}

"الاغتيال السياسي اللبناني": فاعلٌ في البلد... غائبٌ في السينما

نديم جرجوره نديم جرجوره 5 أبريل 2018
سينما "الاغتيال السياسي اللبناني": فاعلٌ في البلد... غائبٌ في السينما
ساحة الشهداء/ بيروت/ يوم 14 آذار

لماذا يبتعد السينمائيون اللبنانيون عن جريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري، في 14 فبراير/ شباط 2005؟ ما الذي يجعلهم يتردّدون أمام لحظة تحوّل جذريّ في المسار المرتبك للسلم الأهلي الهشّ والناقص، كتلك اللحظة بالذات، التي تُعتَبر منطلقًا جديدًا لحربٍ أهلية من نوع آخر؟

سؤالان يؤدّيان إلى تساؤلات عديدة اخرى: أإلى هذا الحدّ يُرْبِك "اغتيالٌ سياسي" مخرجين، ينهل بعضهم من أحوال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) ما يراه مناسبًا لقولٍ أو بوحٍ أو كشفٍ أو تعريةٍ، وإنْ تكن نتيجة هذا كلّه، غالبًا، منع العرض، ورفض فكرة العودة إلى حربٍ منتهية، بالنسبة إلى لبنانيين كثيرين، يخشون مواجهتها، ويقلقون إزاء الوقوف عراة أمام مرايا الذات والروح والذاكرة؟ أإلى هذا الحدّ يُرْبِك "اغتيالٌ سياسي" سينمائيين كهؤلاء، غير آبهين ـ أصلاً ـ بمخاطر التوغّل في ملفاتٍ، إنسانية أولاً وأساسًا، مأخوذة من أحوال أفراد وجماعات في أزمنة لبنانية مضطربة، وهي ملفات يُراد لها التغييب المطلق؟ أم أنهم غير مهتمّين بفعل جُرمي كهذا، بأبعاده وخلفياته المختلفة؟

لكن، أليس "الاغتيال السياسي" مادة دسمة لابتكار جماليات سينمائية، لن يكون المطلوب منها أن تحاصر نفسها بفعل الاغتيال بحدّ ذاته، أو بمعناه اللبناني الضيّق، بل بأسئلة كثيرة محيطة به، وبعيدة عن المعنى السياسي اللبناني المباشر؟ أم أن التخبّط، المتنوّع الأشكال، الذي يُقيم فيه البلد وناسه منذ لحظة الاغتيال (بل منذ أعوام مديدة سابقة عليه)، أقوى من أن يُثير رغبة في مقاربة موضوعٍ كهذا، باحتمالاته وهواجسه ومخاوفه وتعقيداته ودهاليزه كافة؛ وبتداخل المصالح وتشابك المنافع المحلية والإقليمية والدولية، عند الشخصية نفسها، وفي فعل الاغتيال أيضًا؟

 

تساؤلات

لا إجابات حاسمة ونهائية على أسئلة كهذه. تخطر الأسئلة في البال، فتُقام مقارنات بين اهتمامٍ ـ متنوّع الأشكال والنتائج ـ بأحداثٍ مصيرية وتحوّلات عميقة وجذرية وخطرة (ومنها الاغتيال السياسي) في بلدان أخرى، يُنتِج (الاهتمام) أفلامًا تستلّ حكاياتها من تلك الأحداث، إنْ يكن زمن الأحداث قريبًا أو بعيدًا؛ وبين غيابٍ تامٍ لاهتمامٍ لبناني بجريمة، تؤدّي إلى تفعيلٍ عميقٍ وقاسٍ لكلّ أصناف الشروخ اللبنانية، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والإعلام والمسالك والعلاقات. وهي جريمة تُشبه جرائم أخرى منفَّذة قبيل اندلاع الحرب وأثناءها وبعدها، أيضًا.

مع هذا، لن تكون قلّة المال، أو انعدام الإنتاج أو التمويل أو المنح سببًا مقنعًا؛ ولن يُشكِّل غياب المخيّلة والابتكار سببًا مقبولاً؛ ولن يتمكّن أحدٌ من القول إن مسألة كهذه تحتاج إلى جهود وإمكانيات، فالجهود والإمكانيات والقدرات والبراعة أمور حاصلةٌ في نتاجات لبنانية مهمّة وسجالية وأساسية في صناعة صورة سينمائية لبنانية، والأمثلة عديدة: أفلامٌ ـ يغلب عليها الوثائقيّ المُبْتَكر أو المتخيَّل ـ تغوص في "محرّمات" داخل الكيان اللبناني المضعضع والهشّ، وفي الذاكرة اللبنانية الممنوعة أو المعطَّلة، فيكون مصيرها المنع من قِبل جهاز أمني، محميّ بقانون قديم وسلطات مستمَدَّة من قوّة النظام اللبناني الطائفي ـ المذهبي. أفلامٌ يُنقِّب صانعوها في الحكايات المنسية، والحقائق الممنوعة، والوقائع المغيَّبة، كي تُحرَّر الذاكرة ـ الفردية والجماعية ـ من براثن التجهيل والرفض والنسيان.

