ـ 1 ـ
يحضر السينمائيّ اللبناني الراحل مارون بغدادي في وجدان فرديّ وعام. ربع قرن على رحيله الصادم ـ إثر وقوعه في "مَنور" المبنى البيروتي الذي تعيش والدته فيه، وهو القائم في الحدّ الفاصل بين البيروتين خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) ـ لن يحول دون حضوره هذا، بل سيُساهم في تفعيله النفسي والروحي والفني والسينمائي والثقافي في أحوال كثيرين وتفكيرهم وأشكال رؤيتهم البلد والمدينة والناس والذاكرة والراهن. رحيلٌ قاسٍ في لحظة لبنانية مرتبكة، تحاول الخروج من حربٍ تبدو لاحقًا أنها معلّقة، وتسعى إلى سلامٍ تنكشف ـ فيما بعد ـ هشاشته المفرطة.
عمرٌ قصير (1950 ـ 1993)، لكنّه زاخرٌ بأعمالٍ يُثير بعضها سجالاً مفتوحًا على كيفية مقاربة الحكايات، وعلى جنسية الفيلم (أهي تابعةٌ للإنتاج أو للمخرج أو لمضمون القصّة أو للممثلين، إلخ)، وعلى معنى الحصول على تمويل أجنبي (وهو ـ حينها تحديدًا ـ سيكون أحد أسوأ التساؤلات المملّة التي تُلغي أهمية المقاربة وكيفية اشتغالها)، وعلى موقع صانعها في جيلٍ سينمائيّ لبنانيّ يتمرّد ـ في مرحلة (لبنانية وعربية) حسّاسة ومهمّة في السياسة والثقافة والاشتغالات المختلفة ـ على حالةٍ سينمائية سابقة لاندلاع الحرب الأهلية تلك، ويجتهد في تبديد كلّ مسافة بين الصورة الفنية والواقع اليوميّ. له، في صناعة الأفلام اللبنانية، باعٌ طويل في اشتغالٍ بصريّ يُبلور صورته وفقًا لمتطلّبات المتخيّل السينمائيّ. الروائي الطويل مُوزّع بين السينما والتلفزيون. الوثائقيّ مُتنقّلٌ بين التقليديّ والتجريبيّ، في محاولة جمالية لترتيب متتاليات بصرية ـ مُلتَقَطة من وقائع العيش في الموت والعنف والخراب ـ في سياق حكائيّ يستعين بالتوثيق كاختبارٍ للكاميرا في مواكبتها راهنًا وتفاصيل وحالات، ويكشف عبر المعالجة نتفًا من وقائع العيش في "بلد العسل والبخور" (كعنوان فيلمٍ له يُنجزه عام 1988). للروائي السينمائيّ مسارٌ ثقافي وجمالي وفني يُحرِّره، شيئًا فشيئًا، من طغيان الإيديولوجيا والثقل النضاليّ، دافعًا إياه إلى امتلاكٍ أعمق وأكبر وأجمل للسينما، من دون التخلّي عن قضايا الفرد والذات والعلاقة ببلدٍ ومدينةٍ وحربٍ، وأشياء هذا كلّه أيضًا.
حضور مارون بغدادي متأصّل في وجدان كثيرين، ومُنبثقٌ من أشياء عديدة: رحيله الصادم؛ موته الباكر؛ وسامته؛ غليان ذاته المنتقلة من مناخ بيروتيّ يُظلِّل النصف الأول من سبعينيات القرن الـ20، بما فيه من أسئلة الاجتماع والسياسة والثقافة والعلاقة بمحيط عربيّ وامتداد غربيّ، إلى فضاء الحرب وعناوينها وتبدّلاتها الخانقة، ثم الهجرة وتساؤلات المنفى والهوية والارتباط. أشياء أخرى تُفعِّل حضوره هذا: يساريته كمسيحي منتفضٍ على بيئة مولودٍ فيها، من دون انقطاع صارم عنها؛ ثوريته كشابٍ بورجوازيّ يطمح إلى فهم العالم ومساراته وحكاياته، فيلتقي أناسًا يكونون مداخل مؤثّرة وعملية له إلى عوالم غير عارفٍ بها؛ ثقافته الفرنكوفونية التي لن تحول دون توجّهٍ عربي يمتلك ثقافة وفنًّا وفكرًا سيغوص مارون بغدادي فيها كلّها إلى أقصى أعماقها.
