}

عن سينما جورجية جديدة: قسوةُ طبيعة وبهاء صُوَرٍ

نديم جرجوره نديم جرجوره 14 يوليه 2017

يحمل تاريخ السينما في جورجيا مساراتٍ وتحوّلاتٍ، منبثقة من مسار البلد وتحوّلاته، قبل ضمّه إلى الاتحاد السوفييتي السابق، وأثناء ذلك، وبعد تفكِّك المنظومة الشيوعية برمّتها. سينمائيون عديدون يخرجون من سطوة القمع والانغلاق، فيعثرون على منافذ تعينهم على إيجاد مفردات أعمق وأجمل لصناعة أفلامٍ، سيتقدّم بعضها إلى واجهة المشهد السينمائي، محلياً ودولياً، في أوقاتٍ متباعدة.

للإيطالي فيديريكّو فيلّيني (1920 ـ 1993) وصفٌ لسينما جورجيا، خلال الحقبة السوفييتية، يُمكن الركون إليه في أزمنتها المختلفة: "إنها أشبه بظاهرةٍ غريبة، راقية وصاعقة" في آن واحدٍ. هذا ـ بشكلٍ أو بآخر ـ ينسحبُ عليها لغاية الآن، في حقبةٍ راهنة، تستمرّ في رفد المشهد الدوليّ بأفلامٍ، لن يكون وصفها بـ"الرائعة" ـ على الأقلّ ـ مبالغا فيه.

 


حضورٌ دولي ونفورٌ داخلي

تاريخياً، سيتعرّف المشاهدون السينمائيون الغربيون على تلك السينما، بفضل نتاجات سينمائيين، يُغادر بعضهم بلده باكراً، للإقامة في إحدى دول القارة العجوز، التي تنتمي جورجيا إليها جغرافياً، من دون تناسي امتداد بعض تلك الجغرافيا إلى آسيا. فأحد ألمع السينمائيين الجورجيين وأهمهم، دولياً على الأقلّ، أُوْتَار إيوسِّيلياني (1934)، ينتقل إلى باريس عام 1982، ويبقى فيها لغاية اليوم. في حين أن نانا دْجوردجادْزي (1948) تنال جائزة "الكاميرا الذهبية"، عن "مِحَن جدِّي الإنكليزي في بلاد البلاشفة"، في الدورة الـ40 (7 ـ 19 مايو/أيار 1987) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ.

لكن ميخاييل كالاتوزوف (1903 ـ 1973) يبقى أوّل سينمائيّ "سوفييتي" من جورجيا ينال الجائزة الكبرى (السعفة الذهبية) في مهرجان "كانّ"، بفضل "عندما تمرّ اللقالق"، في الدورة الـ11 (2 ـ 18 مايو/أيار 1958). قولٌ للسينمائيّ الفرنسيّ إيريك رومر (1920 ـ 2010) عن الفيلم، يختزل معنى الصورة السينمائية، المُقدَّمة في هذا الفيلم تحديداً، أو في "صناعةٍ" سينمائية مُنتَجة في ذاك البلد، بشكلٍ أعمّ: "في هذا الفيلم، نعثر على كلّ شيء: عمق الحقل السينمائي والحدود القصوى للصورة السينمائية، المعتَمَدة لدى أورسن ويلز (1915 ـ 1985)؛ اللقطات البهلوانية، كما لدى (ماكس) أُفولُس (1902 ـ 1957)؛ ذوق الزخرفة، بحسب أسلوب (لوكينو) فيسكونتي (1906 ـ 1976)؛ وأسلوب "أكتورز استديو" في التمثيل".

مُقتَبَسٌ من مسرحية للروسي السوفييتي فيكتور سيرغيافيتش روزوف (1913 ـ 2004)، يتناول فيلم كالاتوزوف زمن الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، كحيّز إنسانيّ مفتوح على أسئلة الحبّ والخيانة والقمع والأهوال والجريمة والمعنى الأخلاقي للأفعال، عبر حكاية فيرونيكا (تاتيانا سامويلوفا، 1934 ـ 2014؛ تنويه خاص بالتمثيل، في مهرجان "كانّ" 1958، عن دورها هذا)، التي يغتصبها قريبٌ لخطيبها، الملتحِق بكتيبته العسكرية في إحدى الجبهات، ما يجعلها، لاحقاً، تنتبه إلى أهوال تلك الحرب ومآسيها، عبر تطوّعها للعمل في خدمة الجرحى.

في مقابل هؤلاء، تُخرِّج "كلية السينما والتلفزيون"، التابعة لـ"جامعة الدولة للمسرح والسينما (شوتا روسْتافيلي)"، سينمائيين شبابا، قبل تفكّك الاتحاد السوفييتي، ونيل جورجيا ـ كبقية دول الاتحاد السابق وشعوبها ـ استقلالها. لاحقاً، تبدأ الجامعة الوطنية في تبليسي (عاصمة جورجيا)، بفضل كليّتها الخاصّة بالمسرح والسينما، في تخريج سينمائيين عديدين، منهم جورج أوفاشفيلي (1963) ومريم خاتشْفاني (1986)، اللذان يُشاركان ـ بفيلميهما الجديدين (2017)، "كيبولا" و"ديدي" ـ في الدورة الـ52 (30 يونيو/حزيران ـ 8 يوليو/تموز 2017) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائيّ الدوليّ".

