}

على مسارح النيوليبرالية.. كايروكي تُغني للفُقراء

أحمد عبد الحليم 24 يوليه 2021
موسيقى على مسارح النيوليبرالية.. كايروكي تُغني للفُقراء
فرقة كايروكي
المكان ساقية الصاوي بالقاهرة، والزمان في نيسان/ أبريل من عام 2017. كنت وأصدقائي قد ذهبنا إلى حفل فرقة كايروكي، وقد غنّينا، كجمهور، معها، الكلمات التي تُعيد لنا روح ثورة يناير 2011، أمنيات العدالة والمساواة والحرية والكرامة، بعد أن تحطّمت ومُحي أثرها بواسطة نظام ما بعد يوليو 2013. كان ثمن تذكرة الحفل يومها 65 جنيهًا مصريًا، أي 4 دولارات تقريبًا، وهو مبلغ مناسب للطبقة المادية المُتوسطة فما فوقها. أما تذاكر حفلاتهم الآن، آخر حفلة لهم، من 400 إلى 700 جنيه مصري، أي من 25 إلى 40 دولارًا أميركيًا، في بلدٍ يعيش أكثر من 30 مليون إنسان تحت خط الفقر المدقّع، أي أن دخلهم الشهري أقل 800 جنيه مصري (أقل من 50 دولارًا). هذا ما أدى بديهيًّا إلى امتناع الطبقات الدنيا والمتوسطة ماديًا عن حضور تلك الحفلات، واقتصار الحضور على فئاتٍ ماديّة متوسطةٍ وعُليا.
تُعد أغاني كايروكي، وما زالت، لكلّ الطبقات والفئات، خاصة الفئات المُهمشة والمُضطهدة في شقيّ العدالة الاجتماعية والحريّة. أيضًا، من عام 2011 إلى وقتنا الحالي، مرّت الأغنية الكايروكيّة بتحوّلاتٍ، طبقًا لتغيرات مُجتمعية وسياسيّة. نحاول هنا تبيان مدى هذه التحولات وأشكالها، مع فهم كيفية تماهي الفرقة مع النيوليبرالية بشأن حفلاتها؟ وهل يؤثر هذا التماهي على رسالة الفن؟



الثورة والسياسة والإنسان
ارتبطت أغاني فرقة كايروكي، كواحدة من ضمن فِرق ما يُعرف بالأندر جراوند underground، بثورة يناير المصرية عام 2011، حيث ذاع صيت أغانيها، لا سيّما أغنيتي "يا الميدان"، و"صوت الحرية"، التي تم تصويرها في ميدان التحرير خلال أيام الثورة، ومن ثم جرى بثّها يوم 10 فبراير قبل تنحي حسني مُبارك بيومٍ واحد. بعد ذلك، أنتج الفريق أغان عديدة في الشهور التي تلت الثورة، تزامنًا مع الأحداث الساخنة التي ملأت الشوارع، من موجات ثورية، واشتباكاتٍ، وقتلى، ومُصابين، وقرارات، وصراعٍ بين الحركات السياسية والمجلس العسكري.




تنوعت تلك الأغاني بين عامي 2011 إلى 2013 بين الإصرار والمُطالبة والرثاء والهجاء، مثل أغنيّة "مطلوب زعيم" 2011، بعد تنحي مُبارك، والذي تحدث فيها أمير عيد، مُطرب ومؤلف الفريق، عن تمنّيات المصريين بقدوم زعيم ورئيس مصري، يجلب الحرية والكرامة والعدالة، كما أغنية "اثبت مكانك" في العام نفسه، التي حيّا فيها الثوار الأبطال، وحثّهم على الثبات حتى تتحقق مطالب ثورتهم. بعد أن فعّل المجلس العسكري بَطشه بالثوار المُعارضين لسياساته وقراراته أواخر عام 2011 وبدايات عام 2012، في مجازر عدّة أشهرها محمد محمود، ومجلس الوزراء، واستاد بورسعيد. غنّى أمير عيد برفقة مغنى الراب زاب ثروت، أغنية "حقي"، ورثَا فيها شهداء هذه المجازر، مع الوعد بالقصاص لهم من قاتليهم، بالتوازي مع عمل الفرقة أيضًا على إعادة غناء التراث الشعري من القرن الماضي، مثل قصيدة الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي "أحزان عادية"، التي لحنها وغنّتها الفرقة تحت اسم "إحنا الشعب"، وقصيدة الراحل أحمد فؤاد نجم "الخط ده خطي"، لتُلحنها وتُغنّيها الفرقة تحت الاسم نفسه.
من عام 2013 إلى عام 2016، بعد أن تغيّر نظام الحكم، وبيّن النظام الجديد وجهه القمعي للجميع، من خلال إلقائه بآلاف المعارضين في السجون، وتكميمه لأفواه النشطاء، بالإضافة إلى تجميد الحياة الحزبية والسياسيّة، لم يتغيّر رد فعل الفرقة، وقد عبّرت عن غضبها ممّا حدث، وغنّت في ألبومها السكة شمال عام 2014، بضع أغان غاضبة من سياسات النظام، مثل أغنية "ياما في الحبس مظاليم"، وأغنية "ناس بترقص وناس بتموت"، وأغنية "حرية"، بالإضافة إلى أغنية "التلفزيون"، التي سخرت فيها من التطبيل الإعلامي للسلطة، ومن التفاهة الفنية المُقدمة عام 2015.
عام 2017، أصدرت الفرقة ألبوم "نقطة بيضا"، وقد تميّز هذا الألبوم بكلماته الباحثة عن الذات، والتي وجّهت النقد إلى المجتمع والأخلاق أكثر من ممارسات النظام القمعيّة، مثل أغنية "نقطة بيضا"، وأغنية "هُدنة"، التي سردت الصراع والحيرة بين الإنسان وضميره، في وجوب نقد الباطل والظلم، والدفاع عن الحق، وهذا بالطبع مفهوم، فقد أرسى وقتها النظام السياسي مراكبه واستقر، وبرزت في المُجتمع ظواهر التيه والفردانية وإشكاليات الأخلاق، وسؤال التيه لدى شباب الثورة الخاسر والمُحبَط ممّا جرى، هذا أيضًا لم يمنع الفرقة من إصدار أغنية "الديناصور"، وهي أغنية سياسيّة بامتياز انتقدت نظام الحكم ومُمارساته بحق المُجتمع.
كذلك كان ألبوم "البطة السودا" عام 2019، جَمع بين الاجتماع والسياسة والرومانسيّة، قد ناقش أزمة المُجتمع وإشكالية الطبقة العُليا من حيث نِفاقها الأخلاقي، مثل أغنية "كان لك معايا"، وأُخرى باسم "أنا الصوت"، التي عبّرت عن أزمة السجين السياسي مع المُجتمع. هذه التحولات المشاعريّة التي مرّت بها الفرقة من وقت الحماس والتحريض ناحية الثورة، والمطالبة بالقصاص للشهداء، ومحاسبة القتلة، حتى المزج بين إشكاليات الأخلاق والمجتمع والسياسة في مصر، مفهومة وطبيعية، بل وذكية ومُبدعة لمواكبة ما يدور في ضمائر وعقول الناس للتعبير عنه في شكل فنّي مُبدع.