حضورٌ كهذا يتأكّد مرة تلو أخرى، في مناسبات مختلفة. حكاية مروية في بداية القرن الـ21: طلابٌ يدرسون السينما في جامعة خاصّة في بيروت، غير مُكترثين كلّيًا بالسينما العربية. يحاول مُدرِّسهم إقناعهم بضرورة الالتفات، ولو قليلاً، إلى هذه الصناعة، فيسألهم متابعة نتاجات لبنانية على الأقلّ. يُصرّون على رفضٍ وإنْ يكن أخفّ من عدم اكتراثهم بالسينما العربية. الحلّ؟ يقول لهم بمُشاهدة أفلام مارون بغدادي ومناقشتها، فيوافقون سريعًا.
هذا ليس عابرًا. رغم أن ندوة مُقامة في الذكرى الـ5 لرحيله لن تجذب شبابًا وطلابًا ومهتمّين، إلّا أن الحكاية تعكس شيئًا من واقع لبناني يتعلّق بموقع السينمائيّ في الوجدان الفردي والعام. عرض "حروب صغيرة" (1982) في 4 سبتمبر/ أيلول 2018 في "دار النمر للفن والثقافة" (بيروت) تأكيدٌ إضافيّ على حضوره المختلف. صالتان صغيرتان (140 مقعدًا) تكتظّان براغبين في مشاهدة ثاني فيلم روائيّ طويل لبغدادي، بعد "بيروت يا بيروت" (1975)، الذي يُعرض في الدار نفسها في 11 سبتمبر/ أيلول 2018. كثيرون غير قادرين على مُشاهدته. بعضهم يعترف بفرحٍ إزاء اكتظاظ كهذا، رغم عدم تمكّنه من دخول إحدى الصالتين.
ـ 2 ـ
الحشد المتواضع انعكاسٌ لرغبة في عودة سينمائية إلى زمن الانقلابات والتمزّقات. رغبة في معاينة جانبٍ من أهوال الحروب اللبنانية، عبر عيني سينمائيّ يتفتّح وعيه الشبابيّ بالتزامن مع "نكسة حرب الأيام الـ6" (5 ـ 10 يونيو/ حزيران 1967)، و"ثورة الطلاب" في فرنسا (مايو/ أيار 1968)، وانتقال "الكفاح المسلّح الفلسطيني" من الأردن إلى لبنان (16 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 1970). رغبةٌ في استعادة زمن سينمائيّ يُتقن فنّ تحدّي المخاطر اللبنانية، ويؤكّد على صوابية اختيار الكاميرا التي "توثِّق" (روائيًا ووثائقيًا) اللحظات وتُحصِّن "الراهن" من كلّ اندثار ممكن. رغبةٌ في فهم شيء من سيرة شابٍ "يستبدّ به قلقٌ دفينٌ"، ويُقيم في تناقضٍ بين "حزن عميق يبرز في عينيه" و"احتفاء بالحياة وإقباله عليها" وتمكّنه البديع من "السخرية من أي كان ومع أي كان، ومن نفسه قبل الآخرين" ("الحلم المعلّق"، إبراهيم العريس، "دار الفارابي"، الطبعة الثانية، 2013، ص. 21).
شغفه بالحياة ـ الذي ربما يكون دافعًا إضافيًا إلى تفعيل حضوره وبلورته في وجدان فردي وعام ـ جزءٌ أساسي من ثلاثية تجعله يخطو خطواته الأولى على الطريق السينمائية "من دون أن يدري ربما"، إلى جانب وعيه الجديد بمحيطه، وبداية تراكم الصُوَر في مخيّلته ("جماليات القلق في أزمنة الالتباس والحروب"، ريما المسمار، الصحيفة اليومية اللبنانية "المستقبل"، 22 ديسمبر/ كانون الأول 2003).
حياة مشحونة بقلق يحرّضه على طرح الأسئلة، ويجعله غير مستكين أبدًا إلى أجوبة يراها دافعًا إلى مزيدٍ من التساؤل والتنقيب. قلقٌ تُسبِّبه، ربما، تحوّلات سريعة وصاخبة في بلدٍ ذاهبٍ بكلّيته إلى حربٍ تلتبس تعقيداتها بعد بدايات "توهّمِ" (والوهم جميل هنا) مُشاركين فيها بأنها أداة تغيير، وفعل مواجهةٍ مع متربّصين بالبلد وناسه. قلقٌ منبثقٌ من معاينته الحسّية أفكارًا تتصارع، ومشاريع تتواجه، وتفسيرات تتصادم، فالأعوام السابقة على اندلاع الحرب الأهلية (13 إبريل/ نيسان 1975) تضجّ بنقاشٍ سيكون مارون بغدادي مُشاركًا فعّالاً فيه، وإنْ في مرحلة من مراحله، بدءًا من دراسته العلوم السياسية والحقوق في "جامعة القدّيس يوسف" (بيروت) والنقاشات الطالبيّة الكثيرة والمتنوّعة، وصولاً إلى عمله في صحافة فرنكوفونية مكتوبة في بيروت، ثم انتقاله إلى "تلفزيون لبنان" وإنجازه تحقيقات تلفزيونية بالتعاون مع فؤاد نعيم. قلقٌ يُرافق صاحبه بانتقاله من جانبٍ إلى آخر في مدينة ستنقسم على حالها زمن الحرب، وستعيش تخبّطات وغليانًا قبل اندلاعها، مع ما يعنيه انتقالٌ كهذا من معرفة وإدراكٍ ووعي ثقافي وفني إضافي، سيُشكّل أرضية متينة لصنيعه السينمائيّ، ولتساؤلاته التي تبدو كأنها لن تنضب.