 


شعرٌ وواقع سلبيّ

يؤخذ على أفلام حقبة التسعينيات المنصرمة، تحديداً، إسرافها في النَفَس السلبيّ، في قراءة واقعٍ وحكاياتٍ، وأحوال بيئةٍ واجتماعٍ وأفراد. لكن مأخذاً كهذا ـ يقوله عديدون ـ يتغاضى عن "سلبية" الواقع الناشئ من تقلّبات الزمن وتبدّلات الجغرافيا، في تلك البلاد، كما في محيطها. فبعد المنحى الشعريّ في أفلام أُوْتَار إيوسّيلياني، التي توغل في الهذيانيّ أحياناً ـ والتي تكتسب شهرةً كبيرةً لها في "أوروبا الغربية" ـ ينشأ جيل سينمائيّ جديد، متأثّر بالحرب الأهلية الجورجية (1991 ـ 1993)، فيُنجز أفلاماً تعاين تلك الحرب ومناخاتها، كـ"طفولتنا في تبليسي" (2013) للثنائي تيونا مَغْفديلَدزي (1977) وتييري غرونادي (1975)؛ أو معارك الانفصال، في الحقبة نفسها أو قبلها، كـ"جزيرة الذرة" (2014) لأوفاشفيلي نفسه، الفائز ـ عن فيلمه هذا ـ بـ"كرة الكريستال (الجائزة الكبرى)"، في المسابقة الرسمية للدورة الـ 49 (4 ـ 12 يوليو/تموز 2014) لـ"مهرجان كارلوفي فاري".

الجيل السينمائيّ الجديد سيلتقط صورةً أخرى، معنيّة بالاجتماع المدنيّ، لتأثّره بالحقبة اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفييتي ـ كما باللحظة السابقة للانهيار، بتداعياتها وارتباكاتها وانقلاباتها ـ وبمخلّفات تلك الحقبة وآثارها السلبية، كما في "إِكا وناتيا، يوميات شبيبة جورجية" (2013) لنانا إكْفتيمشفيلي (1978)، و"المتزوّجون" (2014) لتيناتان كاجْريشفيلي (1978)، و"ابتسموا" (2011) لروسودان شْكونيا (1978): هؤلاء سينمائيات شابات يُشاركن، ولو ببطء إنتاجيّ، في تفعيل تلك الصورة التجديدية للسينما الجورجية، كمحاولةٍ لتعرية ماضٍ قريبٍ، والبحث في أحواله ومآزقه وتصدّعاته، ومعاني انقلاباته وتبدّلاته.

سيكون صائباً القول إن لمريم خاتشْفاني، أيضاً، دوراً في ذلك كلّه؛ وما "ديدي" إلاّ إشارة عميقة إلى هذا النوع من الاشتغال البصري، المنبثق من حكاية فردية بحتة، عن الحب الصعب والصداقة الموؤودة والخضوع لسطوة تقاليد قديمة تُحطِّم المرء، وتمنع عنه كلّ إحساس شفّاف وصادق بانفعالٍ ذاتي، أو برغبة شخصية، أو بمسعى جدّي إلى تحقيق ما يُمكن أن يصبو إليه الفرد.

اختيار مطلع تسعينيات القرن الـ20 كزمنٍ لسرد حكايتي "كيبولا" و"ديدي" (تدور أحداث الأول عام 1991، والثاني عام 1992) وما يتسرّب منهما كأنماط عيش وعلاقاتٍ ومناخات مختلفة، دليلٌ على التأثيرات العميقة، الناتجة من سقوط الاتحاد السوفييتي، أو عشية سقوطه، في ديسمبر/كانون الأول 1991. تأثيرات تُصيب أناساً وبلداً واجتماعاً، باقتصاده وأنماط عيشه وثقافته، وتُعيد طرح أسئلة الهوية والانتماء والعلاقة بالسلطة وثقل الإيديولوجيا، في مسالك الناس وأفكارهم وانفعالاتهم.

 

زمنٌ واحد وأسلوبان مختلفان

"سلبية" النص السينمائي في أفلام سينمائيين شباب، وغالبيتها الساحقة مُنتجة بفضل مشاركات أوروبية (فرنسية وألمانية تحديداً)، لن تمنع تلك الأفلام من أن تبرز في المشهد الدولي: "الشهرة الدولية تتفوّق، أحياناً، على تلك المحلية"، يقول متابعون. بعض هؤلاء يُضيف أن "المدرسة السينمائية الجورجية الجديدة" تلك تحاول الاستمرار في هذا النهج، "من دون تناسي البُعد الشعريّ، الخاص بجذور السينما في جورجيا، وآلية الخلق الإبداعي، التي تتمتّع بها". هذا كلّه "لن يكون ضد الاستبداد المتنوّع للحقبة السوفييتية، بل ضد استبدادٍ (لا يزال) يُلاحق الفرد، ويعزله داخل بيئته".

