}

"دانكرك" لكريستوفر نولان: انتصار غريب أم التباسات سينمائية؟

نديم جرجوره نديم جرجوره 4 أغسطس 2017



لن يكون سهلاً التغاضي عن الاحتفال الصحافي والنقدي والإعلامي الغربي بـ "دانكرك" (2017)، جديد البريطاني الأميركي كريستوفر نولان (1970). الإيرادات الدولية، التي تنشرها مواقع مختصّة بصناعة السينما الأميركية، تشي بحالة غليان جماهيري، إزاء فيلمٍ يستعيد مأزقاً يعانيه جنود بريطانيون (380 ـ 400 ألف جندي)، بمحاصرتهم من قِبل النازيين في المدينة الساحلية الشمالية الفرنسية "دانكرك"، ربيع 1940، والعمل على إنقاذهم، في إطار عملية إجلاء معروفة باسم "دينامو".


في كثافة الاحتفال


والاحتفال غير مُقتَصر على الفيلم كنتاجٍ سينمائيّ، يُساهم فيه أحد أكبر الاستديوهات الهوليوودية (وارنر براذرز)، علماً أن النصّ معقودٌ على حكاية بريطانية أوروبية بحتة. فهو (الاحتفال) ممتدٌّ إلى التاريخ، والمعدات العسكرية المستخدمة حينها، والوقائع والوثائق والمعطيات الخاصّة بالعملية وظروفها ومساراتها وشخصياتها، بالإضافة إلى حوارات مع متخصّصين وباحثين؛ إذْ تُصدر مجلات علمية مختلفة ملفات أو أعداداً خاصّة بـ "دانكرك"، المدينة والحدث والعملية، مستعيدةً فيها الفترة الزمنية تلك (20 مايو/ أيار ـ 4 يونيو/ حزيران 1940)، بجوانبها المختلفة، طارحةً أسئلةً، يتعلّق بعضها بالتباسات ومواقف "لا إنسانية" لقادة سياسيين وعسكريين، وبمعانٍ ناتجة منها.

موقع "ويكيبيديا" مثلاً، بنسخته الفرنسية، يُقدِّم معلومات كثيرة تتعلّق بالفيلم وصناعته، وبالمدينة وأحوالها وموقعها وتاريخها، وبعملية الإجلاء وأدواتها ومساراتها، إلخ. ومن الموقع نفسه، تُفتَح روابط تتيح للمهتمّ مزيداً من التفاصيل والحكايات. هذا وحده كافٍ للاطّلاع على الجوانب المختلفة لصناعة الفيلم، وللحدث أيضاً. في حين أن المجلة الفرنسية "حروب وتاريخ" تنشر ـ في عددها الصادر في يونيو/ حزيران 2017 ـ ملفاً خاصّاً بالعملية، بعنوان "دانكرك 1940 ـ الانتصار الغريب"، علماً أن المقالة الأساسية فيه، لكاتبها بيار غرمبورغ، تسرد المسار التاريخي اليومي ليوميات الحدث نفسه، بعنوان مثير للانتباه: "معجزة الهزيمة".



أما الإيرادات الدولية، فتحتلّ مكانةً أساسية في الصناعة السينمائية، ما يجعل التنبّه إليها، بين حينٍ وآخر، ضرورياً. فـ "دنكرك"، المحتفى به منذ أسابيع عديدة تسبق إطلاق عروضه التجارية الدولية، يُحقِّق ـ في الأيام الـ 10 الأولى فقط (21 ـ 31 يوليو/ تموز 2017) ـ 236 مليوناً و141 ألفاً و608 دولارات أميركية (بوكس أوفيس موجو)، مقابل ميزانية إنتاجية تساوي 100 مليون دولار أميركي (IMDb)؛ علماً أن كريستوفر نولان يعقد اتفاقاً مع "وارنر براذرز" يقضي بتقاضيه 20 بالمائة من الأرباح.