قلقٌ يبدو متوافقًا وحالة يُجمع عليها نقّادٌ ومشاهدون، ويؤكّدها العريس في كتابه نفسه: حالة رجل يركض، إلى درجة أن رحيله يأتي سريعًا، وأن سقوطه في "مَنور" المبنى المولود فيه قبل 43 عامًا ناتجٌ من ولعه بالركض، كأنه يُريد أن يسبق الزمن. في أفلامٍ عديدة له، تظهر شخصيات أساسية في حالة ركض: ثريا الراكضة بيأس وغضب وسط تربة بنّية اللون في سهل البقاع، ونبيل الراكض في أزقّة بيروت المدمَّرة (حروب صغيرة)؛ باتريك بيرو الراكض بين السيارات وهو معصوب العينين (خارج الحياة، 1991)؛ ميشال فوجور الراكض في الغابة قرب منزله، ونادين/ بريجيت الراكضة مع زوجها وصديقه بعد نزولهم من المروحية (اللقطة الأولى في بداية "فتاة الهواء" واللقطة الثانية في ختامه، وهو آخر فيلمٍ يُحقِّقه عام 1992): هؤلاء يركضون ليس لعبًا أو كردّة فعل إزاء نبأ سعيد، بل إنهم يركضون نحو مصيرهم، ونحو ذلك الهبوط إلى الجحيم الذي ينتهون إليه (الحلم المُعلّق"، ص. 17 ـ 18).
ـ 3 ـ
أهي مفارقة أم صدفة أم قدر؟
تساؤلات تستحيل الإجابة الشافية عنها. ففي 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1993، أي قبل 40 يومًا فقط على رحيله، يبوح مارون بغدادي بشيءٍ من ذاته لمرة أخيرة، في لقاء مع جمهور "المهرجان الدولي لسينما البحر المتوسّط في مونبيلييه" (فرنسا)، في دورته الـ15 (22 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1993). يقول إن مغادرته بيروت قبيل منتصف ثمانينيات القرن الـ20 ناتجةٌ من إحساس عميق لديه بأنه غير قادر على العيش فيها وعلى صنع سينما فيها. يقول شيئًا عن القلق (نفسه ربما) أيضًا: "في صُلب السينما التي أنجزتها في فرنسا، هناك القلق اللبناني الذي يتطوّر. ففي البداية، نطرح على أنفسنا أسئلة الهوية والانتماء الثقافي. ثم، شيئًا فشيئًا، يُصبح لدينا عيش يوميًا في البلد الذي نُقيم فيه، وهو عيشٌ يستدعي طرح أسئلة أخرى".
هذا بوحٌ أخير. هذا نوعٌ من قراءة عميقة ومهمّة لسينمائيّ يعتبر بيروت "قبلة نظره"، ويرى فيها "بداية الأشياء"، قبل أن يُدرك "عبر الحرب وعمله السينمائيّ أنها لم تكن في زمن جيله سوى نهاية الأشياء والخواتم غير السعيدة لكلّ ما كُتب وقيل في معرض مدحها" ("وجوه الناس وحسب..."، محمد سويد، ملحق أسبوعي صادر عن الصحيفة اليومية اللبنانية "النهار"، 12 مارس/ آذار 1994). يُضيف سويد أنّ بيروت، بالنسبة إلى الآخرين، "لؤلؤة شرق ونقطة تلاقٍ مع الغرب"، لكنها بالنسبة إلى بغدادي (بحسب صديقه الناقد الراحل سمير نصري) "خان مسافرين"، علمًا أنه يجد نفسه "مسحورًا بمقاهيها وغرابة أسمائها وألفة أمكنتها القليلة".