لعل قولاً كهذا يفي، إلى حدّ كبيرٍ، فيلمي "كيبولا" و"ديدي" حقّهما الإنساني والأخلاقي، وجماليات مزجهما البصري ـ مع الاختلاف الواضح بينهما في المعالجة السينمائية، والقيم البصرية والجمالية والدرامية ـ بين بهاء الطبيعة الجورجية في الجبال الغارقة بثلوجها وصقيعها، وقسوتها الوحشية أيضاً، وبين تعرية مسالك بشرية تنتهج التسلّط والقمع، باسم السياسة أو العقيدة (الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية)، في علاقتها بالآخرين، أو تحاول أن تحافظ على مكسبٍ ديمقراطي، تنقضّ عليه ثنائية التسلّط والقمع نفسها.

والبُعد الشعريّ أساسيٌّ في لغة الصورة، وفي كيفية مقاربة الحكايتين، اللتين تختلفان في مضمونهما لوهلةٍ أولى، قبل أن يتبيّن المشترك بينهما، في مقارعة واقعٍ مستبدٍّ وقاسٍ وإلغائيّ، وفي المسعى الفرديّ ـ الذاتيّ البحت إلى تفعيل كل مواجهة ممكنة، ضد محاولات انتزاع خصوصية الفرد منه، ككائن حيّ، له عوالم وأحلام وهواجس وانفعالات.

لكن المشترك الدرامي بينهما لن يحجب اختلاف أسلوبي العملين، إخراجياً وبصرياً وفنياً، وطريقة معالجة. ففي مقابل امتلاك "ديدي" ـ الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ52 (2017) لمهرجان كارلوفي فاري ـ حساسية سينمائية أعمق وأجمل، يذهب "كيبولا" إلى نمط تقليدي في سرد حكاية رئيس جيورجي مخلوع (تأدية الممثل الإيراني حسين محجوب، 1948)، في رحلة بحثٍ ـ إنساني وأخلاقي ـ عن معانٍ مرتبطة بالحياة والالتزام ومعنى السلطة والديمقراطية، وأهوال القمع والتسلّط. وفي مقابل المسار التدميري البطيء للحبّ، بـ"اغتصابه" بسبب تقاليد أو انفعالات أو صدامات، يحاول "ديدي" رسمه (المسار) بشفافية وجمالية وسحر، تتماهى كلّها مع المعطيات المختلفة التي تمنحها الطبيعة، بتناقضاتها الجمّة، المتوافقة مع تناقضات الطبيعة البشرية (الفردية والجماعية)؛ يحاول "كيبولا" بلوغ تلك المرتبة الرقيقة من الحس الانفعاليّ، لكنه يسقط في رتابة السرد البطيء، والإيقاع الأبطأ لمسار فرد وجماعة، أيضاً.

 

نماذج

وإذْ يلتقط "كيبولا"، مساماً خفياً في علاقة رجل سلطة (وإن يكن مخلوعاً، فهو لا يزال محبوباً) بمواطنين عاديين، مطلع تسعينيات القرن الـ20؛ فإن "ديدي" يغوص في حالات الحبّ وسطوة التقاليد وصقيع الطبيعة في بلدة جبلية، في الفترة الزمنية نفسها لـ"كيبولا"، لالتقط شيء من خصوصيات ذات وانفعالٍ، وبعض معاني التمرّد والخيبات.

فالأول مستوحى بحرية مطلقة من الأيام الأخيرة للرئيس زفِيَاد غامْساكورديا (1939 ـ 1993)، أول رئيس جورجي مُنتخَب ديمقراطياً (26 مايو/أيار 1991)، سيُتوفّى ـ في 6 يناير/كانون الأول 1993 ـ "في ظروف غامضة" (في بلدة "كيبولا" في جورجيا)، لن يكشفها الفيلم، ولن يتطرّق إليها، ولن تعنيه، لانهماكه في التقاط نبض الأسابيع القليلة السابقة لهذا "الموت الملتبس" (أهو انتحارٌ أو اغتيال؟). بينما الثاني يستمدّ قصّته من وقائع متداولة في بيئات كثيرة، محوّلاً إياها إلى "قصيدة" سينمائية، تروي التمزّقات التي تُلاحق دينا (ناتيا فيبْلِياني)، المقيمة في عزاء لا ينتهي، جراء موت حبيب، وانتحار عاشق، وسطوة محبّ، في بلدة جبلية تخضع لتقاليد تمزج طقوساً مسيحية بعادات اجتماعية صارمة ومنغلقة.

فيلمان جديدان يُقدّمان إضافة سينمائية جمالية، وإن مختلفة القيم البصرية والجمالية وأسلوب المعالجة والمضمون الدرامي، عن سينما جورجية، تلتحق بسينما أوروبا والغرب، وتمتلك حساسيتها الفنية والإنسانية المنبثقة من بيئتها، والمنفتحة ـ في الوقت نفسه ـ على العالم.

 

* ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.