أسئلة التاريخ والسينما


للمؤرّخين أن يناقشوا مدى التزام السيناريو (كريستوفر نولان) "الأمانة التاريخية" في سرد الحكاية، أو في تصويرها، علماً أن هذا غير مفروضٍ كلّياً في نتاج فني سينمائي، يمتلك حرية مطلقة في عمل يختلف عن الوقائع، التي لن يكون سهلاً التأكّد منها بشكلٍ مطلق، وإن يُعتَبر التاريخ علماً مبنياً على حقائق. فالملفات المختصّة تثير شكوكاً حول العملية وأهدافها وكواليسها السياسية، بينما ينأى الفيلم بنفسه عن التعمّق بها، وإنْ يُلمِّح إلى بعضها في لحظات درامية أساسية ومفصلية. والتساؤلات المطروحة حول سبب "امتناع" النازيين (لن يظهروا في الفيلم إلّا بلقطات بعيدة، خصوصاً أثناء بعض المعارك الجوية، من دون أن تنكشف ملامحهم أمام الكاميرا؛ ولن تُذكر أسماؤهم لا في "جينيريك" البداية، الذي يُقدِّم لمحة مختصرة عن مضمون الفيلم، ولا في الغالبية الساحقة من الحوارات) عن ارتكاب "مجزرة" بالجنود البريطانيين والفرنسيين ـ المنتظرين خلاصاً لهم من هذا الفخّ على شاطئ مفتوح أمام الطائرات والدبابات، خصوصاً مع تقدّم المشاة النازيين باتّجاه الشاطئ ـ لن تعثر على مكانٍ لها في السياق الدرامي، المعقود على سردٍ طويلٍ لعملية الإجلاء، ولكيفية تنفيذها، ولحالات القلق والخوف والاضطراب التي سيعيشها جنود كثيرون في رحلة العودة، وللمسار الخاص بمدنيين ينوون إنقاذ أبناء بلدهم من أي موتٍ ممكن.


فالسرد الطويل مبنيٌّ على تداخل بالزمن، يُراد له تقطيع السياق الدرامي بفصولٍ مختلفة، ستلتقي كلّها في نهاية المطاف، عند خطاب "وطنيّ" منقول عن ونستون تشرشل نفسه (1874 ـ 1965)، مُلقى بعد وقتٍ قليل على "نجاح" عملية الإجلاء، التي سيُشارك فيها مدنيون (أصحاب مراكب ويخوت مختلفة الأنواع والأحجام). والتلاعب بالزمن لن يكون متباعداً في الأوقات، لأن الحكاية كلّها ممتدة على 22 يوماً فقط، سيُحاول التوليف (الأوسترالي لي سميث، 1960) إيجاد توازن بصري ـ يستكمل التوازن الدرامي ـ بين 3 فصول أساسية: حكاية جنود شباب ـ أبرزهم تومي (البريطاني فيون وايتهاد، 1997) ـ ينضمّ إليهم فرنسي متنكر بزيّ عسكري بريطاني، يجتهدون للخلاص من هذا الجحيم؛ الطيارون الـ 3 ـ بينهم قائد السرب فاريير (البريطاني توم هاردي، 1977) ـ الذين يُفترض بهم حماية بواخر عسكرية بريطانية في عرض البحر، أو على شاطئ دانكرك نفسه؛ والرحلة البحرية لمدنيين، يظهر منهم السيد داوسن (البريطاني مارك ريلانس، 1960) في واجهة المشهد، مطلوبٌ منهم إنقاذ أكبر عدد ممكن من الجنود.


سيتخلّل هذا كلّه لقطات للضابط في البحرية الملكية، الكومندان بولتون (البريطاني كينيث براناه، 1960)، المُشرِف على عملية الإجلاء، تعكس وقائع تاريخية، وتُقدِّم منعطفات ما في مسار العملية، وتفضح شيئاً من عفن السياسة والسلوك العسكري؛ وهذا كلّه باختصار درامي كبير، وتكثيف بصري أكبر.




اختلاف الصورة



غير أن "دانكرك" مختلف تماماً عن أفلامٍ تُعتبر الأهم ـ سينمائياً ودرامياً وجمالياً ـ في صناعةٍ مهتمّة بالحروب. ففي مقابل التساؤلات الوجودية، المطروحة في "خيط أحمر رفيع" (1998) للأميركي تيرينس ماليك (1943)؛ والأسئلة الإنسانية والحياتية والسلوكية ـ حول الحرب والتضحية والوفاء ومعنى النزاع بين الذات والآخر، وغيرها ـ التي يتناولها "إنقاذ الجندي راين" (1998) للأميركي ستيفن سبيلبيرغ (1946)، وهما متعلّقان بالحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)؛ والمقاربة السينمائية للعنف ومساربه وأسبابه وعوالمه ونتائجه، المتأتية من أهوال الحروب ومشاغلها وجنونها ومتاهاتها النفسية والروحية والذاتية، كما في أفلام الأميركيين ستانلي كيوبريك (1928 ـ 1999) ومايكل تشيمينو (1939 ـ 2016) وأوليفر ستون (1946) مثلاً، المتعلّقة بحرب فيتنام (1955 ـ 1975)؛ يتفرّد جديد كريستوفر نولان بابتعاده المطلق عن هذه العوالم والعناوين كلّها، منصرفاً إلى نقل توثيقيّ دقيق لعملية الإجلاء، مشغول بحرفية سينمائية واضحة، من دون أدنى اهتمامٍ بمصائب نفسية، وأعطالٍ روحية، وتساؤلات وجودية، وتأمّلات إنسانية.