لكن الاغتيال السياسي غير حاضرٍ في صناعة الفيلم اللبناني، الروائي تحديدًا، والوثائقي غير مهتمّ بملفٍ كهذا إلاّ نادرًا، وغالبًا من أجل هدفٍ يتخطّى القراءة الدرامية والجمالية لفعل الاغتيال ونتائجه مثلاً، أو للشخصية المغتالة ومساراتها وهواجسها وعلاقاتها ومكانتها. وإذْ يُقال كلامٌ كهذا، فإن الوثائقي "كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة" (2015) لهادي زكّاك، مثلاً، يبقى أحد الأفلام اللبنانية (الوثائقية والروائية) النادرة المعنية باغتيالٍ سياسي، لكن من خلال سرد حكاية الشخصية المغتالة. في المقابل، فإن التلميحات المتعلّقة بالاغتيال، أو بشخصية سياسية فاعلة، التي يُمكن لأفلامٍ روائية أن تتضمّنها، تبقى مجرّد تلميحات ضمن سياق درامي وجمالي وإنساني مختلف، علمًا أن تلميحات كهذه تؤدّي، أحيانًا، إلى الامتناع عن منح الفيلم إجازة عرض، قبل حذف التلميح: "بيروت بالليل" (2011) لدانيال عربيد مثلٌ على ذلك، بسبب لقطة يُقال فيها إن لدى إحدى الشخصيات "معلومات" عن اغتيال الحريري (وهذا قولٌ درامي بحت، يتلاءم وسياق الأحداث وزمنها في الفيلم).

اغتيال رفيق الحريري ـ كأي اغتيال سياسي لبناني آخر ـ دعوة إلى التوغّل، أكثر فأكثر، في أحوال الحرب الأهلية، ملتبسة النهائيات، والسلم الهشّ والناقص، وإلى اختراق المحرَّم في السياسة والديموغرافيا والجرائم والاجتماع والعلاقات والفوضى والخراب، وإلى نبش المخبّأ في متاهات بلدٍ مُصاب بأعطابٍ يُراد لها أن تدوم. اغتيال الحريري لن يختلف كثيرًا عن سلسلة اغتيالات سياسية واقعة أثناء الحرب الأهلية نفسها، أو في مرحلة لاحقة للنهاية المزعومة لتلك الحرب، ولاغتيال الحريري (من دون تناسي سلسلة الاغتيالات الحاصلة قبل اندلاع الحرب أيضًا)، وكلّ واحد منها مفتاحٌ إلى مداخل شتّى في حراكٍ لبناني مضطرب ومنشطر ومُثير لقلاقل غير منتهية؛ وإلى أنماطٍ سينمائية مختلفة، كالفيلم البوليسي والتشويقي والسياسي، مثلاً.

ورغم أن سينمائيين لبنانيين عديدين يكسرون حاجز الخوف من مقاربة ذاكرة معطّلة، وماضٍ مقموع، وحكايات ملغاة، وملفات عالقة، ومسارات ملتبسة في التاريخ اللبناني، أقلّه منذ الاستقلال المشوّه (1943)؛ إلاّ أن سؤال الاغتيال السياسي اللبناني عامة يَمْثُل أمام قراءة علاقة السينما في لبنان بتاريخ البلد، وأحوال اجتماعه، وعلاقات ناسه بعضهم ببعض.

 

الاغتيال والسينما

وإذْ يؤدّي كلُّ اغتيال سياسي لبناني إلى مزيدٍ من الخراب والفوضى والموت والتمزّقات، فإن الاغتيالات الحاصلة بعد النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية، أي في مرحلة السلم الملوّث والمرتبك وغير الثابت، تُساهم في الحؤول دون كلّ مصالحة حقيقية مطلوبة، وفي منع كلّ توافق سلمي جذري، وفي التأسيس لمزيدٍ من الانفعالات المرتبطة بحروب مؤجّلة، أو بمعارك يومية تتلطّى في أشكالٍ كثيرة.

