}

ألبرتو جياكوميتي: كيف صوّر قُبْحَ الكائن وهشاشته الوجودية؟

أشرف الحساني 26 يوليه 2020
تشكيل ألبرتو جياكوميتي: كيف صوّر قُبْحَ الكائن وهشاشته الوجودية؟
ألبرتو جياكوميتي (1901م - 1966م)
يُشكّل النحات السويسري ألبرتو جياكوميتي (1966-1901) ظاهرة فنية ملفتة داخل الفنّ المعاصر وعلامة فارقة في تاريخ النحت خلال القرن العشرين، مكانة لا يُجابهه فيها إلاّ رودان وبرانكوزي وغيرهما ممن جعلوا من فنّ النحت امتدادًا عميقًا للحياة اليومية في أوروبا خلال القرن العشرين، أمام شظف العيش وقهر الجغرافيا، في مُحاولة تخليص فنّ النحت من طابعه التصويري الذي طبعه خلال عصر النهضة، بحيث أنّ التجارب التي ظهرت في ذلك الإبان، لم تكن صادقة بشكل كبير في تمثيل الإنسان أو بالأحرى في تصوير غُبنه وقلقه ومشاعره الداخلية، تجاه واقع لا يُطاق سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا. هكذا جاءت أعمال جياكوميتي العميقة بعد الحرب العالمية الثانية، لتعمل على تحرير الإنسان من فظاعة الحرب ومأساتها، بل وتزج به هذه المرة في فضاءات عنيفة وسراديب معتمة داخل الجسد البشري، هذا الأخير، لدى جياكوميتي، هو بمثابة مختبر حقيقي لامتحان الأفكار والتصورات، قبل الشروع في خلقها وتشكيل تضاريسها على أجساد منحوتاته، التي ما هي في الحقيقة سوى تصوّر دقيق من الداخل لطبيعة النفس البشرية ولما آلت إليه الأوضاع في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، التي وجد الإنسان فيها نفسه مُشردًا وضعيفًا ومهزومًا من لدن القوى الرأسمالية والإمبريالية التي بزغت منذ أواخر القرن التاسع عشر.

منحوتات وبورتريهات عائلية وشخصية، ظلّت تُصوّر مصير الكائن وجرحه، انطلاقًا من أجساد نحيفة لنساء ورجال كثر، وكأن الفنّان بهذا التمثيل الجديد الذي يعجنه بين أصابعه يعمل على تعذيب شخصياته ويرسم لها حياة أخرى أكثر جحيمًا، إنه يُعذب أجسادهم من خلال تقشير ملامح جمالهم الطبيعي ليتراكم في عريهم الأزلي، إنه بذلك يمحو معهم المفهوم الكلاسيكي للجمال، كما تبلور عند كانط في كون أنّ الجمال لا يرتبط في حدّ ذاته بقدر ما يتصل بالعين التي تراه، وهو خطاب موجه بالأساس لتكسير مفهوم التمثّل الذي سينهار في الفنّ المعاصر، ويتم الرهان على مفاهيم جمالية من قبيل: "القبيح" و"الهجين" و"البدائي" وغيرها من المفاهيم النظرية، التي احتكمت إليها بعض تجارب الفنّ الحديث والكثير من الأسماء التي مثلّت الفنّ المعاصر، سواء داخل التشكيل أو حتى النحت، الذي لم يسلم من هذا التأثير مع جياكوميتي، الذي أصبح معه مفهوم "القبيح" في مقدمة برنامجه، مع العلم أن هذا المفهوم في تجربته يأخذ أبعادًا أنطولوجية وفكرية ولا يتنزل فقط منزلة صنعة أو توليف جماليّ.



في معرضه الجديد بباريس، الذي تُنظمه "مؤسسة جياكوميتي" بعنوان "الرجل الذي يمشي.. أيقونة فنّ القرن العشرين" من 4 يوليو/ تموز الحالي إلى غاية 29 منه، يتبدى جيدًا حجم هذه المفاهيم الجمالية ومدى تأثيرها في بنية النحت المعاصر عبر العالم، بل وفي قدرة منحوتته البرونزية "رجل يمشي" على الاستيطان في مخيال الناس لسنوات، بوصفها التعبير الصادق والصرخة الأخيرة عن بشاعة الحرب وميثولوجيتها في الغرب، إذْ لم يعُد هناك شيء سوى المشي والرحيل صوب مُستنقعات آسنة لمستقبل مُظلم لا متناهٍ من العدم. منحوتة واحدة كانت كافية لقلب التفكير الجمالي الغربي ولفت انتباه العالم إليه، هو الذي ظلّ لسنوات مديدة يقبع في مرسمه دون أنْ يعرفه أحد، مُجسدًا هشاشة الكائن وغرائبيته داخل وطنه.





