}

قراءة الخراب ونبوءة الأمل عند لؤي كيالي

هيسم شملوني 11 يونيو 2017
تشكيل قراءة الخراب ونبوءة الأمل عند لؤي كيالي
لوحة "ثم ماذا؟" للفنان السوري لؤي كيالي
أثبت الفنان السوري الراحل لؤي كيالي (1934-1978) في مسيرته الفنية، منذ البدايات وحتى لحظاته الأخيرة، قدرة فائقة في التأثر بالحدث اليومي، وتحويل هذا التأثر إلى صيغة إبداعية تجلّت في العشرات من لوحاته الفنية. ونظراً إلى الديناميكية العالية التي يتمتع بها، فقد استطاع عدة مرات أن يطور أسلوبه، بحيث يصبح أكثر تجدداً وحيوية. وهذا، ما جعله ينتج أعمالاً تشكيلية ببعد إنساني تجلى بأرقى معانيه.


تعتبر لوحته "ثم ماذا؟" ملحمة فنية، ففي هذه اللوحة نجد كيالي قد اعتمد تكويناً أقرب منه إلى التكوين النحتي عن كونه تصويراً، إذ قام بتوزيع كتلتين تكادان تكونان متناظرتين، وفي كل كتلة وضع أربع نساء وطفلاً، وربط بينهما برجل هزيل الجسم في حالة انكسار واضح للعيان. ففي الكتلة الواقعة على يمين اللوحة نجد ثلاث نسوة ينظرن إلى الأعلى بخوف بادٍ، وكأنهن ينظرن إلى حركة سرب من الطائرات في حالة قصف، في حين حملت المرأة الرابعة ذات التعبير من الحزن والخوف، مع فارق أن نظرتها كانت أمامية وكأنها في حالة نبوءة لقراءة المستقبل، والذي سيبدو أكثر بؤساً وانكساراً من مرحلتي النكبة والنكسة على حد سواء.

كذلك نجد في مقدمة هذه الكتلة طفلاً واقفاً يبدو أقل بؤساً، أو ربما يَحْسُن التعبير بالقول إنه أكثر أملاً، فقد كان يحتضن بين يديه طائر حمام أبيض وكأنه يحميه، وكأن الفنان أراد من خلاله أن يرسم أملاً مرجواً لمستقبل أفضل آتٍ.

قوة بناء هذه الكتلة وثباتها وتماسكها تُشعر المتلقي بشيء من الاستقرار والالتحام العائلي - متأثرة بالمناخ القومي الناهض وقت ذاك - رغم تعبير القلق والخوف الذي يخيّم على وجوه أشخاصها.


أما الكتلة الواقعة إلى يسار اللوحة، فهي تحتوي أيضاً على أربعة نسوة وطفل صغير، لكن كتلتها تبدو أكثر حركية وتوزيعاً لونياً من الكتلة الأولى، وفيها تختلف حركات رؤوس النسوة، حيث نجد أن إحداهن تشمخ برقبتها عالياً، ويبالغ الفنان هنا قليلاً بمستوى رسم الوجه الذي يتجه كلّه نحو الأعلى، حتى إن الخط الواصل بين أعلى الجبهة وأسفل الذقن يبدو موازياً للحافة العلوية للوحة.


أما السيدة الثانية التي رفعت رأسها بحركة قد تكون واقعية بعض الشيء، فإن نظرتها العلوية معاكسة لاتجاه نظرات النسوة في الكتلة الأولى، وكأنه أراد من هذه العلاقة التشكيلية إخبارنا عن اتساع رقعة الخطر القادم من السماء. في حين أن المرأتين المتبقيتين تنظران إلى الجهة الأمامية بزوايا ميل ناحية يسار اللوحة، ليفتح أفقاً أوسع على الألم والأمل في آن.

أما الطفل الصغير الذي يبدو أكثر رعباً، فهو يوازي بحركة رأسه رأس السيدة الأولى في توازيها مع الخط الأعلى بحركة تعبيرية قوية الدلالة والتأثير، قابعاً - أي الطفل - تحت جناح أمه في محاولة منه للإمساك أكثر بثوبها. أما الرجل الموجود في منتصف اللوحة، والذي يفترض أنه يشكل محور استقرارها وأصل حكايتها، فإن المبالغة في انحناءة رقبته ورأسه هي ما أوحى بوجود الكتلتين في أعلى اللوحة. فهذا الرجل المنكسر الهزيل الجسم، أراده كيالي التعبير الأقوى والأفصح عن شكل الهزيمة وعمقها في الوجدان العربي والإنساني.  رغم التزامه بتماسك قاعدة التكوين ليبدو ككتلة واحدة في دلالة إلى عمق هذه الأمة وأصالتها.


وقد كتب لؤي كيالي معلقاً على لوحته هذه بالقول: "إنها مأساة ضخمة.. مأساة اللاجئين النازحين عن الأرض المحتلة، مأساة حاولت قدر استطاعتي وإمكانياتي الفنية أن أعطي أبعادها في اللوحة". ففي عام 1965، ومن منطلق تأثره بالحجم الكبير للنكبة الفلسطينية وحالة اللجوء والتشرد التي يعيشها الشعب الفلسطيني، رسم كيالي لوحته الشهيرة هذه التي تعتبر من بين أكبر لوحاته من حيث الحجم. (اللوحة المنفذة بتقنية الألوان الزيتية على خشب وبقياس 190* 172 سم). ربما أراد من استخدامه هذا الحجم وهذا العنوان المثير لها: "ثم ماذا؟"، التعبير عن حجم المأساة وعن مدى سخطه على الواقع الرديء الذي تعيشه الأمة وقتذاك، وأن يضع المتلقي أمام صرخة السؤال في محاولة للبحث عن أمل للخلاص، والمضي نحو مستقبل أفضل كما كان يحلم فيه.


وقد شكلت هذه اللوحة انعطافة قوية في مسيرة الفنان، التي أعطى فيها أسلوبه الجديد في حينه، وحاول من خلاله رسم الملامح الحقيقية للشخصية العربية المستمد من واقع سيئ، ومن بعدها عمد إلى تشويه الوجوه والأيدي لخدمة البناء الأساسي، والأهداف المطروحة، السياسية والاجتماعية. مع خلق حالة واضحة من الصراع بين مساحات الظل والنور، في واقع درامي شديد التأثير، في محاولة مبطنة حيناً وظاهرة أحياناً، للتحريض على الثورة، ورفض الواقع الكئيب. لذا نجد أن كيالي قد قدم صورة الإنسان المسحوق جراء الأزمات، من أجل خلق حالة أمل في النهوض والتقدم والخلاص. وهذا ما عبر عنه الفنان، في قضية الالتزام، في إحدى مقابلاته حين قال: "يتخذ الفن مضموناً جديداً في الرصيد الفكري، ويصبح شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، يكتسب طابعاً نضالياً، وهذا - في جوهره - يعني تمرداً على الواقع، ورفضاً له، ما دام الفن مرتبطاً بالواقع ارتباطاً جذرياً، فإنه لا بد أن يرتبط بواقع الثورة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.