رغم هذا كلّه، تبدو السينما "منزّهةً" عن معاينة هذا الفعل الجُرميّ بمستوياته كافة: فالاغتيال جريمة قتل، والاغتيال السياسي إضافة دموية على المسار العنيف للنزاعات، والشخصيات المُغتالة ـ وبعضها مقتولٌ عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 أبريل/ نيسان 1975، ويُعتَبر اغتيالها أحد أسباب اندلاعها ـ موزّعة على عائلات سياسية وطائفية ـ مذهبية لبنانية، بعضها الأول ساعٍ إلى إنهاء الحرب، والتواصل مع الطرف اللبناني الآخر، رغم رفض المسيطِر على البلد برمّته أي شكل من أشكال الحلول السلمية واللقاءات الوطنية والمصالحات الحقيقية؛ وبعضها الثاني راغبٌ في سلمٍ جدّي وعميق وثابت؛ وبعضها الثالث متشنّجٌ في مقارباته اللبنانية والعربية والدولية، وهذا سببٌ من أسباب الاغتيال السياسي أيضًا.

كلُّ شخصية سياسية مُغتالة أثناء الحرب الأهلية أو في مرحلة السلم الهش والناقص ـ وبعض المغتالين رؤوساء جمهورية أو مجالس وزارية، بالإضافة إلى قادة سياسيين وزعماء طوائف ورجال دين، ينتمون إلى ساسة الصف الأول أو غيره من الصفوف ـ تمتلك حالة مؤثّرة في الاجتماع والوجدان والمنطق اللبناني، ولها جماهيرها ومريدوها ومروّجو "فكرها" والحريصون على "ثقافتها" والمدافعون، بشراسة، عن "إيديولوجيتها". كما أن فعل الاغتيال بحدّ ذاته عاملٌ مؤثّر في تفعيل الحرب وتأجيج نزاعاتها الدموية والعنيفة، وفي إرباك السلم والحؤول دون اكتماله، وفي رفع وتيرة الكراهية والتعصّب والتقوقع في البؤر الضيّقة للطوائف والمذاهب والجماعات.

هذه كلّها قابلة لأن تكون ركائز درامية بحتة لحكايات سينمائية تكشف وتفضح وتعرّي، أو تسرد شيئًا من سِيَر الشخصيات ومسالكها وآليات تفكيرها واشتغالها، أو تُضيء على بعض المخفيّ منها، أو تُشكِّل مدخلاً إلى فهم البيئة الحاضنة لهذه الشخصية أو تلك، بكل ما تمتلكه البيئة وتعيشه وتُفكِّر به، أو تكون مدخلاً إلى أشياء أخرى كثيرة، تنفلش في متاهات البلد، ودهاليز مكوّناته، وألاعيب أطرافه المتحكّمة به وبناسه، وبشبكات علاقاته الكثيرة، إقليميًا ودوليًا.

هذه محاولة لنقاشٍ مستمرٍ حول العلاقات القائمة بين السينمائيين اللبنانيين وبلدهم وناسه، وتاريخ بلدهم ومحطّاته وتحوّلاته، وعلاقات اجتماعه وانقلاباتها وانقلابات اجتماعه أيضًا. سينمائيون لبنانيون كثيرون يواجهون سلطة الرفض والمنع والقمع، كي يحصّنوا حكايات البلد وناسه من كلّ "اغتيال" ممكن، وكي يحموا الذاكرة من كلّ اندثارٍ يجاهر بضرورة تطبيقه سياسيون وطائفيون وقبائليون، ويريده لبنانيون، يظنّون أن إغماض العين والتغاضي واللامبالاة كفيلةٌ بنسيان حربٍ ومتاعبها وأسئلتها الكثيرة الملتبسة والمعلّقة، أو بنسيان سلم يزداد هشاشة ونقصانًا واضطرابًا وضياعًا.

ربما لهذا يُصبح سؤال الغياب السينمائي عن الاغتيال السياسي مُشرّع ومطلوب، وإنْ يحتاج نتاجٌ سينمائي كهذا إلى إمكانيات أخرى، كالقدرة على بلوغ معطيات حقيقية ومعلومات واقعية مثلاً، مع أن للسينما مجالاً واسعًا لابتكار المتخيّل، انطلاقًا من وقائع معروفة وموثّقة، وإنْ تكن قليلة. إذْ ليس المطلوب نتاجات تتهم أو تتحامل أو تدّعي أو تتصنّع، بل أن تعكس شيئًا من نبض وواقع، ومن انفعال ولحظة، ومن هواجس ومخاوف وتأمّلات. فالسينما قادرةٌ، هنا أيضًا، على صنع "معجزات"، بصرية وجمالية، من ركائز بسيطة. وليس المطلوب نتاجًا ترويجيًا، ينطلق من تفاهة النزاعات الطائفية ـ المذهبية في لبنان، بل أعمالاً تنطلق من فعل الاغتيال السياسي ومكانة الشخصية المُغتالة في البلد وخارجه، كي تُروى فظائع الحرب الأهلية اللبنانية، وكي تُكشف أهوال السلم الهشّ والناقص، من جوانب أخرى متفرّقة.