من ثم بدت أعمال جياكوميتي لمن لا يعرفها وكأنها تُمثّل ذلك الجرح الخفيّ للإنسان ومأساته الوجودية، سيعمل من خلالها لاحقًا وعلى مدار 40 سنة من عزلته في باريس على ترميم حياة هؤلاء البؤساء والمنكوبين الذين يُعاينهم يوميًا في الشوارع والممرات، عبر وجوه وأجساد عنيفة مُشوهة مستقاة من ليل باريس وحاناته، التي دأب عليها جياكوميتي لقضاء ساعات طويلة منها هناك، قبل أنْ يعود إلى المنزل ويُباشر عمله ليلًا على شخصيات تُشبهه في عزلته ووحدته وبؤسه وشقائه. إنّ منحوتته الشهيرة "رجل يمشي" ظلّت لسنوات تحتل واجهة الكثير من المعارض الفنية، التي نظمتها "مؤسسة جياكوميتي"، باعتبارها العمل الفني الأكثر تأثيرًا في فرنسا خلال القرن العشرين، فهو يجسد رجلًا نحيفًا يمشي مُنكّبًا على ظهره، وحتى في منحوتاته الأخرى عمل على تمثيل مجموعة من الرجال ووسطهم امرأة، يمشون بدون أنْ يكلم واحدًا الآخر، كأنه بذلك يحتفي ببلاغة صمت ساخر ومأساوي سيطبع العالم بعد الحرب العالمية الثانية. غير أنّ المُلفت للنظر هو أنّ شخصيات جياكوميتي ما هي سوى أجساد نحيفة خالية من الروح، إنه يروم تجسيد الجسد خاليًا من المادة وتمثيل وجوه قبيحة بدل الملامح جميلة، فقد كان جياكوميتي واعيًا بهذا القلب الجمالي، الذي يُحدثه في ذلك الإبان في مسيرته الإبداعية، فالرجل لم يلتفت إلى أفريقيا كما هو الشأن مع برانكوزي ليجسد بعضًا من آلهتها كما هو الشأن في إحدى منحوتاته الشهيرة، لأنه لم يكن عليه إلاّ التحديق مرارًا في واقعه ليفهم علة وجوده ومرارة واقعه، أمام تنامي رأسمالية تكاد تجعل من الإنسان عبدًا لها.

 منحوتة ألبرتو جياكوميتي.. الرجل الذي يمشي ضد واقعه 




















من جهة أخرى، فإننا نرى مدى تحرّر منحوتاته من أيّ أيديولوجية مُسبقة، فهو لا تهمه السياسات ولا الرسائل الفنية ولا الحروب، إلاّ بما تُحدثه من جرح وجوديّ غائر في جسد الإنسان، لذلك ظلّت أعماله تُشكّل مادة خصبة للفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر ثم للكاتب جان جينيه، الذي كتب عنه كتابًا، يعد اليوم في طليعة الكتب النقدية التي تناولت وشرّحت أعمال جياكوميتي، بحكم ما تُتيحه من أفكار وتصورات وتمثلات عن قلق الوجودية والعدم، باتت شعار مرحلة بعد الحرب، وجعلته في السنوات الأخيرة يُصنف من لدن النقاد بوصفه وجوديًا مع سارتر، الذي كتب عنه هو الآخر مقالة لامعة عن هسيس الوجودية في أعماله ومدى قدرته على التحرّر من مفهوم المادة داخل منحوتاته، الذي طبع جيلًا بأكمله، فهو يُمثّل الأجساد لا الأجسام، الفراغات لا الملامح، العدم لا الوجود، العابر والزائر لا المُقيم والثابت، الرحيل لا الاستقرار، الموت لا الحياة، الفراغ لا الامتلاء، العنف لا السلم وغيرها من المفاهيم الأنطولوجية التي تجد تبريرها في طبيعة الحياة الجديدة للمجتمعات الغربية وفراغها بعد الحرب العالمية الثانية.
*ناقد مغربي






# فيلم وثائقي عن النحات ألبرتو جياكوميتي: 


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.