الفن والنيوليبرالية
يفقد الفن معناه ورسالته، عندما تتحكّم النيوليبرالية وأدواتها في صناعته وترويجه، لأن هدفها الأول والوحيد من صناعته وإعادة ترويجه هو الربح، لذلك تقوم الشركات الراعية، أو المنظمة للحفلات، بوضع أسعار تذاكر باهظة الثمن، وفي أماكن لا تتمتّع بمشاعريّة تتناسب مع الفنّ المُقدم، فحفلات الفرقة التي خرجت من ساقية الصاوي، وهو مركز ثقافي خاص بالندوات الشعرية والأمَاسي الطربية ومجالاتٍ فنّية أُخرى، إلى المولات والقاعات السياحية الفاخرة المُخصصة من الأساس للاستهلاك المادي، أفقدتها مضمونها الفني، لتصبح كأي حفلة استهلاكيّة يحضرها الجمهور من أجل التسلية فقط. ليس معقولًا أن تُغني للفقراء وحياتهم ومآسيهم وظلمهم الدائم من قبل أنظمة الحكم في مولٍ فاخر، لم يروه من قبل، ولن يستطيعوا دخوله بسبب فقرهم، وعدم امتلاكهم ثمن التذكرة الباهظ.




كان على الفرقة أخذ الاعتبار في هذا التحول في سوق صناعة الحفلات، ومحاولة تحديد ثمن أقل سعرًا للتذكرة بالاتفاق والضغط على المُنظم، لتمكين الطبقتين الدنيا والوسطى من الحضور، فضلًا عن اختيار الأماكن المُخصصة لنوعية الحفلات التي تقدمها كايروكي، كَساقية الصاوي، بعيدًا عن أماكن الترف والاستهلاك المُنتقدة وبشدّة في كثير من أغانيها، حيث دارت جلّ كلماتها حول الظلم الذي يتعرض له الفقراء في مصر، في مقابل ازدياد الطبقة العُليا الجشعة المنافقة للسلطة في ثرائها على حسابهم، بالإضافة إلى حشو كلماتها بكثيرٍ من مناضلي اليساري، مثل غيفارا وكاسترو.
مؤخرًا، ظهرت هذه الازدواجية من قِبل مُطربي المهرجانات الشعبية في مصر، أشهرهم عمر كمال، وحمو بيكا، وحسن شاكوش، الذين يُصرحون دائمًا، لا سيما وقت إشكالياتهم مع نقابة الموسيقيين، أنّهم يغنون للفقراء، وباسم الطبقات الشعبية في مصر، وهذه بالكاد كانت حقيقة، إلّا أنّهم وبفضل النيوليبرالية، أصبحوا مطربي الطبقات العُليا بامتياز، حيث يُجلبون دائمًا للغناء في أفراح رجال الأعمال والفنانين ولاعبي الكرة، والطبقات الأفحش ثراءً، بالإضافة إلى حفلات القرى السياحيّة، في الساحل الشمالي، وشرم الشيخ، والجونة، وغيرها من مصايف مِصر التي لا تذهب إليها الطبقة الشعبية الفقيرة، مع الفارق طبعًا بينهم وبين فرقة كـ كايروكي، التي ما زال فنّها يُعارض السلطة ويقدّم الحقيقة وينتقد الواقع البائس، عكس مطربي المهرجانات المُتوددينَ للنظام والداعمين الدائمينَ لسياساته عبر فيديوهاتهم وتصريحاتهم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.