، وبين النيوليبرالية المهيمنة على أنماط الإنتاج الثقافي مثل أي شيء آخر. وربما لنفي حقيقة أخرى، وهي أن تطوّر الأدب لم يعد قادرًا، ومنذ فترة لا نستطيع تحديدها، على مجاراة تطور النيوليبرالية. يحيلنا هذا، بما أننا نتحدث عن كاتب "مترجم"، إلى النقاش المتواصل عن عولمة الأدب، أو عن طبيعة الأدب المتأرجحة بين محليته وأبعاده العالمية. بشكلٍ عام، لا يحظى الأدب الإيطالي، رغم قيمته الجيدة نسبيًا ـ بمعزلٍ عن تقدمه أو تراجعه ـ بالاهتمام الكافي عالميًا. وهذا ليس لأنّ البعد الاستعماري الذي يرافق الأدب عبر أداته أساسية، أي اللغة، هو ضئيل إلى حدٍ بعيد، بالمقارنة مع اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وحتى الإسبانية. ربما لأنه، وعلى مراحل، فقد كثيرًا من قيمته التسويقية، في عالمٍ صار أكثر هوسًا بالتسويق. وقد يكون حلّ به ما حلّ بالسينما الإيطالية، التي بلغت منتصف القرن الفائت، ولعشرين عامًا بعدها، درجةً أسطورية، بعدما كان الأدب الإيطالي قد سبقها إلى ذلك بعقدين أو ثلاثة، ثم تراجعت إلى درجةٍ تكاد تكون مخيفة. لم تعد سينما مربحة أو متسقة مع نقاشات الحاضر، وقد يحظى فيلم مكارثي يخلو من أي بعد أخلاقي، أو قيمة إنسانية حقيقية، مثل "أوبنهايمر"، الذي يمجّد الهوس القومي أكثر بكثير من نجاحه في أنسنة العلوم والعلماء، من دون أن يستطيع تقديم مديح مبهر للشرّ، بصخبٍ هائل وبائس.
في الواقع، موقف ڤيرونيزي ليس مهمًا من برلوسكوني، والطريقة التي عبر عن حزنه فيها على رحيله. فقد فوجئ أنه في إمكانه الحزن على شخصٍ مثل برلوسكوني إلى هذه الدرجة، بعدما أعتقد يومًا أنه "سيرقص فوق قبره عندما يموت". مثل هذا الموقف الحاد كان، قبل أن يرحل ماتشو السياسة الأوروبية الأول، شبه مألوف في إيطاليا، وفي أوساط النخب الإيطالية. المهم في مقابلته أنّ ڤيرونيزي أعلن أنّه كان سيطرح السؤال على معالجه النفسي. المهم أنّه هو الآخر متأثر بالنزعة السيكولوجية المهيمنة على العالم اليوم. وعلى هذا الأساس، يقدّم "الطنّان"، بطريقة يمكننا اعتبارها أشبه بـ"فانتازيا سيكولوجية".
في الرواية، لا تختلف رسائل الثمانينيات كثيرًا عن رسائل الحاضر. لكن العالم يبدو مختلفًا، ويبدو أن هذا عالم يعرفه الكاتب جيدًا. ولكن ماذا لو كان هذا الاختلاف إيطاليًا، وليس شخصيًا. هذه النزعة النوستالجية في الأدب الإيطالي لا تتوقف عن الظهور، وبالتحديد لا تتوقف عن تلقي الثناء. فبعد إلينا فرانتي، يعود ڤيرونيزي إلى حياة الطبقة الوسطى الإيطالية، راسمًا من خلال قصة فردية تصورًا كاملًا للحياة في روما، فعلت فِرانتي الأمر نفسه بعودتها إلى نابولي. وكما هيمن على نصوص فِرانتي ميل ظاهر للاتساق مع السرديات المعاصرة، ولا سيما النسوية الليبرالية منها، لا يخفي ڤيرونيزي هو الآخر تأثره بالإقبال الكثيف اليوم على جميع منتجات السيكولوجيا وفروعها.
لا يلغي ذلك أن التحدث بصوتٍ مرتفع يبدو من سمات الأدب الإيطالي المعاصر، من دون الوقوف على حافة القول، أو الاكتفاء بالصوت، بل غالبًا ما يذهب الكتّاب إلى إطلاق المواقف. وقد يكون هذا نوعًا من التجريب يستحق التقدير، وقد يكون أيضًا استجابةً لكثافة النقاشات الأخلاقية. يعاني ماركو كارّيرا من انتحار الشقيقة، ومرض الإبنة، ومن قصة الحب التي عاشت في الزمن. يحاول أن يبعد عن نفسه صفة النرجسية؛ فما الذي يريد ڤيرونيزي قوله عندما يعرض الأشياء مع أسعارها، كاتالوغ كامل. هل يريد أن يقول إن لها اسمًا وشكلًا، وأنّها ليست أرقامًا، أم أنّه يريد القول إن الاستهلاك يبتلع قيمة الأشياء. ولعله يتحدث عن أرشيف عائلته، ويمنح القراء قدرًا أكبر من المشاركة، ومساحةً أقل للخيال. ولعل في ذلك إجحافًا أيضًا، فالأشياء، وإن امتلكت الأسماء، لا يعني ذلك تشابهها. لا بد من وجود سببٍ ما لعرض الكاتالوغ كاملًا. وهذا السبب لا يعرفه إلا ڤيرونيزي نفسه. وغالب الظن أنّ كثيرين لن يقرأوا بالتفصيل هذه الموجودات، وسيقفزون عنها. سيكتفون بالرسالة المؤرخة عام 2008، وسيتابعون الركض خلف الحبكة. العلاقة العاطفية المهتزة، من دون أن تقع، والطفلة التي تتخيّل أكثر مما تتنفس. يبدو أنّ ڤيرونيزي يتابع حديثه عن عاصفة يمشي خلفها منذ بداية مسيرته الأدبية، لكن ما يميّزه فعلًا، من خلال عمله هذا، ومن خلال الأعمال السابقة، خاصةً "فوضى هادئة"، هو قدرته على الجمع بين العاصفة وبين التأني. فعندما نتحدث عن عاصفة نتخيّل إيقاعًا مختلفًا، ومسارًا تشوبه تغيرات عنيفة تحدث فجأة.