 

جماليات

هذا لن يُلغي جماليات أفلام لبنانية عديدة، روائية ووثائقية، تنبثق من جرح الحرب والذاكرة المثقوبة والسلم المؤجّل، كما من "التباسات" الزمن السابق لاندلاع الحرب. لن يُلغي سجالية وثائقيات لبنانية تذهب إلى أقصى الجحيم اللبناني، كي تصنع شيئًا من صُوَره السينمائية، وبعض الصُوَر "مُستَفِزٌّ" لمن يريد النسيان والإلغاء والتشطيب على الذاكرة وخفاياها وأسئلتها المعلّقة. لن يُلغي مصداقية سينمائيين لبنانيين يستلّون أفلامهم من حكايات متناثرة هنا وهناك، لكنهم يبتعدون عن النسق الطائفي المذهبي الرخيص والمبتذل، ويُعيدون سرد أحوال وتفاصيل ومسارات ومصائر بلغة سينمائية متماسكة وجميلة وصادمة وحقيقية وشفّافة وصادقة، وإنْ يستعينون ـ أحيانًا ـ بنماذج منتمية إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة أو عائلة أو بيئة.

صحيحٌ أن تسمية شخصيات سينمائية في أفلام لبنانية بأسماء موحية بطائفة أو مذهب تواجه منعًا وقمعًا ورفضًا، تبدأ كلّها من جهاز الرقابة ولجانها المتنوّعة، وتكاد لا تنتهي عند لبنانيين طائفيين ومذهبيين وعنصريين ومنعزلين. وصحيحٌ أن كلّ إشارة إلى منطقةٍ أو جغرافية لبنانيةٍ تؤدّي، غالبًا، إلى حملات مسعورة "دفاعًا" عن تلك المنطقة أو هذه الجغرافية. فكلّ منطقة وجغرافية لها انتماء "يتوجّب" على الطائفيين والمذهبيين والعنصريين والمنعزلين الذود عنها بشتّى الوسائل الممكنة، وبعض تلك الوسائل الحؤول دون تشريحها وفضحها وكشف خفاياها، عبر السينما، وعبر أي أداة ثقافية أو فنية أو جمالية أو فكرية. لكن لذّة صناعة السينما (وغيرها من تلك الأدوات) كامنةٌ، من بين أمور عديدة، في اختراق الممنوع، وتعرية المحرّم، ومواجهة التحدّي، ورفض الرفض، وفضح ناسه. سينمائيون لبنانيون عديدون يُدركون هذا، ويمارسونه.

هذا جزءٌ من نقاشٍ متواضع، متأتٍ من براعة سينمائيين لبنانيين عديدين في مقاربة أحوالٍ ناتجة من بؤس الحرب، وشقاء السلم، وخراب الماضي، وارتباكات الحاضر. براعة في تفكيك بعض المحجوب، وفي تعرية بعض الممنوع، وفي فتح ملفات يُراد لها النسيان المطلق. فالملفات العالقة منذ زمن الحرب الأهلية اللبنانية (ومنذ ما قبل هذا الزمن أيضًا) كثيرة، وبعضها حاضرٌ في نتاجٍ سينمائي لبناني يوازن بين أهمية الموضوع وجمالية المعالجة والاشتغال. وأسئلة السلم الأهلي الهشّ والناقص كثيرة أيضًا، ومعظمها نابعٌ من الملفات العالقة من زمن الحرب نفسها، وبعضها ركائز درامية وفنية وإنسانية لنتاجٍ سينمائي لبناني مهمّ ومثير لمتعة المُشاهدة، ولجمالية النقاش والتفكير.

غير أن سؤال الاغتيال السياسي اللبناني، كجزءٍ من النزاعات الدموية العنيفة بين اللبنانيين أنفسهم، وبينهم وبين آخرين عديدين، يبقى أكثر الأسئلة ابتعادًا عن السينما وصانعيها.

 

*ناقد سينمائي لبناني من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.