فهو، في "بيروت يا بيروت" و"حروب صغيرة" و"خارج الحياة" مثلاً سيلتقط لها صُورًا كثيرة، بعضها (كما في فيلمه الأول) سيكون آخر "الصُوَر الجميلة" لمدينةٍ ستغرق في حربٍ أهلية، وستعيش جحيم الموت والخراب أعوامًا عديدة. فيها، تتّخذ المدينة أشكالاً متنوّعة، وتبحث عن معنى الحياة والموت، وعن معنى الحرب وتفاصيل تصنع شيئًا من تاريخها وتُدمّره في آن واحد، وعن مناخاتٍ تبتكر أنماط تعبيرها المتنوّع قبل عام 1975. لاحقًا، تتحوّل المدينة إلى عصبيّات وانهزامات قاتلة، كأنها في أفلامه تروي أو تحاول أن تروي شيئًا من نفسها وانكساراتها وخيباتها وتبدّلاتها التي تسحق وتُلغي وتُدمِّر.
ورغم أنها تظهر في أفلام أخرى له، باستثناء "مارا" (1989) الذي يتناول إحدى شخصيات الثورة الفرنسية، و"بطيئًا.. بطيئًا في الريح" أو "الفزّاعة" (1990) المنتمي إلى "السيكولوجيا السوداء"، و"فتاة الهواء" (1991) المستلّ من قصة فرنسية حقيقية؛ إلّا أنها ـ في هذه الأفلام الـ3 تحديدًا ـ تظهر في شكلين اثنين: المدينة كجغرافيا (مبانٍ، شوارع، مقاهٍ، أزقّة، فضاءات، إلخ)، والمدينة بروحها ومناخاتها ومتاهاتها. التغيير الطارئ على شكل المدينة قبل حربها (بيروت يا بيروت) وأثناءها (حروب صغيرة، خارج الحياة) هو نفسه الذي ينقل المدينة من سؤال "المعنى النضالي" للمجتمع وسلوك الناس (عشية اندلاع الحرب) إلى إفرازات تلك الحرب: خرابٌ يُصيب حجرًا وبشرًا، ودمار يُهشِّم ذاتًا ونفوسًا وشوارع وأرواحًا.
في نهاية كل واحد من الأفلام الـ3 تلك، يترك السينمائيّ مشاهديها مُعلّقين بين وهم وحقيقة، وضائعين مع شخصيات وسط خراب ومواجع وتمزّقات. في "بيروت يا بيروت"، تجد الشخصيات نفسها في سقوطٍ مدوٍّ بسبب خيبة أو انكسار؛ وفي "حروب صغيرة"، تظهر أنقاض المدينة التي تُشبه أشباحًا طالعة من ذاكرة أو واقع، لترسم ظلال موتٍ دائم وخوفٍ دائم وعجزٍ دائم عن العثور على أجوبة؛ وفي "خارج الحياة"، تدور الكاميرا في فراغ المدينة على رنين هاتف، كأن المدينة بهذا التكثيف الدرامي والجماليّ تتحوّل إلى أخرى أقسى منها، موحشة ومُصابة بداء بغيض يُفرغها من ذاتها وناسها، في رحلةٍ كأنها "سقوطٌ إلى الجحيم".
ـ 4 ـ
لن تنتهي التساؤلات. حضور مارون بغدادي طاغٍ في نتاجٍ سينمائيّ لبنانيّ يُريد "مصالحة" الكاميرا مع وقائع مدينة وناسٍ وحكايات، ومع أحلامٍ معطّلة أيضًا. علاقته ببيروت جزءٌ من هواجسه الكثيرة وأسئلته الكثيرة ومخاوفه الكثيرة. مشروعه الأخير "زوايا" (سيناريو لم يكتمل، مكتوب مع الروائيّ اللبناني حسن داود، تُصدره "دار الفارابي" في بيروت ككتاب مستقلّ عام 2013) يطمح إلى "مُصالحةٍ" بين بغدادي وذاته، وبينه وبين المدينة والبلد.
غير أن سؤالاً يُطرح: تُرى، كيف كان مارون بغدادي سيُصوِّر "عودته" إلى المدينة ومحاولته إجراء مُصالحة معها؟ كيف سيُصوِّر هذا كلّه مع مدينة ووطن غائبٍ عنهما طوال 10 أعوام؟
يبدو واضحًا أن الإجابات ستبقى معلّقة، فهي أشبه بمتاهاتٍ "يتفنّن" السينمائيّ بإدخالنا فيها وهو يُحقِّق أفلامًا مستلّة من علاقته العميقة ببيروت. إجابات معلّقة وبلدٍ معلِّق وأحلامٌ مُعلّقة ومدينة مفتوحة على التباساتٍ وارتباكات، لن يتمكّن السينمائيّ من تقديم شيء منها على الأقلّ، فحياته "لم تكتمل"، تمامًا كذاك السيناريو الأخير.
*ناقد سينمائي من "أسرة "العربي الجديد"