إلا أن ما يحدث في "الطنّان" هو تلك العاصفة الهادئة، التي يمكن استشعار وجودها، وانتظارها ببطء شديد، وحدوثها بذات الطريقة أيضًا. هذه العاصفة هي الحياة، ومكانها ليس روما، أو المدن التوسكانية، ولا باريس. مكانها هو العائلة، فالعاصفة تصيب مكانًا متنقلًا بين المدن وبين البلاد، هو العائلة. ليست العائلة زمنًا، وليس لها توقيت محدد. فالموت لا ينهي وجودها كعائلة. لكنها مكان واحد ينتهي فقط بانتهائه، بعاصفة قوية مهما كانت هادئة. ما يحاول قوله في "الطنّان" هو أن العاصفة تملك أصواتًا كثيرة، أصواتًا مسموعة وقادرة على السرد المتأني، وأصواتًا غير منطوقة. صوت العلاقات التي تمشي في الزمن، تحت الجلد، وفي الدماء، لتصير خيانات ذهبية. صوت السرطان وهو ينخفض ويرتفع. صوت الطفلة التي يحاربها ظلّها، وهي تعرف، وهم لا يعرفون أنّها تعرف. وقد يستوقفنا كثيرًا، الفقرة المعنونة كالآتي: "آخر ليالي البراءة" (1979). فربما لا يكون القصد فرديًا، بل جيل كامل يتداعى، وحقبة كاملة تنتهي. وليس غريبًا أن يكون كاتب هذه الرواية مهتمًا بالهندسة والعمارة في الثمانينيات، وفي السيكولوجيا في أيامنا. فالعالم أصبح أكثر قلقًا، وأكثر ميلًا للبحث في القلق، أكثر من بحثه في الفنون. الفنون والأدب تتخذ أشكالًا أخرى، وتتبع معايير أخرى. وهذا ليس نقدًا سلبيًا ولا إيجابيًا.
من ناحية أدبية صرف، ليست الرواية مؤثرة وتحمل رسائل وحسب، بل هي متسقة على نحو تام. والترجمة العربية المتقنة التي قام بها المترجم السوري معاوية عبد المجيد تجعل قراءة الرواية بالعربية أمرًا سهلًا ومطمئنًا. في "الطنّان" يغوص ڤيرونيزي في قلب العائلة الإيطالية، من دون أدنى افتعال. على العكس من ذلك تمامًا، هنالك شعور دائم بأن النص يحدث في مكانٍ يعرفه كاتبه جيدًا. أشخاص يعيشون طفولاتهم بفرح، وينظرون إلى مستقبلهم كما نظرت إليه الأجيال القريبة السابقة. ولأنه يتحرك دائمًا في مناطق الطبقة الوسطى، فليس غريبًا أن يكون أبطاله أشخاصًا بسمعة مهنية جيدة. سنجد أيضًا ما نجد في الروايات البرجوازية عن الخيانات، وعن الصدمة الدائمة المتمثلة بالموت، وعن أن الحياة المهنية في النهاية ليست سوى هواء سام لا بد من تنشقه حتى آخر رمق. لا يوغل ڤيرونيزي في الاستعارات الأدبية، ويتكل بوضوحٍ على قدرته الفائقة على سبك الأحداث بإحكام، ثم يتلوها بهدوء، كما لو أنه أنجز عملًا مكتبيًا عاديًا. ومن دون كثير من الجهد، تقدّم "الطنّان" دليلًا إضافيًا، كما أكد ناقدون إيطاليون أيضًا، على أن الأدب البرجوازي ما زال قادرًا على الحياة في إيطاليا. فهو، مع أنه يكتب عن الحاضر، عن قصة حب تحدث غالبًا عبر البريد الإلكتروني، وتدور العلاقات في جو يعترف بسطوة التحليل النفسي وأبعاده على حياة الفرد المعاصر، المنتمي تحديدًا إلى الطبقة الوسطى والمترف بالأنماط الناتجة عنها، إلا أنه يسرد من دون تعثر، تمامًا مثل ألبرتو موارڤيا. مع أنّه معاصر ولغته معاصرة، يدين ڤيرونيزي لهذه المدرسة بامتلاك تلك النظرة إلى العالم، أو بكلماتٍ أدق، بكيفية النظر إلى التفاصيل، إلى كل ما يتعلق بالخير وبالشرّ، عندما يكون الأمر خاصًا، وكيف يصير عامًا، والعكس أيضًا. لا يعترف بالأصول التقليدية لمنطق الرواية، ويفضّل منطق الزمن والحدث. وعبر هذا المنطق يتمكن أبطاله من متابعة ما بدأه موراڤيا عن البرجوازية الإيطالية، بمختلف أحجامها ورواسبها. لكن هذه المرة تشبه حياة الفئة المستهدفة الوقت. يستحسن تسميتهم بأيتام الطبقة الوسطى، الذين يتأرجون بين ذواتهم وبين ذات كونية آخذة في هضم التحولات التي تصيب العالم، من دون امتلاك حدّ أدنى من القدرة على ابتلاعها بلا أضرار.