وهذا، بحدّ ذاته، يحوّل التوثيق إلى متخيّل يُعيد رسم الوقائع بشكلٍ سينمائيّ، تمنحه الموسيقى (الألماني الأميركي هانس زيمّر، 1957) ـ الموزّعة على 11 مقطوعة تساهم في إثارة مزيد من الترقّب والارتباك والإحساس بضغوطٍ يعيشها الجنود والمدنيون والقادة الميدانيون ـ أبعاداً نفسية تُدخل المُشاهد في صلب الحكاية، وتدفعه إلى اختبار الحالة برمّتها، في 107 دقائق، ستكون مغامرة لن تُسهِّل على الجميع تأسيس علاقة بالفيلم وحكايته، لشدّة انغماس الفيلم وحكايته في تقديمٍ توثيقيٍّ، مُنزّه عن كلّ بُعدٍ آخر، لموضوعٍ يمتلك خصوصية تاريخية ما، سيكون مرادفه السينمائيّ متحرّراً من كلّ إسقاطات وجودية وثقافية وتأملية مباشرة وواضحة.


أسلوب كريستوفر نولان يمنح "دانكرك" خصوصيةً، تتمثّل بتفرّده في جعل الروائي توثيقاً جمالياً (مثيراً لمتعة المُشاهدة) لتلك العملية؛ وهو لن يَحُول دون التنبّه إلى الاختلاف الجذري بينه وبين أفلام سابقة له، تطرح تساؤلات ـ جمّة وعميقة وحادة وأساسية ـ عن أحوال الفرد وذاته، وعن علاقات الفرد وانشغالاته، وعن هواجس الفرد وتخبّطاته. فهو من أخرج "الرجل الوطواط" ـ في "بداية الرجل الوطواط" (2005) و"فارس الظلام" (2008) و"نهوض فارس الظلام" (2012) ـ من كلاسيكية حضوره السينمائيّ وقداسة أسطوريته، مبتكراً بدايات سابقة على إطلالاته المعروفة، وصانعاً من هواجسه وارتباكاته مدخلاً إلى تفكيك الشخصية وموقعها الإنساني، لإعادة بنائها وفقاً لأسئلة العصر، وللجماليات الغامضة والغرائبية في تشييد العمارة السينمائية وديكوراتها، وللعوالم الداخلية لشخصياتها أيضاً. وهو من ألغى الحدود والفواصل بين الواقع والمتخيّل في يوميات الفرد، ومن فتح أبواب الأحلام والهواجس والكوابيس على الاحتمالات والمصائر والمصائب والمواجع كلّها، كي تروي حكاياتها عبر انغماس الفرد في بواطنها وخفاياها، كي يكشف ويفضح ويُعرّي شيئاً من المفردات التي تصنعه، رافعاً من شأن النفس البشرية، بعقَدها واضطراباتها وانكساراتها ومتاهاتها ومواجعها، وباحثاً فيها عن التناقضات وأسئلتها كلّها، المتحكّمة بالفرد ومساره الحياتي. الأمثلة عديدة: "مومنتو" (2000)، و"أرق" (2002)، و"استهلال" (2010)، بشكل أساسيّ.


هذا مختلفٌ. لن ينتمي "دانكرك" إلى تلك المفردات السينمائية، ولن يكون امتداداً لاشتغالاتٍ تحفر في أعماق الذات البشرية، وفي متاهات روحها وتناقضات مشاعرها. في "دانكرك"، يكتفي كريستوفر نولان بتصوير (الهولندي السويدي هُوْيتِي فان هُوْيتِما، 1971) ملامح الشخصيات، الأساسية والهامشية، تاركاً إياها تُعبِّر عن مشاعرها وأسئلتها ومخاوفها وانزعاجاتها وأهوال اختباراتها، من دون إضافات درامية أو فنية.


لذا، يبدو "دانكرك" اختباراً سينمائياً لكريستوفر نولان، يتيح له التوغّل في الأسئلة نفسها، التي يعتاد طرحها، لكن ـ هذه المرّة ـ من دون طرحها. وهو اختبار إضافي لمُشاهدي أفلام كريستوفر نولان، إذْ سيخوضون مع "دانكرك" وعبره تجربة استثنائية في قراءة أهوال تاريخ، وخراب ذوات، وتصادم مصالح، ومغامرة صورة سينمائية مختلفة.


(*) ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.